مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تركيا قوة عالمية صاعدة.. مُجدّدا

في ظرف 10 أعوام، نجح حزب العدالة التنمية بقيادة رجب طيب أردوغان (الصورة) في وضع تركيا في المرتبة 17 ضمن أكبر اقتصادات العالم. Keystone

كيف يبدو المشهد الشرق أوسطي العربي والدولي من النافذة التركية؟

إنه على عكس كل ما هو سائد في هذه المنطقة المضطربة، بدلاً من التشاؤم الشامل، هناك التفاؤل الكامل وبدلاً من الإحباط واهتزاز التوازن النفسي، هناك ارتفاع هائل في المعنويات وثقة مكينة بالنفس وبالقُدرة على التأثير والتغيير.

ثم، بدلاً من العيش في إسار الماضي، هناك رغْبة شغوفة وتوجّه طموح إلى إعادة بناء هذا الماضي على أسُس هوية جديدة وحديثة، يرفض “الأتراك الجُدد” تسميتها بـ “العثمانية الجديدة”، لكنها كذلك.

تركيا ببساطة، تعيش هذه الأيام ما يطلق عليه العديد من كبار المسؤولين والباحثين والأكاديميين، الذين التقيناهم هذه الأيام في أنقرة “الثورة الهادئة”. ثورة على ماذا؟ على 100 عام من الانكفاء عن العالم العربي والإسلامي، ومن العيش في ظل دول كبرى تحت شعار كمال أتاتورك الشهير في ثماثينيات القرن العشرين: “سلام في الداخل، سلام في الخارج”.

أجل. تركيا حزب العدالة التنمية، الذي وضع تركيا في المرتبة 17 من بين أكبر اقتصادات العالم ورفع الدخل السنوي الفردي خلال خمس سنوات من 2500 دولار إلى نحو 12 ألف دولار، تريد أيضاً السلامين، الداخلي والخارجي، وتضعهما على رأس أولوياتها، لكن ليس بأي ثمن.

إنها تريدهما هذه المرة، كي يكونا جِسراً إلى موقع الدولة الكبرى مجدّدا، وهذا، إضافة إلى يقظة الجانب الحضاري – الثقافي الإسلامي، في الهوية القومية التركية، جعلها تندفع بقوة الصاروخ نحو التركيز على الشرق الأوسط وبقية العالم الإسلامي، لقناعتها بأنهما سيحوِّلان تركيا من شحّاذ يطرق أبواب الاتحاد الأوروبي من دون جدوى، إلى قوة دولية كبرى، لا غِنى عنها لأوروبا والتوازنات العالمية.

واشنطن (رويترز) – يعتزم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الضغط على الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاتخاذ إجراء أكثر قوة بشأن سوريا، خلال زيارة يقوم بها لواشنطن هذا الأسبوع بعد أيام من تفجيرات في بلدة تركية حدودية، اعتبرت أكثر أعمال العنف دموية عبر الحدود حتى الآن.

وكانت التفجيرات في ريحانلي، التي سقط فيها 50 قتيلا يوم السبت 11 مايو وتقارير نشطاء عن مذبحة لمسلمين سُنة في بلدة ساحلية سورية قد أغضبت أردوغان، الذي ينتقد بالفعل تباطؤ رد الفعل الدولي على الصراع الدائر في سوريا.

وسيتصدر خطر امتداد العنف الدائر في سوريا إلى تركيا جدول أعمال محادثات أردوغان وأوباما يوم الخميس 16 مايو، لكن اللقاء الشامل مع أحد حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، من المتوقع أن يتضمن كذلك المصالحة الوليدة بين تركيا وإسرائيل وعلاقات تركيا التي تزداد عُمقا في مجال الطاقة مع إقليم كردستان العراق شِبه المستقل.

وكانت تركيا ألقت بثقلها وراء الانتفاضة الدائرة منذ عامين ضد حكم الرئيس السوري بشار الأسد وسمحت للمعارضين بالتنظيم على أراضيها وآوت نحو 400 ألف لاجئ سوري. لكن أنقرة مستاءة من أن الغرب يمتدح أفعالها، في حين لا يقدم ما يذكر فيما يتعلق بالدعم الملموس.

وقال اردوغان للصحفيين قبل أن يستقل الطائرة متجها إلى واشنطن “بالطبع سوريا ستكون ضمن الموضوعات الرئيسية التي سنناقشها… سنضع خارطة طريق. تركيا تضرّرت اكثر من أي دولة أخرى”.

وجاءت تفجيرات يوم السبت في شوارع تسوق مزدحمة وألقت أنقرة باللوم فيها على “منظمة إرهابية ماركسية قديمة” على صلة مباشرة بحكومة الأسد لتجسد المخاوف من أن يمتد العنف في سوريا إلى الأراضي التركية.

وتعتبر واشنطن تركيا التي تمتد حدودها المشتركة مع سوريا مسافة نحو 900 كيلومتر وصاحبة ثاني أكبر جيش في حلف شمال الاطلسي، عاملا اساسيا في التخطيط لسوريا ما بعد الأسد. ومن المتوقع أن تضغط للحصول على مساعدة اردوغان في ترتيب مؤتمر سلام مقترح تدعمه روسيا كذلك.

وقال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إنه يتوقع أن يعقد المؤتمر في أوائل يونيو، على الرغم من أن قادة غربيين منهم أوباما، كانوا قللوا من شأن توقعات بأن يهدأ قريبا الصراع السوري الذي تُفيد تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره لندن، انه قتل ما يزيد على 94 الف شخص.

وقالت حكومة الأسد إنها تريد الاطلاع على التفاصيل قبل أن تقرر ما إذا كانت ستشارك، في حين قال تحالف المعارضة الرئيسي في سوريا انه سيجتمع في اسطنبول يوم 23 مايو لتحديد ما إذا كان سيحضر المؤتمر.

وقال مسؤول حكومي تركي بارز “هدفنا هو ضمان أن يسلّم الأسد الحكم لسلطة انتقالية. نأمل أن يكون ما سيعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وكيري، متماشيا مع هذا الهدف”.

وتدعو تركيا منذ فترة طويلة إلى فرض منطقة حظر طيران، لتوفير مناطق آمنة داخل سوريا، لكن الفكرة لم تحظ بتأييد يذكر بين الحلفاء الغربيين. وتقول تركيا منذ ذلك الحين إنها تفضل تقديم دعم أكبر للمعارضين عن التدخل العسكري، غير أن بعض المسؤولين الأتراك قالوا إن فكرة فرض منطقة حظر طيران قد تطرح من جديد.

ومن المتوقع ان يبحث اردوغان وأوباما ما إذا كانت هناك أدلّة على استخدام قوات الأسد أسلحة كيماوية، وهو ما قال أوباما انه سيكون “خطا أحمر”، فضلا عن بحث دور أمريكي أكبر في الصراع.

وتفحص تركيا عيّنات دم من الضحايا، قال وزير الخارجية أحمد داود أوغلو عنها الاسبوع الماضي، انها أشارت إلى استخدام سلاح كيماوي. ويرافق داود أوغلو اردوغان في زيارته لواشنطن.

وقالت واشنطن في الأسابيع القليلة الماضية إنها تعيد النظر في موقفها المعارض منذ فترة طويلة لتسليح المعارضين، لكن لم يرد أي ذكر لمتى يمكن ان يتخذ مثل هذا القرار.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 15 مايو 2013).

هوية جديدة

آثار أقدام هذه الاندفاعة مُبَعثّـرة في كل مكان في أنقرة واسطنبول:

– في الهوية التركية الجديدة، التي تستولد الآن تحت شعار “الديمقراطية والمحافظة”، حيث تعبير المحافظة يعني ضمناً الإرث والقيم الحضارية الإسلامية، وحيث الديمقراطية توفّر صيغة جديدة للخروج من إسار القومية الطورانية المتطرّفة، إلى رحاب هوية تركية عثمانية جديدة، تستوعب كل مكونات الأمة: من الأكراد إلى العرب ومن المسلمين إلى المسيحيين ومن السُنّة إلى الشيعة والعلويين.

– في مراكز الأبحاث التي نبتت كالفِطر خلال السنوات الـ 11 الأخيرة من حُكم العدالة والتنمية (20 مركزاً جديداً تتضمّن كلها نشاطات فكرية واستراتيجية وسياسية واقتصادية في العالم العربي).

– في الثورة الحقيقية في وكالة أنباء الأناضول، التي يخطط لها الآن لتنافس رويترز وفرانس برس وأسوشيتيدبرس في المنطقة العربية والعالم خلال السنوات الخمس المقبلة، هذا علاوة على العمل الكثيف في الإعلام المرئي ووسائط التواصل الاجتماعي باللغة العربية.

– في المسلسلات التلفزيونية التركية التي هيْمنت على المناخات الشعبية في مُعظم أرجاء المنطقة العربية وأعادت بعث الشخصية التركية التاريخية (الإيجابية) في الذاكرة الجماعية العربية.

– وفوق هذا وذاك، في قناعة القيادة التركية بأن النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط في حالة انحسار أو على الأقل تقنين، بعد حربي العراق وأفغانستان، وأنه يتعيّن على تركيا أن تتحرك بسرعة فائقة لملء قِسط كبير من هذا الفراغ.

هل تنجح؟

هل تنجح هذه المغامرة الكبرى التركية؟ حتى الآن، يبدو أن الأمر كذلك. فنفوذ تركيا بين السلطات الإسلامية الجديدة في مصر وتونس والمغرب وليبيا، جعل “القوة الناعمة” التركية الأقوى في هذه الدول. و”الانتشار” الاقتصادي التركي الكثيف، يقوم برقصة فالس ثنائية ناجحة مع الانتِشار السياسي والثفافي التركي. كما أن تركيا ستكون أحد الأطراف الرئيسية التي ستحدّد مصائر الكيانات السياسية في العراق وسوريا ولبنان، سواء كان هناك تقسيم لهذه الدول أم لا.

بيد أن العامل الرئيسي في هذه المغامرة، سيبقى “المُعجزة الاقتصادية”، التي سيُحدّد استمرارها أو ارتِكاسها، رحلة تركيا الجديدة نحو مرتبة الدول الكبرى مجددا.

“الدولة الحكيمة”

حين وقعت مذبحة بلدة ريحانلي التركية الحدودية الأخيرة، والتي اتّهمت فيها أنقرة مباشرة الرئيس بشار الأسد ومخابراته بارتكابها، طرح سريعاً السؤال: كيف سترد تركيا على هذا التطوّر الخطير؟

الإجابات تباينت وِفق هوية طارحيها. لكن معظمها قفز فوق حقيقة ما يجري هذه الأيام في بلاد الأناضول، إذ أن هذه الإجابات، وفي ظل الحمّى المذهبية السُنّية – الشيعية الراهنة، التي تجتاح الشرق الأوسط، وضعت تركيا بحزم في الخندق السُنّي، مُسندة ذلك، ليس فقط إلى وجود حزب العدالة والتنمية ذي الأصول الإسلامية في السلطة منذ أكثر من عشرة أعوام، بل إلى الذاكرة التاريخية، حيث لعب الأتراك طيلة 1000 عام من السلاجقة إلى العثمانيين، دور خط الدفاع الأول عن الإسلام السنّي في وجه كل أنواع وألوان الطيف الشيعي من فاطميِّين وإثني عشريين وصفويين.

بيد أن تركيا الجديدة ليست كذلك. صحيح أن عواطفها الإسلامية واضحة وترتدي حلّة العثمانية الجديدة، من دون أن تسميها كذلك، كما ألمحنا أعلاه، إلا أنها لا تطرح لنفسها الآن مثل هذا الدور، ولا حتى تريده، إذ هي تسعى، كما يقول مُنظّرها ووزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو، إلى أن تكون “دولة حكيمة”.

ويقول: “لقد أعربنا عن استعدادنا سلفاً لتحمُّل ما يترتب على أي جهة عالمية فاعلة من مسؤوليات، ووضعنا نصب أعيُننا هدفاً، هو أن نُعَد من البلدان الحكيمة في المجتمع الدولي. وإحدى نقاط القوة في سياستنا الخارجية، هي المُضي في إعادة اللحمة مع شعوب منطقتنا التي جمعَنا وإياهم تاريخ مُشترك، ولذا توجّب علينا العمل من أجل منع الانقسامات الطائفية بين السُنّة والشيعة..”.

حديث داوود أغلو هذا ليس افتراضيا أو إعلاميا. فكل المسؤولين الأتراك الذين التقينا بهم (في إطار دعوة من وكالة الأناضول لنخبة من الصحفيين العرب)، رفضوا أن تُصنّف تركيا على أنها سُنّية أو حتى إسلامية، وأصروا على أنها بدلاً من ذلك “ديمقراطية محافظة”، يجد الجميع فيها، ليس فقط من السُنّة والشيعة، بل أيضاً من الأرمن والمسيحيين والأكراد والعرب، مكاناً بارزاً لهم في هويتها الجديدة. (أو بالأحرى المتجدّدة، لأن العثمانية القديمة نجحت هي الأخرى في أن تكون هوية استيعابية أو على الأقل تعدّدية إلى حدٍّ كبير).

وحين يتم تطبيق هذا التوجّه على الأزمة السورية، يرفض المسؤولون بشدّة أن يفسَّر دعمهم للمعارضة السورية، على أنه دعم للسُنّة السورييين، ويقولون إنه لو تعرّض العلويون أو المسيحيون أو الدروز في سوريا إلى اضطهاد، فسيجدون تركيا إلى جانبهم.

وهذا في الواقع يبدو خياراً منطقياً، ليس فقط بالنسبة إلى دولة انطلقت لتوِّها في رحلة شيقة للتحول إلى قوة عالمية (مجدّداً)، بل أيضاً بسبب التركيبة التعدّدية الطائفية والإثنية الداخلية، التي تحتم هي الأخرى على الدولة التركية أن تحذر انتقال عدوى الحروب المذهبية إلى داخل أراضيها.

وفي هذا السياق، يُمكن القول أن أنقرة سترد بالفعل على مجزرة قرية ريحانلي، لكن ليس عبْر الانجرار إلى الحرب المذهبية، كما يريد النظام السوري على ما يبدو، بل من خلال مضاعفة الجهود لحشد الدعم الدولي وراء إجراءات عِملانية مشتركة ملموسة ضد هذا النظام.

رئيس الوزراء التركي أردوغان سيكون غداً في واشنطن، وهو سيحمل معه حتماً ملف مجزرة ريحانلي، إضافة إلى مخاطر الأسلحة الكيميائية ومضاعفات الأزمة السورية على دول الجوار، إلى محادثاته مع الرئيس أوباما. كما أنه استبق كلاً من المجزرة والزيارة بالإعلان عن استعداد تركيا لمساندة أي عمل عسكري أمريكي في سوريا.

وكل هذا يعني أن تركيا جاهزة للقيام بدور أكثر فعالية بكثير في الأزمة السورية، لكن ليس في سياق ردود الفعل على مجزرة ما، بل عبر الفعل، أي ليس لمجرد القيام بردّ لمعاقبة النظام السوري على فعلته، بل في إطار شرعية دولية وإقليمية، وهذا، على أي حال، هو تعريف أنقرة لنفسها كـ “دولة حكيمة” تسعى إلى أن تكون “قوة عالمية مسؤولة”، على حدّ تعبير داوود أوغلو.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية