مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“انتفاضة تقسيم”.. محطّة فاصلة بين مرحلتيْن

لليوم السادس على التوالي، تجمع عشرات الآلاف من المتظاهرين يوم 6 يونيو 2013 في ساحة تقسيم وسط إسطنبول (الصورة) للمطالبة بوقف المشروع العمراني واستقالة حكومة أردوغان. Keystone

رغم المفاجأة التي شكّلتها الإحتجاجاتُ في ساحة تقسيم في إسطنبول وفي مُعظم المدن التركية منذ الأول من يونيو الحالي ضدّ حكومة أردوغان، للبعض، ولاسيما للسلطة في تركيا، غير أن كل العوامل كانت موجودةً من قبل لكي تُفضي إلى لحظة انفجارٍ لم يكُن أحدٌ ليعرفَ شكْلها أو حجْمها.

ومع أن البعض لم يَـر في ما جرى “ربيعا تركيا”، على غِـرار الربيع العربي الذي انطلق من تونس في موفى عام 2010، غير أن الظروفَ والمعاييرَ التركية، تجعلُ من “انتِفاضة تقسيم” ربيعا بكلّ معنى الكلمة، ذلك أنه بعد عشرِ سنواتٍ كاملةً من التنمية الإقتصادية والإستِقرار السياسي والهيْمنة المُطلَـقة لحزب العدالة والتنمية على السلطة، فإن حدثا بهذا الحجْم النوعي الذي حصل في الأول من يونيو، يُـعتبَـر ربيعا بكل المقاييس.

مفاجأة عصيّـة

في الواقع، تعكِس انتفاضةُ تقسيم حيويةَ المجتمعات، مهْـما كان مستوى تقدُّمِها أو تخلُّـفِها الاقتصادي أو منسوب الحريات فيها والتي تبقى مُفاجآتها عصِيَّـة على التوقع والتكهن. ومثلما تفاجَـأ العالم بثورات الشعوب العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، تفاجَـأ العالم بانتفاضة الشارع التركي.

من جهة أخرى، لو لم يكن رئيس الحكومة التركية مُطمئِنا على وضعه السياسي، لَـمَا كان له أن يمضي في مشروع يُثير غضب واستياء المعارضين، لكنه لن يدفعهم إلى النزول إلى الشارع، باعتبار أن تركيا بلد تجري فيه الإنتخابات بحرية ويُفترض أن يحترم الجميع نتائج صندوق الإقتراع. ومن كانت له اعتراضات، يمكن له أن يعبّر عنها في  الصندوق، كما يحصل في كل الديمقراطيات، وفقا لمعايير أردوغان.

الأحداث الأخيرة كشفت مجددا أن الممارسة الديمقراطية ليست مجرد عملية ميكانيكية تختصر وتقتصر على الإدلاء، ولو بحرية، بورقة داخل الصندوق، وهذا حسبما يبدو هو جوهَـر المشكلة التي انفجرت غضبا في الشارع، ولاسيما في أوساط الشباب.

طالب رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان امام آلاف من انصاره احتشدوا لاستقباله عند عودته فجر الجمعة 7 يونيو 2013 إلى تركيا بوضع حد “فوري” للتظاهرات التي تطالب باستقالته منذ ثمانية ايام.

وندد اردوغان الذي استقبل استقبال الابطال في مطار اسطنبول بعد عودته من جولة استمرت ثلاثة ايام في المغرب العربي، مجددا بـ “الفوضويين” و”المتطرفين” الذين يتظاهرون في شوارع المدن الرئيسية للبلاد متحدين سلطته، وطالبهم بوقف تحركهم. وصرح اردوغان “اطالب بوقف فوري للتظاهرات التي فقدت طابعها الديموقراطي وتحولت الى اعمال تخريب”، فيما لوحت الحشود باعلام تركية ورددت “مستعدون للموت من اجلك يا طيب” و”فلنسحقهم جميعا”.

واكد اردوغان الذي وقف على متن حافلة الى جانب زوجته وقسم كبير من اعضاء حكومته انه “ليس السيد بل الخادم” في تركيا وشكر مؤيديه على ضبط النفس منذ بدء التظاهرات. واضاف “لقد حافظتم على الهدوء والمسؤولية والتعقل. علينا جميعا ان نعود الى منازلنا … فانتم لستم من الاشخاص الذين يقرعون على القدور في الشوارع”.

ومع ان انصار اردوغان لم يتظاهروا حتى الان الا انه اكد مرارا انه يحظى بتاييد قسم كبير من السكان، مذكرا بان حزبه العدالة والتنمية حصل على 50% من الاصوات في الانتخابات التشريعية في 2011. ومع هذا التجمع الحاشد الاول لصالح الحكومة، تنتقل الازمة الى صراع قوة بين مؤيدي اردوغان ومعارضيه.

ولحظة وصول اردوغان الى مطار اسطنبول، كان لا يزال عشرات الاف المتظاهرين متجمعين في ساحة تقسيم التي تبعد 20 كلم عن المكان وهم يهتفون “اردوغان، استقيل”. كما تجمع آلاف الاشخاص في العاصمة انقرة. وقبل بضع ساعات على عودته، كرر اردوغان في تونس رفضه الرضوخ لمطالب المتظاهرين واستبعد العودة عن مشروع عقاري في ساحة تقسيم كان شرارة التظاهرات. واضاف “سننجز هذا المشروع … ولن نسمح لاقلية بان تفرض شروطها على الاكثرية”.

وندد اردوغان بوجود “متطرفين” بعضهم “متورط باعمال ارهابية” بين صفوف المتظاهرين، وذلك في تلميح الى الجبهة الثورية لتحرير الشعب اليساري المتطرف التي اعلنت مسؤوليتها عن الهجوم على السفارة الاميركية في انقرة في فبراير 2013.

(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب بتاريخ 7 يونيو 2013)

تصفية القيادات العسكرية

اطمأن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان على نِسبة تأييد شعبي قاربت الخمسين في المائة في انتخابات عام 2011، لكنه قبل ذلك، كان يضرب ضربته الأهم، وهي تعطيل دوْر المؤسسة العسكرية في السياسة عبْر استفتاء 12 سبتمبر 2010 الذي أدخل تعديلات على الدستور، فتحت الباب أمام تصفية القيادات العسكرية والتجرُّؤ على اعتِقالهم بتُهم التخطيط لانقلابات عسكرية، وانتهى الأمر اليوم إلى أن النَّـواة الصّلبة للقوات المسلحة، قد تلاشت وبات الجيش مُفرغا من أبرز قياداته التقليدية العِلمانية المعارِضة لأردوغان ونهج حزبه ذي التوجهات الإسلامية.

بذلك، نجح أردوغان في تدمير خط الدفاع الأول عن العِلمانية والنّهج الأتاتوركي، لينتقل إلى البدء العملي لترجمة مشروعه، الذي يسعى – حسب زعم معارضيه – إلى تغيير بِنية الدولة والبِنية الفِكرية للمجتمع، في اتجاهات أيديولوجية إسلامية الطابع.

ومع الفوز المُطلق في الإنتخابات النيابية وانقسام المعارضة إلى ثلاثة أحزاب، لا يجمع بينها أي شيء، سوى العداء لأردوغان، باتت الطريق – أو هكذا ظنّ أردوغان – مفتوحة أمام تنفيذ ما يعتمل في داخله منذ سنوات.

استفزاز وقمع واحتجاجات

انتفاضة تقسيم لم تكن في العُمق من أجل منعِ تحويل حديقة “النزهة”، قرب ساحة تقسيم، إلى مكان يُـقام فيه مركز تجاري وثكَـنة جديدة على النّمط العثماني أو جامع، بقدر ما كانت احتجاجا على مشروع بكامله له عدّة عناوين تتلخص حسب المعارضين له في النقاط التالية:.

– لم يخف أردوغان أنه يريد تنشِئة جيل متديِّن على أنقاض الجيل العِلماني الذي أنشأه أتاتورك، وكان بذلك يريد أن يعيد بناء تركيا ومُجتمعها ونظامها، على أسُس أيديولوجية إسلامية، تأثّـرا بالنزعة العُثمانية التي يحملها. ومن أبرز خطوات أردوغان في هذا المجال، هو تعديل مراحل النظام التعليمي ومناهجه، بحيث يُمكن أن تكتسب المعاهد الدّينية، شرعية رسمية كاملة، فيتدفق مئات الآلاف من الطلاب لدخولها ومتابعة التعليم فيها.

– حاول أردوغان أن يضفي بالقوة نمَطا من السلوكيات، التي تعكس رغبةً في تعميم النزعة الدينية، مثل تقييد شُـرب الكحول في أماكن معيّنة ومنع الدِّعاية لها، وكذلك إطلاق عِبارات تحقيرية للشباب الذي يتناولون الكحول والسجائر، فيما اعتبره هؤلاء تعدِّيا على الحريات الشخصية.

– وكان الاستِفزاز الأكبر من جانب أردوغان للمعارضة، هو منظومة القمع التي استخدمها لكبْت الحريات الصحفية، حيث زجّ في السجن بكلّ من وجّه له انتقادا أو عمل على طرده من الوسيلة الإعلامية التي يعمل بها، بل الضغط لمنعه من الظهور على شاشات التلفزة، حتى باتت تركيا، البلد الأول في العالم، في عدد الصحفيين المعتقلين بتُهمة الإرهاب وتراجعت نِسبة الحرية الصحفية فيها إلى مراتب الدول المتخلِّـفة.

– وجاء استِهداف المؤسسة العسكرية وتفريغها من الضباط ومَـدّ عمر المحاكمات لفترات طويلة، رسالة قوية في الرّغبة لجعل هذه المؤسسة المهمّة أداة طيّعة في خدمته، وليس في خدمة الوطن، وهو ما حصل بالفعل.

– واتَّـبع اردوغان نهْج تغليب مصالح رجال الأعمال المقرّبين منه في منح الإستثمارات والمناقصات، كما عمل على بيْـع معظم مصالح القِطاع العام لشركات وأشخاص مُوالين له، ما أثار نِقمة فئات واسعة من الإقتصاديين، وجدوا أنفسهم خارج أي مكسَـب من مكاسب الدولة.

نقمة المعارضين والشباب

هذه العوامل مُجتمعة ساهمت حسبما يبدو في إثارة نِـقمة نسبة لا بأس بها من الشريحة التي لم تمنحه أصواتها في الإنتخابات النيابية الأخيرة (حوالي 50%) وفي أوساط الشباب الذي وجد أن حلمه في حياة ديمقراطية رحبة وحريات أساسية يتعرض للإنحسار، وأن مجال التعبير عن تطلّعاته بحرية، يضيق.

لذلك، لم يكن من المستغرب أن تتشكّل غالبية المُحتجِّـين في ساحة “تقسيم” من فئات شبابية، من طلاّب الجامعات وطلاّب المدارس الثانوية ومن أساتذة جامعات وفنّانين ومثقّفين وصحفيين، تولَّـوا مهمّة الدفاع عن المُكتسبات الأساسية على مدى العقود الماضية، وفي مقدّمتها منظومة القِـيم العِلمانية التي تحُـول دون طغيان التأثير الدِّيني على الحياة الإجتماعية، والدّفاع أيضا عن الحق بالعيش بحرية وديمقراطية ومنعا لتغوّل السلوك القمعي للسلطة، الذي استشري في السنوات الأخيرة.

قضايا حساسة

في الوقت نفسه، كان النهج الذي اختارته الحكومة تُجاه قضيتيْن حساستيْن، أيضا في عُـمق انتفاضة تقسيم، وإن لم تتقدّمه علَـنا. الأولى، هي ازدياد استِفزاز مشاعِر العَلويين في تركيا، من خلال استمرار عدم تلبيِة مطالِبهم، رغم مرور عشر سنوات على إمساك حزب العدالة والتنمية بالسلطة، وآخرها إطلاق اسم مستفِـزّ لمشاعر العلويين وحساسياتهم على جِسر جديد، يُزمَـع إنشاؤه على مضيَـق البوسفور، وهو إسم السلطان سليم الأول، الذي يُعتبر الرّمز الأول للمَجازِر التي ارتكبَت ضد العلويين في القرن السادس عشر.

والقضية الثانية، هي الموضوع السوري والإنحياز التركي الكامل مع المعارضة السورية والتأثيرات السلبية لذلك على الدّاخل التركي عبْر تصفير تِجارة المحافظات الحدودية وازدياد الإحتقانات المذهبية بين العلويين والسُنّـة في تركيا والمخاطر الأمنية التي كان آخرها تفجير أريحانية، حيث سقط 52 قتيلا، ما أشعر المواطن التركي بمخاطِر سياسات أردوغان السورية على الدّاخل التركي.

“ربيع تركي” لا يمكن تجاهله

على وقع الإعتراض على كل السياسات المُتبعة في تلك العناوين، بدأت ساحة تقسيم في التحوّل إلى ما يُشبه “ميدان تحرير” لتركيا، مبشّرة بداية لربيع لا يُمكن لأردوغان وحِزبه أن يتجاهلا مسبِّباته وأن يُواصلا التعامل مع الوقائع الجديدة، كما لو أنها غير موجودة.

إن تعوُّد أردوغان على التصرّف كما لو أنه حاكم مُطلق ليس من قوة تستطيع وقْـفه، سيكون من عوامل تعقيد المشهَـد التركي، إذ أنه سيحاول أن لا يظهر بمظهر المُتراجع، بعدما وجَّهت الإنتفاضة ضربة موجِعة جدا لهيْبته وكسَرت، ما أجمع على وصفه الكتّاب الأتراك، بغروره.

لذلك، لا يُـتوقّـع أن يتراجع أردوغان عن مشاريعه في ساحة تقسيم وسيختار طريق التحدّي في صناديق الإقتراع، وهي المِعيار الوحيد الذي يراه حَكَـما بينه وبين معارضيه. لكن الإقتصار على هذا الخيار وعدم التخلّي عن الذِّهنية السابقة في التعاطي مع هواجِس المكوِّنات الإجتماعية المعارضة له من العلمانيين إلى العلويين ودُعاة الحرية والديمقراطية الكاملة، سوف لن يُـغيِّر من عوامل الإنفِجار، بل قد يزيده ويفتح على مُستويات أكثر خطورة من الإستقطاب السياسي والإجتماعي في المجتمع.

لقد وصل الربيع إلى تركيا وتحولت “انتفاضة تقسيم” إلى محطّة فاصلة بين مرحلتيْن. والثابت الأكبر، أن سلطة حزب العدالة والتنمية وأردوغان شخصيا، قد تلقَّـيا ضربة قوية بل الهزيمة الأولى منذ عشر سنوات، وهي تطورات ستترك تأثيراتها على الإستِحقاقات المُقبلة من انتخابات، بلدية ورئاسية ونيابية، كما على صيغة الدستور الجديد، وأيضا على طريقة تعاطي تركيا مع المسألة السورية بشكل عام.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية