مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

اقتباسات من أغرب ما قاله دورنمات: “المرأة لا تحتاج إلى التفكير بالمعنى الذكوري”

فريدريش دورَّنماتّ في منزله بكانتون نوشاتيل
فريدريش دورَّنماتّ في منزله بكانتون نوشاتيل قبل أسبوع من وفاته، 7 ديسمبر 1990. Keystone / Str

لو كان فريدريش دورَّنماتّ لا يزال على قيد الحياة، لكان احتفل بِعيد ميلاده المائة في 5 يناير 2021. هذه المُناسبة كانت ستكون سبباً رائعاً لإجراء حوارٍ مع المؤلف، والكاتب المسرحي والرسام السويسري الكبير. لكن دورنمات لم يَعُد حياً، وإن كان لا يزال حاضراً بقوة في أذهاننا وقلوبنا من خلال أعماله. 

حلول الذكرى المائوية لولادة “دورّي” (كما كان يحلو لأصحابه أن يُلقبوه)، ألهَمَ الأديب والمؤرخ والصحفي سفين ميشيلسن (Sven Michaelsen) فِكرةَ توجيه الأسئلة إليه مرة أخرى، وإن كان على نحوٍ مختلف: فإجابات دورَّنماتّ في الحوار التالي عبارة عن مونتاج لإجمالي أعمالِه ومقابلاتِه. أما الأسئلة، فتمت إضافتها لاحقاً. ولم يَتِم تأشير العبارات التي أغفِلَت في الاقتباسات.

التقى سفين ميشيلسن بـ فريدريش دورَّنماتّ بالفعل في 7 ديسمبر 1990 في بيته الفخم الكائن بكانتون نوشاتيل وحاوَرَه لمدة خمس ساعات. وخلال طعام العشاء الذي أعقب ذلك في نُزُل ريفي، تَحَدَّث الكاتب عن عيد ميلاده السبعين القادم، وعن رِحلة حول العالم خَطَّط لها بهذه المناسبة، وحول استمرار العَمَل الضخم لسنوات تقاعده المتمثل بسيرة ذاتية مُستَنِدة إلى مواده غير المكتوبة. وعندما حان وقت الوداع في منتصف الليل، قال دورَّنماتّ: “أنا لستُ مسافِراً كبيراً في الواقع، وأقوم بهذه الجولة العالمية خوفاً من عيد ميلادي. الخُطَب الاحتفالية مروعة”.

المزيد

بعد سبعة أيام توفي دورَّنماتّ بنوبة قلبية.

مجلة Das Magazin: أي من الشخصيات التي ابتكرتها الأقرب إلى قلبك؟

فريدريش دورَّنماتّ: ربما تكون الشخصية المفضلة لَدَي هي “أكي” (Akki) في المسرحية الكوميدية “ملاك جاء إلى بابل” (Ein Engel kommt nach Babylon). إنه المُبَذِر الكُلّي، وهو ما يجعله مُتسولاً. انه مُتَسول يَتَوَسَّل الملايين ثم يُبَعثرها المَرّة تلو الأخرى لِئَلا يفقد المُمارسة. إنه شخصية مَرغوبة. سيكون من الجميل أن أكون هكذا.

انت تعيش في نوشاتيل منذ عام 1952، التي تصفها بـ “واحدة من أكثر المُدُن المَيتة ثقافياً في سويسرا”.

أنا شخص انعزالي. أعيش في نوشاتيل لكي لا أكون مضطراً إلى المُشاركة فيما يُسمى بالحياة الثقافية. أنا أصنع ثقافتي بنفسي.

لقد نشأت في قرية كونولفينغن (Konolfingen) في منطقة وادي إيمّين بكانتون بَرن. ما الذي كان يعنيه أن تكون ابناً لقس؟

لقد نشأتُ في نوعٍ من العُزلة الاجتماعية بسبب نَظرة الشَماتة التي يُقابَل بها ابن القَس في القرية. المُفتَرَض به أن يكون أفضل من الآخرين، وكلما لَمْ يكن كذلك، كان ذلك مَدعاة لسرورهم. الأطفال هم الأكثر قَسوة، وهم لا يَعتَبِرون ابن القس واحداً منهم. إنه مُختلف؛ هناك الكثير من الأشياء التي تُخفى عنه، حتى الكبار يَلتَزمون الحَذَر عند الكلام أمامه ويُفَضِّلون الصَمت عندما يأتي. لطالما لجأتُ إلى استخدام طُرُق سرية للذهاب إلى المدرسة، لتفادي صبيان المُزارعين الذين كانوا يطاردونني ويضربونني بكل ما أوتوا من قوة.

هل كنت رياضياً أم تفضل البقاء في المنزل؟

كنت لاعب جمباز جَيّد حتى أصِبتُ بشلل الأطفال في سن الثانية عشرة. كانت بلدة كونولفينغن وَكراً لمرض شلل الأطفال. كانت هناك عائلات بأكملها لديهم أطفال مشلولين. لقد أثَّر هذا المرض عليّ لدرجة أنني أصبحتُ من أبطأ الأشخاص حركة بعد ذلك.

هل كان والداك قراءً جيدين؟

أمّي لم تكن تعرف سوى الكتاب المُقدَّس فقط، بينما كان والدي باعتباره مولعاً باللُّغَوِيَّات، يقرأ اللغة اليونانية لمدة ساعة يومياً، واللاتينية لساعة أخرى، ويخصص ثالثة للغة العِبرية. كان عالماً، وكان يضع عُشُر مُرتبه جانباً لمساعدة الفقراء.

هل كان يحكي لك القصص؟

أحياناً كان لا يزال يُلقي المواعظ في المساء، أو يُسْتَدعى ليلاً لزيارة شخص على فراش الموت، وكان يسمح لي بمرافقته – سيراً على الأقدام. حينها كان يَحكي لي الكثير. كان السَير في الغابة لمدة ساعات في الليل أمراً رائِعاً. عندما اصطحبني مرّة لزيارة سيدة مريضة جداً، أشارَ إلى مزرعةٍ مُتَصدّعة وحيدة، وأخبرني إن فلاحة عجوز كانت تعيش هناك اعترفت له على فراش الموت بقيامها بتسميم والدها ووالدتها.

Friedrich Duerrenmatt, escritor suizo, fotografiado en 1990 con un vaso de vino blanco en la mano.
المؤلف والكاتب المسرحي والرسام السويسري فريدريش دورينمات، 1990. Keystone / Str

هل كنت تَستَمع إلى مواعظِ والدك وخُطَبِهِ الدينية؟

نعم، أحياناً، لكني كنت أشعر بالمَلَل.

كيف رباّك والداك؟

كان والداي يَخافان بشكل غريب من أي شيء مُثير. بينما كنّا نحن الأطفال نرى كيف تتزاوج الثيران والأبقار، وكنا نَسمَع عُمّال المزارع وهم يتفاخرون بمغامراتهم مع الخادمات. كان والدي يَتَّبِع عقيدته بِعَمى إدراكي. لهذا السبب، لم يُمارس أي ضغط علي أبداً في المجال الديني. حاول إقناعي مَرّة واحدة بأن أصبح قساً، وعندما رفضت، إنتهى الموضوع إلى الأبد ولم نَتَطَرَّق إليه ثانية. لم أكن أشعر بما يدور بدواخله لأنه كان والدي.

لا توجد حالة أكبر من الغُربة التي تنشأ بين الأب والابن من أجل حُرّية كليهما.

وماذا عن والدتك؟

كانت خلافاتي معها أكبر. كانت ابنة مُزارع، وعندما كُنتُ أحقق نجاحات لاحقاً، كانت تقول لي دائماً أن ذلك بفضل صلاتها. كانت ساذجة تماماً، وتعيش في عالم من الإيمان المُنتَصر. عندما أدرَكَت ذات مرّة أنني لم أحل واجباتي في درس الحساب أبداً، غضبت بِشِدّة وطاردتني وهي تحمل جذع شجرة تُستَخدَم في زراعة نبات الفاصوليا. لكنها في العادة كانت تعاقبني من خلال “حزنها” لأيام طويلة. حينها كنّا نعيش دائماً في ظل من الاستياء. كان هناك دائماً جدار بيني وبينها، جدار قمتُ ببِنائه ولم أستطع هَدمَه.

ما الذي أدى إلى تكوين هذا الجدار؟

كانت تلعب دور المُتواضِعة دون أن تكون بحاجة إلى ذلك. كانت فضولية جداً بشأن ما أكسَبه، ولم أخبرها أبداً. كانت تقتَرض منّي المال بلا حدود، ليس لنفسها أبداً، بَل من أجل الآخرين دائماً. أنا لا أزال أعاني إلى اليوم من حقيقة أني لم أكن أكثر تساهُلاً معها.

يقال أن والدها كان مُمتَنِعاً عن تناول الخمور تماماً.

لقد نَجَح في فَرْض تناول عصير العنب الخالي من الكحول لخدمة العشاء [ليوم الأحد في الكنائس البروتستانتية]، لكي لا يَقَع أحد المُهتَدين في الغواية أثناء هذه الخدمة المُقدسة نتيجة تناوله الكحول. لقد أخذ نفوره من الكحول أشكالاً غريبة على نحوٍ مُتزايد، حتى أنّه رفض تناول الطعام في النهاية، لأنه – برأيه – سيتحول إلى كحولٍ أيضاً أثناء عملية الهضم.

إحدى المواضيع التي تُهيمن على اعمالك هي التمرد

لقد تَبَلوَر ذلك من خلال المدرسة. كان واجب الطاعة شيئاً فظيعاً بالنسبة لي؛ كنت أشعر بأنه اضطهاد مُتواصل. لقد نشأ دافع الإنتقام من هذا الوضع. من المعروف ان الانتقام هو أحد أشكال التَمَرُّد البدائي. فالشخص يريد الانتقام من شيء حَدَثَ له في طفولته.

أنتقلت أسرتك للإقامة في بَرن عندما كنت في الرابعة عشرة من عمرك، وهناك تم إرسالك إلى مدرسة خاصة.

كانت هذه المدرسة عبارة عن خَزّان لِعناصِر فاشلة في المدارس الثانوية. لقد بدأتُ بالتغيب عن المدرسة، ومُطالعة كتب فريدريك نيتشه، والجلوس في دور السينما بينما كان والداي يَعتقدان بأنني في المدرسة. كنتُ شاباً من الطبقة الوسطى يمر بفترة أشبه بالمرض، ويعاني باستمرار من حالة لا يمكنه تغييرها.

ما هي هذه الحالة؟

أنا نفسي كنت هذه الحالة؛ العديد من المواقف المُذِلّة والمُحرِجة غير المَنطقية، مشاكل بلوغ مُعَلَّقة، أنانية في كل علاقة، الإفتقار لصديقة أو حتى لِأصدقاء. لم يكن لَدَي شيء سوى خيال فوضوي عَزَلَني عن الواقع وجعلني أخرقاً ومُرتبكاً ومُفتقراً لآداب السلوك – التي أفتقدها إلى اليوم. إنه وقتٌ مقرون بمشاعر الظلم والكراهية، تلقيت فيه جروحي الأولى التي لم تلتئم أبداً.

ما لا يعرفه سوى قلة قليلة من الناس، هو تعاطفك مع الاشتراكية القومية (النازية) لبضعة أشهر عندما كنت في العشرين من عمرك.

كانت مُعارضتي في فترة المراهقة مُنْصَبّة على عالم والدي. ومع عَجزي عن مواجهة إيمانه من خلال نظرة عقلانية للعالم، اخترت الطريق إلى اللاعقلاني، وَوَقفتُ إلى جانب هتلَر.

في مايو 1941 انضَمَمت إلى حزب “حركة الجبهة” السويسري (Eidgenössische Sammlung)، الصديق للنازية [وهي حركة سويسرية مُوازية للحركة القومية الإشتراكية في الرايخ الألماني. ولكنها لم تكُن سوى ظاهرة هامشية]، لكنك غادَرتَ الحزب في شهر سبتمبر. كيف سارت الأمور هناك؟

لقد كانوا أشبه بالهُواة. كنّا بِقيادة شاب كَسول في العشرينيات يتظاهر بأنه عميل سرّي. وفي أحد أيام الأحد قُمنا بـ “إحتلال” تل بالقرب من المدينة. لكن افتقاري للياقة البدنية تفوق على نظرتي للعالم ودَفَعني إلى الاستسلام.

في صيف عام 1942، تَعَيَّن عليك الإنتقال إلى ثكنة عسكرية بوصفك مُجنّد

… بينما بدأت معركة ستالينغراد على بُعد أربعة آلاف كيلومتر شرقاً في نفس القارة، مع أعلان نصرٍ من إذاعة ألمانيا الكبرى (Grossdeutscher Rundfunk) بأن المدينة قد تم احتلالها. وقد أوضح لي أحد عُقداء الجيش حينها بأن خطابات غوبَلز [وزير الدعاية في ألمانيا النازية] كانت تتمتع بأقصى قدر من المتعة الجمالية بالنسبة له.

ما هو أول ما يتبادر إلى ذهنك عندما تَستَذكر السنوات الثلاث التي أمضيتها في الجيش؟

تدريبٌ وصراخ وتلميع أحذية لا نهاية له. لقد بَدَت الأحذية وكأنها الشيء الأهم بالنسبة للجيش السويسري، وكما لو كانوا يفكرون لا شعورياً بالهروب. كنت مُجنَّداً ثقيل الحركة، ولم أتمكن من الصعود لأكثر من مترين على عمود التسلق، حتى أن خَلع خوذتي كان صعباً بالنسبة لي. وكعقوبة على ذلك، كان علي أن أمارس الرياضة وأنا أرتدي السروال الرياضي والخوذة الرياضية فقط. هذا الأمر كان مُحرِجاً للملازم أكثر منّي. لكن، وقبل أن يتمكنوا من إعادتي إلى الرئيسيات، بدأت عيناي هجومها المُضاد. ولإثبات إصابتي بِقُصر الَنَظر، خَطَر ببالي أن ألقي التحية على سُعاة البريد بدلاً من الضباط في ساحة الثكنة.

الأمر الذي تبعه نقلك إلى الخدمة المُساعِدة في الجيش من قبل لجنة تحقيق طبي.

عندما قُمت بتسجيل خروجي من الثكنة، كان لا بد من إحضار القائد من ثكنة الضباط. وحينها، جاء مُترنحاً وهويُلوِح بالعلم الوطني تجاهي ويصرخ والعَرَق يَتَصَبَّب على وجهه، بأن هتلر لو وصل إلينا فإن ذلك سيكون بسببي. كان رجلاً عجوزاً يفتقر إلى أي فرصة لانجاز عمل بطولي- تماماً مثل الدولة التي يمثلها.

Friedrich Dürrenmatt
فريدريك دورنمات يتدرب على “أورفاوست” (المسودة الأولى لمسرحية غوتيه فاوستو) في مسرح زيورخ في سبتمبر 1970. أقيم العرض الأول في 22 أكتوبر من نفس العام. Keystone / Str

متى قَرَّرت أن تصبح كاتباَ؟

كان ذلك في يناير 1945. كنت جندياً مُساعداً في كتيبة حدودية. كان بامكاننا سماع هدير القَصف من جميع أنحاء جبال الألب، بينما كنا نحن نتَسَكَّع هنا في سويسرا التي كانت سليمة تماماً. حينها تساءَلت مع نفسي: ما الذي يمكنني فِعله لمواجهة هذا الحَدَث العالمي؟ وقد شأء القدر أن كان عيد ميلادي حينذاك، ما دعاني لتناول أول وجبة فوندو مع النبيذ الأبيض والـ”شنابس” [نوع من المشروبات الكحولية] إلى حَد الثمالة. بعد خلودي للنوم، استيقظت فجأة لإتقيأ كالنافورة. كنت أجلس في تلك الغرفة المليئة بالقيء، في الوقت الذي كانت فيه بقية العالم مليئة بالجثث، ولم يكن لدي شيء أواجه به هذا الوضع سوى قيئي. لقد بدا الأمر بِرُمَّته عَبَثياً جداً بالنسبة لي، مادفعني بالنتيجة إلى اتخاذ قرار التعامل مع هذا العالم من خلال الكتابة.

عُرِضَت أول مسرحية لك وأنت بِعُمر السادسة والعشرين. في مسرحية “زيارة السيدة العجوز” كنت في الخامسة والثلاثين من عمرك. وعندما كنت في أوج نجاحك بعد العرض الأول لفيلم “Die Physiker” ومَلَأت صورك صفحات أغلفة مجلات “دير شبيغل” (Der Spiegel) و”شتيرن” (Stern) كنت في سن الواحدة والأربعين. هل شَعَرتَ بالإطراء لأنك أصبحت كلاسيكياً حديثاً في ذلك العمر، أم ساوَرَك الشك في أنه لن يكون من الجَيّد أن تعيش موهبتك في صحراء من العبادة المستمرة؟

على المرء أن يدافع عن نفسه ضد الشهرة لأنها تُفسِد وتُشِل. من يمتلك الشهرة يريد الإحتفاظ بها، وسوف يتعين عليه في الواقع تقديم ما هو مُتوقع منه باستمرار. الشُهرة لا تُحرر المرء، بل تَستَعبده.

“على المرء أن يدافع عن نفسه ضد الشهرة لأنها تُفسِد وتُشِل”

بحلول نهاية الثمانينيات، كنت قد بِعتَ عشرين مليون نسخة من كُتُبك. ويعود الفضل في ذلك جزئياً أيضاً إلى رواياتك البوليسية، التي بدأت بكتابتها في عام 1950 لأنك كنت مُفلساً. وقد ظَهَرت روايتك الخالدة “القاضي وجلاده” (Der Richter und Seine Henker) في ثماني حلقات في مجلة “دير شفايتسَر بيوباختَر” (Der Schweizerische Beobachter)الأسبوعية.

كنت أعيش كالأمراء دائماً، حتى في الأوقات العصيبة. لذلك كتبت الروايتين البوليسيتين “القاضي وجلاده” و”الشك” إثر تكليفي بذلك. وقد حصلت على ألف فرنك عن الرواية الأولى، وألفي فرنك عن الثانية.

في رواية “تورمباو” (Turmbau) تَصِف موت زوجتك الأولى وإخراج جثمانها من المنزل. وكما كَتَبت:”كان الرجلان اللذان جاءا من دار الجنائز أشبه بشخصيتين من فلم كارتوني، كان أحدهما ضَخماً وسَميناً والثاني قصيراً ونحيفاً، وقد ذكراني بـشخصيتي “لوريل وهاردي”. لقد حاولا جاهدَين إنزال التابوت إلى أسفل الدرج، كان مقلوباً تارة ومُستنداً على قاعدته تارة أخرى”. لقد اكتشفتَ شيئاً غبياً حتى في هذه المأساة.

لقد كان كذلك بالفعل. عندما يتعلق الأمر ببناء عمارة سكنية، فإن أحداً لا يفكر بِمَ يحدث عندما يموت شخص ما ويتعين نقله إلى الطابق الأسفل. الدرج ضيق جداً، ولا يسمح بنقل تابوت حتى. في حالة كهذه، ينشأ انفصال عن الواقع على الفور، ولا ينتهي التفكير في القصة إلّا بعد إتخاذها أسوأ مُنعَطَفٍ ممكن.

ما الذي يميز الكوميديا عن المأساةإذن؟

المأساة تجري ضد العالم وتَتَحطم. أما الكوميديا فتعود إلى الوراء وتَسقط على مؤخرتها وتضحك.

عندما قوبلت إحدى مسرحياتك في مُنتَصف ستينيات القرن الماضي بانتقادات سيئة، كتَبتَ جُملة جميلة: “بعد قراءة الإنتقادات التي طالت مسرحيتي، قَرَّرت عدَم قراءتها”.

الناقد هو أسوأ مُشاهد، وإلا لما كان ناقداً. الأداء عبارة عن حَدَث. إنت تعيش الحدَث، ومن المُستحيل في الواقع أن تَعيش الحَدَث وتكون ناقداً في نفس الوقت. هناك أربع فئات من النُقّاد المَسرَحيين: الأولى لا تجيد الكتابة ولا النَقْد، والثانية تجيد الكتابة ولكن ليس النَقْد، والثالثة لا تجيد الكتابة ولكنها تجيد النَقْد، أما الرابعة فتجيد الإثنين. مُعظَم النقاد في الفئة الأولى، والأكثر شهرة في الفئة الثانية، بينما يتواجد النُقاد الذين يفقهون شيئاً عن المسرح في الرابعة. الفئة الثالثة تخلو من أي شخص، فهي افتراض مَحْض.

أنت لست مولعاً بالروايات أيضاً.

الروايات تشعرني بِمَلَل قاتل. أنا سعيد دائماً عندما لا أكون مُضطراً إلى قراءة ما يكتبه زُملائي. كما أنني لن أقرأ رواياتي لو لم أكتبها بنفسي. أخشى حتى التدقيق اللغوي. أنا أقرأ بعناية فائقة، والروايات دائماً طويلة جداً بالنسبة لي. أنا أبقى عالقاً في كل رواية تقريباً لأنني اعود خلالها إلى عالمي الخاص.

ماذا تقرأ؟

لا أقرأ سوى الكتب الِعلمية والفلسفية تقريباً. العِلم هو الذي يُغير العالم، وليس السياسة أو الفن. لقد باتت الثقافة العلمية هي الحاسِمة اليوم. أنا لا أفهم الكُتّاب الذين يتَعَمَّدون تجاهل المواضيع العلمية، فالشخص الذي ينسحب إلى تجربتة الخاصة البحتة فقط يُفَوِّت الكثير على نفسه.

هل أطفالك أهم بالنسبة لك من كتبك؟

كلا. كانت زوجتي ترغب في إنجاب الأطفال بشدة. إن حاجة المرأة الكبيرة لإنجاب الأطفال شيءٌ لا يُصدق. الأطفال بالنسبة للمرأة أكثر أهمية مما يمكن أن يكونه الرجل في أي وقت من الأوقات. لكنهم بالنسبة للرجل شيءٌ مُجردٌ تماماً

هل كُنتَ موجوداً عند ولادة أطفالك؟

نعم. بالنسبة لي، كان خروج كائن مِن كائن آخر شيئاً بَشِعاً للغاية. إنه سريالي تماماً. المرأة لا يُمكن أن تعيش هذا الشعور أبداً. إنها تُعاني من الألم ونوع من الغَضَب. أما الرجل فيعيشه كنوع من الجنون.

هل شعرت بالفَخْر كونك أصبحت أبا؟

نعم، وبشكل لا يُصَدَّق. ان ولادة الطفل الأول تصيبك بجنون العظمة.

سَقف وجُدران مرحاضك – الذي تُطلِق عليه تسمية “كنيسة سيستينا” – مَطلية تماماً حتى آخر سنتيمتر مربع فيها. فوق خزان المياه، تجلس فتاة عارية تدلي بساقيها من جانبي الخزان، ومن السقف يُحدِق مُختلسون لهم عيون حشرات. هل هذا عملك؟

كانت الجدران عارية تماماً، وقد تساءَلت مع نفسي عن سبب عَدَم وجود المَزيد من لوحات الفريسكو الجدارية حينها. ليست لدينا أماكن يمكننا اللجوء إليها، ولا حتى كنيسة خاصة. المرحاض هو المكان الوحيد. وقد فعلت ذلك على سبيل المزاح.

هل تقرأ في المرحاض؟

لا، ولكن تراودني الكثير من الأفكار هناك. إنها عملية تفريغ. في الماضي كان يُلجأ إلى سَحب الدم أو استخدام الحقن الشرجية. هناك شيء تأمُلي في المرحاض. لطالما تساءَلت عما إذا لا يفترض بي أن أصبح رسام مراحايض.

أنت تُعتَبَر أهم كاتب مسرحي باللغة الألمانية منذ بيرتولت بريخت، لكنك منذ السبعينيات تتعرض لإنتقادات بشكل حصري تقريباً.

ليس لهذا أي أهمية على الإطلاق. خُذ بيتهوفن على سبيل المثال. لقد تَمَّ شطبه تماماً بعد السيمفونية الخامسة. وفي النهاية عامله الناس كالأبله.

هل هناك نسبة من الظلام في روحك؟

أنا شخصٌ بشوشٌ جداً في الواقع. أحب المَرَح والمُزاح، لكن هناك أرضية داكنة.

لو أنك استبعدت كل الضحكات التي تأتي على حساب الآخرين، فهل تجد أنك تتمتع بِحِس الفُكاهة في الغالب؟

أنا مَصنوع من الفكاهة أساساً.

هل تتمتع بِحِسّ الفكاهة عندما تكون بمفردك؟

حينئذٍ بشكل خاص.

هل تنشأ الفكاهة من الاستسلام فقط ؟

لا. الفكاهة تولَد من مسافة بعيدة. الفكاهة هي قناع الحكمة، والحكمة مَريرة دون هذا القناع.

ما الذي يمكنك أن تتحمله فقط مع روح الفكاهة؟

أعرف آلآماً تجعلني أضحك، ولا أستطيع تحملها دون اللجوء للفكاهة.

هل يتغير حس الفكاهة مع تقدم العمر؟

إنه يزداد قوة. كلما تقدم بك السن كلما زاد تحولك إلى كوميديا.

هل هو وسيلة للدفاع عن النفس ضد اليأس الناتج عن اقتراب الموت؟

ما هذا الذي تقوله! اليأس بالنسبة لي كلمة رومانسية للغاية. أنا أتقبل اليأس عندما يطلق المرء رصاصة في رأسه. أنا أشعر فقط بتعب هائل أحياناً، لكني لست يائساً. أنا أعرف سبب شعوري بهذا التعب الشديد. عندما تُكافح طيلة حياتك ضد مرض ما فإن ذلك يرهقك للغاية أحياناً. لا بأس أن أقول ذلك هنا: أنا مُصاب بداء السكري الشديد. هذا مرض عضال، وهو يجلب الانشغال بالموت معه.

أصبت بمرض السكري عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمرك. كيف يظهر شعورك بالتعب؟

هناك كلمات يمكن أن تصف تعب المرءُ بعد تسلق جبلٍ، لكنني عجزت لحد الآن في وَصف التعب الذي يعاني منه مريض السكري لانعدام الكلمات المناسبة لذلك. إنه موجود كتمهيد أو أساس ويختفي فجأة – ثم يأتيك هذا الفَزَع عندما يعود ثانية. الشيء الوحيد الذي يساعدني في التغلب على تعبي الأساسي هو الكتابة. لو لم أكن مريضاً، لربما ما كنت لأكتب على الإطلاق.

ما الذي يحدث لك عندما ينخفض مستوى السكر في دمك؟

لقد أصبْتُ بحالة هبوط السكر وأنا في رحلة إلى نيويورك. أنتَ تشعر بانفعالٍ شديد وتَفقُد ذاكرتك. بعد انتهاء النوبة، أخبرتني زوجتي بكل ما فعلتُه. لقد هَجَمتُ إلى قمرة الطائرة على ما يبدو، وعندما حاول أحدهم تهدئتي بواسطة حقنة، قمت بَدفع الأطباء باتجاه الحائط. أنا أحب تناول الطعام وأسرف في الشراب. لكني لا أستطيع أن أعيش بالطريقة التي أريدها أبداً. من المُرَجَّح أن مرض السكري هو فراملي الكبيرة والضرورية، والتي لولاها لكنت قد لقيت حتفي منذ وقت طويل.

جاء برتولت بريخت إلى بازل عام 1949 لحضور مسرحية “رومولوس العظيم” (Romulus der Grosse)، وبعد انتهاء العرض ذهبْتَ لتناول الطعام معه.

كان بريخت ودوداً للغاية، بينما كُنتُ خجولاً من جانبي. لم أتحدث معه عن أي موضوع قَطْ سوى السيجارات. كان لدي سيجار رائع حقاً مصنوع في هافانا عرضتَهُ عليه، لكنه قال إنه لا يدخن سوى السيجار البرازيلي، وبأنه أقوى بكثير. إثر ذلك قلت له ان سيجار هافانا هو الأقوى على الإطلاق، الأمر الذي أدهشه تماماً، حتى أنه دعا عدد من الناس لمعرفة آرائهم. لم يكن ليريد أن يصدق ذلك أبداً. لقد انهارت معتقداته الأساسية فجأة؛ فالرجال الأقوياء في أعماله لا يدخنون سوى السيجار المصنوع في البرازيل، وقد أثَّر ذلك عليه إلى درجة امتناعه عن الحديث عن أي شيء آخر.

كيف سارت الأمور مع صامويل بيكيت؟

لقد زرته مرة واحدة. كانت باريس متوهجة كموقد حديدي. الرحلة بسيارة الأجرة بدت بلا نهاية، والسائق لم يكن يرتدي سوى قميص داخلي، وكان كريه الرائحة. استقبلنا بيكيت بلطف وحذر. تحدثنا بالفرنسية، الحرارة حالت دون نشوء أي محادثة. لم أكن أعرف أنه يتحدث الألمانية، وكما بدا، كانت لغتي الفرنسية مُسلية بالنسبة له. أكثر ما أثار إعجابي هو المنظر المُطل على سجن “لا سانتي” من نافذته، هذه القلعة الضخمة المُحصنة الأشبة بـ “اللوفر” التي جعلتني أدرك سبب كتابة هذا الأيرلندي الزاهد لمسرحيات كئيبة دائماً. في رأيي، كتب عملاً كبيراً واحداً هو: “فى انتظار غودو”، لكن غالبية أعمالة الباقية كانت مُكَرَّرة.

وماذا عن جان بول سارتر؟

ذهبت مع سارتر لزيارة موسكو ذات مرة، وكنا نشرب بدون انقطاع هناك. لقد جاء لزيارتي في منتصف الليل مع سيمون دي بوفوار، وكانا يخفيان أكوابا من الماء والفودكا تحت معاطفهما الواقية من المطر. كان الأمر مضحكاً للغاية، على الرغم من أننا لم نكن نفهم بعضنا البعض على الإطلاق في نواح أخرى. كان سارتر مهووساً بالأشياء دائماً. كان يفتقد إلى حس النكتة تماماً. كان ثورنتون وايلدر هو الشخص الوحيد الذي كنت متفاهماً معه حقاً. كان إذا ربت على كتفك وأنت مخمور، فسوف تسقط مَغشياً عليك.

تعرفت على ماكس فريش في منتصف أعوام الأربعينيات، وكان هو الآخر قامة مُتميزة خلال حياته.

لقد شَكَّلنا ذات مرة نجماً مُزدوجاً في سماء المؤلفين السويسريين؛ “كاستور” و”بولوكس” [آلهة أشقاء توأم في الميثولوجيتين الإغريقية والرومانية]. إنه الكاتب الحي الوحيد الذي كنت أتشاجر معه حقاً. الأمر المُذهل هو تِكرار ما كان يخبرني به بشكل حَرفي تقريباً في كتاباته. كان هذا هو النقيض المُطلق بالنسبة لي.

“كل ما أعيشه يغوص مرة أخرى في الظلام ليعود ثانية وقد تحول إلى شخصية غريبة تماماً”

ما الذي يعجبك في فريش؟

رؤيته لنفسه كحالة. هذا هو الصِدق الخاص به. فيما يخصني بالمُقابل، يبدو كل شيء وكأنه تَعَرَّض للتَصفية. كل ما أعيشه يغوص مرة أخرى في الظلام ليعود ثانية وقد تحول إلى شخصية غريبة تماماً لا أجد نفسي فيها إلا بعد وقت طويل.

مساعٍ مُتحمسة لانشاء صداقة، جَفاء تشوبه الكثير من ردود الأفعال المُبالغ فيها، مُشاجرات رهيبة ثم سنوات من الصمت المهين: ما الذي حوَّل العلاقة بينك وبين فريش إلى ميلودراما جاهزة للعَرض على المسرح؟

إنه شخصٌ سريع التأثر وحَسّاس للغاية، وهو أناني جداً ومُتَمَركز بشدة حول ذاتِه ومشاكله. إنه رجل مُفعَم بالحيوية، لكن ما يكتبه مُريع أحياناً. إنه مؤلف إخفاقات غريب. ما يضايقني فيه هي هذه الأكاذيب، حتى في رواياته، مثل “مونتوك” (Montauk) التي مَرَّرها باعتبارها سيرة ذاتية. لكنك لو عرفته شخصياً لهزَزتَ رأسك [مُستغرباً] فقط. لا يوجد شيء حقيقي في هذه الرواية. لقد عَرَّفَني على كل إمرأة كانت معه، وكان يُقسِم بأن الله سوف يلعنه لو خانها. هذا شيء بَشِع ببساطة. هذه الرومانسية في الحب غريبة عني تماماً، هذا التعذيب الذاتي الهائل. أنا ما كنت لأستطيع فعل ذلك على الإطلاق. هذه المشاكل سخيفة للغاية على خلفية الصعوبات التي يواجهها عالم اليوم. إنه هروب من الواقع. على المرءِ أن يتعامل مع صعوباته الشخصية بنفسه. أنا لا يهمني الانشغال النرجسي المُفرَط بالنفس.

هل تتقرر حياتنا في المحيط الخاص وليس في المجال السياسي؟

بالطبع، لذا فإن فريش المولود للحصول على جائزة نوبل أكثر أهمية مني بعشر مرات. إنه يعيش في محيطه الخاص، وبإمكان القارئ ان يميز نفسه في كتاباته. إنه يُبهِر المثقفين. إنهم يجدون في كتاباته تلك الصعوبات الموجودة لديهم، أو التي يعتقدون أنها يجب أن تكون لديهم أيضاً. مشاكل زوجية، مشاكل مُجتمعية، مشاكل الهوية وما إلى ذلك. أنا من ناحية أخرى، لا أجد نفسي مثيراً للإهتمام لهذه الدرجة، وأتساءل مَنْ ذا الذي يهْتَم بحياتي الخاصة.

“النسيان هو الشيء الأهم بالنسبة للذاكرة”

هل هذا هو سبب عدم كتابتك لمذكراتك أبداً؟

النسيان هو الشيء الأهم بالنسبة للذاكرة. إنه يقوم بتصفيتها. كتابة المذكرات توقف الزمن وتَمنع النسيان. الشخص الذي لا يستطيع أن ينسى شيئاً سيكون جهاز كمبيوتر يُغذى بالحقائق باستمرار. لولا النسيان لكانت الحياة لا تطاق، وخلف كل ذكرى ستكون هناك ذكرى أخرى. النسيان فقط يجعل الوقت مُحتمَلاً والتذَكُّر قابل للتشكيل.

كتب فريش عنك: “لقد أدرَكْنا منذ وقت مُبَكر أننا كُنّا نقف على أرض مُختلفة. كان كلٌ واحد منّا ظلاً للآخر، وهو ما أضفى قتامة على كلينا. المُزعج هو أن دورَّنماتّ يَحكُم على الشريك بالافتقار لروح الدعابة. إنه يَسخَر من الشريك، لكنه بالكاد ما يضحك معه. إنّه يتفوق عليك في خِفة الظل، وهو يجب أن يتفوق، وإلا فإنه سيكون مُجرد مهووس يعاني من نقص. لا يهمه ما يعرفه الآخر، ولكن أن يكون في الصدارة. إذا لم يخطر ببِاله شيءٌ فإنه لَن يكون موجوداً على الإطلاق. لو كانت صداقتنا قائمة إلى الآن، لكان بإمكاني الإتصال به وإخباره بأنه “أحمق”، وكان سيجيبني بأنه كان “ثملا” حينها. ولكني سعيد هكذا: لقد تَحَرَّرت، والصداقة إنتهت”.

ربما كانت حقيقة اضطرارنا إلى الابتعاد عن بعضنا البعض مَحتومة. لقد جَرَحنا بعضنا البعض. وكلٌ منا يَحمِل ندوبه الخاصة.

هل انت صديق نفسك؟

أنا لستُ عدو نفسي بالتأكيد. السؤال هو: هل تُحِب نفسك؟ إذا وَجَدْتَ نفسك مُرغماً على الضحك على نفسك، فلديك مسافة بينك وبين نفسك أيضاً.

يقول فريش إنه مُدمن على الكحول. أنت تُحِب الشراب الفاخر وتُسرِف في الشراب، ولا تُمانع من تقديم نبيذ من نوع Château Lafite-Rothschild Pauillac 1875 لضيوفك. ولو أوشَكَتْ الزجاجة على النفاد، فسوف تَحتفل بتلك اللحظة بشرب كونياك عمره مائة عام.

كنتُ أدخن دائماً أفضل أنواع السيجار، وكما ترى الآن بنفسك، أشرب أفضل أنواع النبيذ أيضاً. أنا أُقَصِّر عمري من خلال ميلي لإدمان الكحول، وأطيله من خلال التنزه سيراً على الأقدام.

تبدو علاقة فريش بسويسرا أكثر توتراً من العلاقة بينكما.

فريش يُعاني من سويسرا. هناك علاقة عدائية بينهما تاخذ أشكالاً مؤرِقة. قبل سنوات، قُمتُ بزيارته في منزله على الضفة اليمنى لبحيرة زيورخ المُسماة بـ “الساحل الذهبي”. حينها أشار إلى الفيلات المجاورة وقال: “هنا يعيش أعدائي”.

“أنا لا أعاني من سويسرا، لكني أجدها غريبة”

لقد تجَسَّسَت عليك الشرطة وراقَبَتك طوال عقود. هل انت غاضب من بلدك؟

أنا لا أعاني من سويسرا، لكني أجدها غريبة. أجد وضعي أشبه بوضع كارل كراوس مع فيينا: ما أطلبه من أي مدينة هو أن تعمل بكفاءة. أما المَرَح فأجده في نفسي. هناك حكمة قديمة تقول: “من الجميل أن تولد سويسرياً، ومن الجميل أن تموت سويسرياً، لكن ما الذي تفعله في الوقت بينهما”؟ جوابي، وعلى الطريقة السويسرية هو: أقضيه بالعمل.

تزوجتَ في عام 1946 من لوتي غايسلر، المُمثلة التي أثارت ضجة كبيرة في سن السابعة عشرة باعتبارها “أصغر نجمة سينمائية سويسرية”، والتي تخَلَّت لاحقاً عن مسيرتها المهنية من أجلك، وعانت من الاكتئاب ومن إدمان الكحول والأدوية. خلال زواجكما الذي استمر لأكثر من ستة وثلاثين عاماً، هل كانت لديك علاقات عاطفية؟

بالطبع، لكن هذا كان نادراً جداً لأنه كان سيمزقني. المشاكل الزوجية تُحبطني لدرجة أنني لا أستطيع تَحَملها على المدى الطويل. عندما كنت أمر بعلاقة عاطفية، كنت أتحدث مع زوجتي فوراً عن الأمر. لم أكن لإستطيع إخفاء ذلك على الإطلاق. بالطبع كان يتبع ذلك – لِنَقُل – خلاف.

خلاف؟ عندما اعتَرَفتَ لزوجتك عن علاقتك بِمُمثلة شابة، قامَت بِقَطع شرايين مِعصمها بِشَفرة حلاقة. وقد شهدت ابنتك روث ما حدث وعانَت من الكوابيس لسنوات طويلة.

الأمر المخيف هو أنني أرى نفسي كنوع من الطفل العملاق الذي يحمل أحلاماً يصعب تحقيقها. هناك الكثير من العناصر الطفولية والصبيانية في داخلي، وهناك الكثير منها أيضاً في شهوتي الجنسية. هناك تطلعان متعارضان في الرجل، تطلعات حيوية لا حدود لها تجعله يريد معاشرة كل امرأة جميلة يستطيع الحصول عليها، وتَطَلُّع يربطه بزوجته لكي يظل منتجاً.

“الزواج مسألة نظام، والإنسان بحاجة إلى النظام”

هل كنت ستخترع الزواج من تلقاء نفسك؟

اعتقد ذلك. الزواج مسألة نظام، والإنسان بحاجة إلى النظام. في الواقع لا يمكنني أن أتخيل حياتي بدون زوجة.

ما هي المشاكل التي يحلها الزواج الجيد؟

الشخص الذي يعاني من مشاكل عليه أن لا يتزوج.

هل تتحدث مع النساء عن الفلسفة؟

الحديث عن الفلسفة موضوع يخص الرجال على الأكثر. لا تكاد توجد أي امرأة بين الفلاسفة لأن النساء يفكرن بشكل مختلف تماماً. المرأة لا تحتاج إلى التفكير بالمعنى الذكوري. كما ان حاجتها للفن – إنتاج الأعمال – أقل بكثير. إنها أكثر ارتباطاً بالجسد لأنها تمثل الأرض من الناحية البيولوجية. ان وجود الرجل غير ضروري إلى حد ما، إنه استهلاك هائل للطبيعة. هذا هو عيبه الذي يتعين عليه تعويضه من خلال العمل الفكري.

توفيت زوجتك في عام 1983 عن عمر يناهز الثالثة والستين. في ذلك الوقت، فقدت رغبتك في الحياة تقريباً.

لقد داهمتني هذه العبثية الكبيرة. قبل ذلك كنتُ أنا نفسي، لكنني الآن اصبحتَ أمَثِل نفسي – قَدَر ما أستطيع. كانت حياتي قد أصبحت بدون معنى. كنت كقاطرة ألقيَت من على المَسار واستمرت في إطلاق البخار بدون طائل.

بعد ثمانية أشهر، تحول شعورك بالكآبة إلى بهجة. وقد صف ماكسيميليان شيل السبب فقال: “في مرحلةٍ ما قررت مُساعدة فريتز على تجاوز وادي الدموع. وهكذا بدأت أعَرِّفه تدريجياً على جميع النساء اللواتي كن قد إجتَزنَ سناً مُعينة، واللواتي كنت أعلم أنهن غير مُرتبطات، ويمكنني افتراض احتمال إعجابه بهن. كانت بينهن الفنانة شارلوت كير، الممثلة وصانعة الأفلام والصحفية التي كانت تحظى باحترام كبير”.

شارلوت تعرف الله والعالم، وأنا لا أعرف إلّا الله. وحتى هو لا أعرف عنه سوى القليل.

في شهر مايو من العام التالي، وبعد ستة عشر شهراً من وفاة زوجتك، تزوجتم أنت وكير – لتتصدر أخباركما عناوين الصحف الشعبية: فمن ناحية، كان هناك الجمال الألماني الذي ألِف حياة النُخبة، المرأة المُتَسَلِّطة والسريعة الغضب، التي وقفت أثناء حفل الزفاف أمام الكاميرا مُرتدية البيكيني، لتوضح ان التمريض ليس من ضمن أعمالها بل مِن مَهام المُستخدمين. ومن ناحية أخرى، هناك الكاتب السويسري المُتحفظ شديد البدانة، الذي يميل لاحتساء الشراب ويرتدي قمصاناً قذرة عن قناعة. ما الذي جعلك تتزوج ثانية بهذه السرعة؟

الحب. ولأنني لا أستطيع أن أتحمل نفسي لوحدي. العيش في وَحدة ليس بالمغامرة. لا يزال الزواج من أكثر الأشياء ميلاً للمغامرة لدى الإنسان. ولا يزال الفَشل معاً كزوجين مُشرفاً أكثر من الفشل لوحدك. الحياة كشخصٍ وحيد تجعلك تتحدث مع نفسك، بصورة معزولة وبدون صدى. ان مصير الناس يتوقف على سؤال: هل يستطيعون أن يعيشوا معا أم لا؟

هل تشعر بالذَنب عندما تفكر في زوجتك الأولى؟

إن لوتّي لَن تُنسى أبداً. لا أعتقد أنها تريد أن أقضي بقية حياتي وأنا أتجول كالحمل الضائع الذي يتعثر وحيداً بين المروج ويموت من الوحدة. انا بحاجة الى امرأة.

هل خَطَر ببالك أن الزواج قد يكون شكلاً تقليدياً للعلاقة؟

يمكن للجميع العَيش معاً. لكن الزواج عمل فني دائماً، تماماً مثل إقامة دولة. الزواج بالنسبة لي هو عمل إبداعي، فأنت تحاول أن تخلق شيئاً وتحافظ عليه. في حالة العيش معاً [بدون زواج]، هناك دائماً باب خلفي. أنا شخص غيور، وإذا كُنتَ مُجرَّد حبيب، لا يحق لك حقاً أن تغار. في النهاية، كان عطيل متزوجاً. الزواج يُضفي الشرعية على الغيرة.

لقد عرَضتَ الزواج على كير سبعة عشر مرة. كيف كان شعورك عندما قالت نعم؟

لقد انتصرت عليك يا جنكيز خان.

بعد عامين من الزفاف، أهديت كير رحلة هليكوبتر مُشتركة حول جبل ماترهورن وحول الوجه الشمالي لجبل إيغر. ألا تتعارض طبيعتك مع هذا النوع من المغامرات في الهواء الطلق؟

هذه هي مأساة كبار السن من الرجال مع الشابات: إما أنهم يدفعوهن إلى العيش وفق معاييرهم، أو أنهم يتقمصون دور الشباب ومن ثم لا يستطيعون مُجاراة التيار.

هل تؤمن بوجود حياة بعد الموت؟

ربما لا يوجد شيء من هذا القبيل، وربما يكون هناك وَعي مثل الأمواج على البَحر. الانشغال بالموت هو أصل الثقافة. لقد اختَرَع الإنسان الآخرة والآلهة والله خوفاً من الموت. الثقافة بأكملها مَبنية لمواجهة الموت. لكن علينا أن نفهم الموت على أنه ضروري، فبدون الموت لا يوجد هناك تطور. لو كنا خالدين، لما كان هناك على سطح الأرض سوى عصيدة من كائنات أحادية الخلية لا تتوقف عن الانقسام.

بماذا تؤمن؟

بحدود المعرفة وقوّة الخيال. العقل البشري هو أروع شيء في هذا الوجود، انه أروع حتى من الإله الذي يستطيع ابتداعه.

وماذا لو وقفت أمام الله يوماً ما؟

لو كان هناك إله، فلا بُدَّ أن يكون لديه حس دعابة لانهائي. لا بُدَّ أنه يشعر بِمُتعة كبيرة عندما يفجر العوالم، إنه أشبه بطفلٍ صغير يلعب مع جنود من الصفيح، إنه وبكل ببساطة يستمتع بالمشهد بأكمله. وهذا الشيء موجود دون وعي لدى الشخص المُبدع أيضاً.

(*) نشرت هذه المقالة الطويلة أول مرة في مجلة “داس ماغازين” الملحقة بصحيفة تاغس أنتسايغر الصادرة بالألمانية في زيورخ رابط خارجيبمناسبة حلول الذكرى المائوية لولادة فريدريش دورنمات، وسمحت لـ SWI swissinfo.ch بنشرها بالعربية.

المزيد
قطعة مرطبات صغيرة تعلوها شمعة

المزيد

مشاهير سويسريون فارقوا الحياة في عيد ميلادهم

تم نشر هذا المحتوى على إنه نادٍ انتقائي لا يضم في صفوفه كثيرين ولكن قد لا ترغب بالضرورة في الانضمام إليه.. هو نادي “الموت في عيد ميلادك”. مع ذلك، فإنك ستكون فيه بصُحبة جيّدة، رفقة أعضاء سويسريين من بينهم عالمٌ وقائدُ منطاد من الرواد، ومتسلقُ جبال محطم للأرقام القياسية، وفوضويّ أصبح واحدا من أفضل الطهاة في العالم.

طالع المزيدمشاهير سويسريون فارقوا الحياة في عيد ميلادهم

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية