مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الثورات الحالية إعلانُ دخـول العرب عـصْـر الأنــوار”

تاجر مغربي يسكب الشاي المغربي الأصيل بإحدى أسواق مدينة مراكش التقليدية Reuters

ينقسم المهاجرون العرب إلى سويسرا إلى فئتيْن: وافدون قدموا للدراسة والتحصيل العلمي، وآخرون جاؤوها مكرهين وهاربين من الإقصاء والفاقة والحرمان. وإذا كانت الفئة الأولى صاحبة قرارها، والمتحكمة في مصيرها، فإن الثانية تظل مسلوبة الإختيار، جل همّها البحث عن الإستقرار.

هذه هي الصورة الإجمالية لواقع الجالية العربية في سويسرا كما يراها عبد الحق الغزواني، مغربي مقيم في جنيف منذ عقود جاءها في البداية طالبا جامعيا في مجال العلاقات الدولية، وانتهى أخصائيا نفسانيا يعمل في إحدى المؤسسات الأهلية المتخصصة في مساعدة الأجانب.

هذه الرؤية هي أقرب بلا شك إلى واقع الثمانينات وبداية التسعينات، لكن الوضع تغيّر الآن إذ أصبح أغلب المهاجرين العرب إلى سويسرا من الشباب الذين هم في مقتبل العمر، وهم ضحايا النزوح المكثّف إلى المدن، حيث تتفتت العلاقات الأسرية، وتعاني الأجيال الجديدة من التهميش والإقصاء.

يصل هؤلاء المهاجرين اليوم إلى سويسرا عبر البلدان الأوروبية المجاورة وينتمون في الأغلب إلى فئة المهاجرين غير الشرعيين بعد أن أصبحت حدود أوروبا قلاعا محصنة محمية تحرس فيها القوى الأمنية رفاهية المواطن الأوروبي، الذي لم يعد معنيا (في معظم الأحيان) بما تعانيه شعوب أخرى من فاقة وحرمان وخصاصة.

جنيف وليس غيرها

عبد الحق الغزواني من دون شك ليس واحدا من هؤلاء، فهو مغربي فرنكفوني يفهم اللغة العربية ولا يُحسن التخاطب بها. إختار بعد دراسة المرحلة الابتدائية والثانوية في الدار البيضاء، الإلتحاق بمدينة جنيف لمتابعة دراسات العلاقات الدولية، لأن هذه المدينة كما يقول السيد الغزواني: “تمتلك طابعا فريدا من نوعه، فهي تستضيف عددا كبيرا من المنظمات الدولية، وفيها توجد أفضل الجامعات والمعاهد العليا، وهي حاضنة المقر الأوروبي للأمم المتحدة”.

هذا عن حاضرها، أما عن ماضيها، فهي المدينة التي “لجأ إليها البروتستانت الفرنسيون الهاربون من جحيم الإضطهاد في بلادهم، ورواد الإصلاح الديني وفلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر الميلادي، وهي التي ارتبط إسمها بهنري دينون، والصليب الأحمر”.

ورغم أن محدّثنا يعمل في مدينة لوزان، لكنه حافظ على إقامته في جنيف، التي يقول عنها مرة أخرى: “إنها مكان جميل وساحر، فهي ملتقى الثقافة والمثقفين، والتواصل الإجتماعي بالنسبة للمغاربة في جنيف هو أيسرُ منه في أي مدينة سويسرية أخرى”.

وهذا طبيعي، ففي المدينة الواقعة أقصى غرب سويسرا توجد جالية عربية كبيرة تتشكل من الطلبة والأساتذة والمبدعين والكتاب والدبلوماسيين، وهو ما يجعل مقاهيها ونواديها منابر للحوار والنقاش وتبادل الآراء بين هؤلاء كلهم، وليس في الأمر أي مبالغة عندما يقول السيد الغزواني: “إن وضع الجالية المغاربية في جنيف وضع مُحترم جدا”.

ومن الأماكن التي يقول إنها منحته جذورا في هذه المدينة، وجعلت حياته الفكرية والإجتماعية أغنى وأثرى مما كانت عليه في موطنه الأصلي: “مكتبة الزيتونة لصاحبها آلان بيطار (اللبناني الأصل)، ومكتبة الديوان لصاحبها محمد بن هندة (تونسي)، ثم مقهي لوندولت، الفضاء الذي كان ملتقى جميع الأفكار الثورية في العالم والمنحدرة من تجارب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية”.

عرب في سويسرا

إذا كان حظ الغزواني من هذه الهجرة شهادات علمية في البداية، وعملا محترم في المآل، فإن ذلك يعود بلا شك إلى مراهنته على كسب المعارف والخبرات، وقراره في أن يكون إيجابيا في واقعه، وهذا هو في الغالب مصير الفئة الأولى من المهاجرين كما سبقت الإشارة إليه.

أما الفئة الثانية، فهي تظل طيلة الوقت في حالة من المغالبة، وفي مواجهة تحديات ومعوقات يخلقها لها نظام الإقامة في سويسرا وترتيباته المتشددة، حيث لا يترك للأجنبي غير الكفء مهنيا، إلا باب الزواج كمدخل لتسوية وضعه القانوني في البلاد.

ومن هنا تبدأ المتاعب بحسب عبد الحق الغزواني: “فالفارق النفسي بين الزوجيْن، والحاجز الثقافي، وغياب الاختيار الحقيقي والروابط العاطفية منذ البداية، يحكم في الغالب على هذه الزيجات بالفشل”.

فهل يفسّر هذا كثرة الحديث في وسائل الإعلام السويسرية عن انتشار الجريمة في صفوف الأجانب، يرد الغزواني بالنفي: “الإحصاءات التي يروّج لها الإعلام لا أساس لها من الصحة، ولا تمت بصلة لأبناء الجالية العربية، فالذين يحاكمون ويودعون السجون هم أفراد عصابات عابرة للحدود، لكنها تحسب على الأجانب المقيمين في سويسرا”.

وعلى افتراض وجود ظاهرة الإجرام في أوساط الأجانب، فهي لا تعدو أن تكون بحسب محدثنا “نتيجة للحيف الإجتماعي، وسياسة الإقصاء والتهميش، وهذا هو التفسير الوحيد المنطقي بالنسبة لكل النظريات الاجتماعية، لأنه ليس هناك مجرمٌ بالفطرة أو بسبب انتمائه العرقي”.

نظرة متميزة للثورات العربية

بالعودة إلى الحاضر، وإلى الإنتفاضات التي تهزّ الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج، والتي يعود الفضل فيها بالنسبة لعبد الحق الغزواني إلى ذلك “الشباب المتعلّم والمتعطّش إلى الكرامة والحرية والحقوق الأساسية. شباب خرج إلى الشوارع متسلحا بإرادته ومتحررا من كل شعارات إيديولوجية أو فئوية أو شوفينية أو دينية”. وهو لا يتردد في القول بأن ما يحصل في البلدان العربية اليوم هو “إعلان دخول العرب عصر الأنوار بعد قرنيْن أو يزيد مما عاشته أوروبا”.

لقد شهدت الدولة العربية ما بعد الإستقلال صعود العديد من التيارات الفكرية والسياسية، بدءً من الناصرية في الخمسينات، والحركات اليسارية في الستينات والسبعينات، إلى أن كانت هزيمة حرب 1967، التي نتج عنها صعود لافت للتيارات الإسلامية، وهو التيار الذي “بدل أن يُساهم في تحرير الإنسان العربي استعمل كفزاعة من طرف الأنظمة العربية لجلب الدعم الدولي، ولغض الطرف عن فساد تلك الأنظمة واستبدادها”.

التيار الشبابي التي يقود التغيير في العالم العربي اليوم، ليس له زعامات معروفة، ولا ينتمي إلى أحزاب أو تيار فكري بعينه، وليس له خطة موضوعة مُسبقة. إنهم كما يقول السيد الغزواني: “مواطنون ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة، وإلى فئات عُمرية متنوعة إلى حد ما، يسكنون في القرى وفي المدن، منهم المحافظين، وغيرهم، تحدوا الخوف ورفعوا أصواتهم عاليا مطالبين بإحترام الحريات الفردية الأساسية”.

أطرف ما في هذا الأمر، أنه يحدث باختيار وإرادة ذاتييْن، لم تتدخّل فيهما أي قوى خارجية. قوى لم ترتق بحسب الغزواني إلى مستوى تطلعات الشعوب العربية لأن “المتحكم في اختياراتها مصالحُها ومصالحُ شعوبها، لا أفكار نخبها، وأشواق فلاسفتها”. وما هاجسا “الإسلاميين، والهجرة غير الشرعية” اللذيْن تلوّح بهما هذه القوى “إلا محاولة للتغطية عن حقيقة مواقفها مما يحدث”.

أما عن مستقبل المنطقة العربية في ضوء الأحداث الجارية فيها، فيبدو الغزواني حذرا جدا: “سوف تظل مصر تعاني لزمن طويل من الإنعكاسات السلبية للمرحلة الناصرية، خاصة انخراط الجيش في اللعبة السياسية، كما هو الحال ايضا في بلدان مثل الجزائر واليمن، في حين أن المستقبل يبدو أكثر إشراقا في تونس والمغرب، نظرا للطابع المدني لنظاميْهما، ولنضج نخبهما، وحياد مؤسستهما العسكرية”.

ولد عبد الحق الغزواني في 12 مارس 1953 بالدار البيضاء ويعمل حاليا في جمعية “إنتماءات” التي يوجد مقرها في لوزان، كأخصائي نفسي لمساعدة المهاجرين.

الدراسة والتكوين

1972: حصل على الشهادة الثانوية في الفلسفة والدراسات الأدبية بالمغرب الأقصى.

1979: تحصل على الإجازة في الدراسات القانونية من جامعة الحقوق بالدار البيضاء.

1986: حصل على إجازة في علم النفس من جامعة جنيف.

1991: شهادة تخصص في دراسات التنمية بجنيف.

1998: دراسات عليا في مجال الطب النفسي بجامعة الآداب والعلوم الإنسانية بلوزان.

التجربة المهنية

1992- 1994: مرحلة تدريبية في مجال الطب النفسي في مجال أقسام الولادة بجنيف.

1994: تفرغ لإجراء أبحاث علمية بمستشفى بوسيجور Beauséjour بجنيف.

1996-1998: فترة تدريب كأخصائي نفسي بمقر جمعية “انتماءات” بلوزان.

1998 – 2000: شارك في عدد من الفترات التدريبية في مجال الإتصال والتواصل.

1998 – 2011: أخصائي ومستشار نفسي في قضايا الهجرة والمهاجرين لدى جمعية انتماءات بلوزان.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية