مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“تأثير المانغا”.. كـوْنـيّ يخترق الثقافات والحدود

"تأثير المانغا"، هو العنوان الذي اختاره مهرجان السينما الدولي في لوكارنو للمراجعة الشاملة، التي يُـؤثِّـث بها دورته الحالية، ويستعرض من خلالها العالم الملحمي للصوّر المتحركة اليابانية بأبطالها وشخصياتها المحبَّـبة والغرائبية.

بدا فريديريك مير، المدير الفني للمهرجان الدولي للسينما في لوكارنو، مترددا ومتلعثما عندما قدّم إيساو تاكاهاتا، باعتباره أحد “أكبر السينمائيين في العالم”. إضافة إلى ذلك، يُـكرَّم المخرج والأستاذ في مجال الصوّر المتحركة اليابانية بمنحه جائزة الفهد الذهبي للمهرجان. وفي الواقع، تمكّـن إيساو تاكاهاتا، مؤلِّـف العديد من الروائع الأصيلة في تاريخ السينما اليابانية، من ترحيل التقليد القديم الرائع للمانغا إلى العصر الحديث.

البدايات..

انطلق كل شيء من شريط صور متحرِّكة فرنسي يحمل عنوان “الراعية ومنظف المِـدخنة” لبول غريمو، الذي يُـمثل بالنسبة لتاكاهاتا، المدخَـل لتعلُّـم فنّ الصور المتحركة. في الوقت نفسه، أتاح له عِـشقه للثقافة الفرنسية الاتصال بمُـبدِع مُـميّـز آخر، وهو ميشال أوسلو، مؤلِّـف Kirikù وKarabà.

إثر ذلك، جاء الدور على الأستاذ الكبير تاكاهاتا لفتح الأبواب مـُشرعة على عالم شديد التعقيد، تمتزج فيه مهارة الرسم بالخيال المُـبدِع وبالأساطير والفلسفات، لنسج خيوط عالم المانغا، الذي تحوّل إلى مرآة عاكسة لتنوّع ثقافي قادِر على إبلاغ تصوّرات جمالية وفلسفية، حتى في أكثر الأشكال الروائية بساطة.

ويُـمكن القول أن هذا الاستخدام للأيقونات الشديدة التأثير، عاطفيا، هو مفتاح نجاح المانغا، التي اقتحمت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بيوت وقاعات العالم الغربي (والعربي والخليجي والإفريقي وغيره تاليا)، ونجحت في اكتساب جمهور الشباب. ويذكُـر الجميع أن العديد من الآباء وصنّـاع الرأي وقفوا حينها بقوّة ضدّ أبطال الصوّر المتحرِّكة، مثل Goldrake وMazinga وDragon Ball وAkira، باعتبارها تافهة جدا وعنيفة جدا، لكن اتّـضح لاحقا أن هذه الأحكام كانت متسرِّعة جدا.

عالم المانغا.. الخاص بي!

في شريطه Pom Poko، الذي يُـعرض مساء الاثنين 10 أغسطس في الساحة الكبرى في لوكارنو (جنوب سويسرا9، يروي إيساو تاكاهاتا حكاية بيئية رائعة، تميط اللثام عن تصرّف الإنسان المدمِّـر للطبيعة، حيث تتحالف الـ Tanuki، وهي حيوانات صغيرة يتميّـز بها اليابان، لدراسة البشر وتخويفهم باستخدام تقنية عفا عليها النسيان، وهي القدرة على التغيّـر حسب الرغبة.

ويوضِّـح إيساو تاكاهاتا، المطّـلع كما ينبغي على التنوع الثقافي الذي يُـميّـز بلاد الشمس الساطعة، مقارنة بذلك الجزء من العالم في الغرب، الذي تغرُب فيه الشمس، أنه: “في اليابان، توجد الحيوانات على نفس مستوى الكائن البشري”. وفي أشرطته للصوّر المتحركة، تـُستخدم قدُرات الحيوانات على التبدّل، من أجل التواصل مع الكائنات البشرية. ومثلما يقول تاكاهاتا نفسه، فإن هذه القدرات “تصلُـح لإعادة الاتصال المباشر مع الطبيعة، الذي ألحقت به الحداثة ضررا كبيرا، وتلعب الحيوانات دور الوسيط، لتمكيننا من الفهم”.

على صعيد آخر، تُـعتبر العلاقة مع الطبيعة عُـنصرا كثير التِّـكرار في أشرطة المانغا، فهي تروي كيف يُـدمِّـر الإنسان الطبيعة وتُـدين الأضرار الناجمة عن التلوّث. وفي معظم الأحيان، تتمثل الرسالة التي يُـراد إبلاغها، في (الدعوة) إلى استعادة التوازن والإنسجام القديمين بين الكائن البشري والطبيعة، وهو مفهوم راسِـخ في معتقدات شَـنتو Shinto، (وهي ديانة اليابان الأهلية، التي تُـمجِّـد الأجداد وقوى الطبيعة).

كائنات بشرية.. آلات وأبطال خارقون للعادة

بنظرة متعمِّـقة، يُـمكن القول بأن المانغا تعبِّـر عن الثقة تُـجاه الكائن البشري. وفي معظم الحالات، يكون الهدف من حضور شخصيات في شكل إنسان آلي، تضخيم قيمة المشاعِـر والكشف عن التفوّق الهائل للطبيعة الإنسانية الكامنة، التي تتوفّـر على مصادر قوّة غير متوقّـعة وتمتلك قُـدرة على اتّـخاذ خطوات مفاجئة أو على التأقلم السريع أو على الإبتكار المُـذهل، على عكس الآلات العاجزة عن التفكير خارج الأنماط المنطقية والعقلية المحدّدة سلفا لها.

الخبير الإيطالي في الفلسفات الشرقية مارتشيلو غيلاردي، كتب في واحد من أشهر مؤلّـفاته يقول: “تتمثّـل جدارة المانغا في احتفائها الإيجابي باللاعقلانية الإنسانية وبالقدرة الهائلة للأنا، في عصر يتفاقم فيه الرضوخ للآلات والتكنولوجيا، الذي وصل إلى حدّ خنق الوجود من طرف البيروقراطية”.

في أشرطة المانغا، تنعكِـس أيضا مميِّـزات أخرى للثقافة اليابانية، مثل قوة الجماعة. فالأبطال الاستثنائيون الأمريكيون، عادة ما يكونون شخصيات بقدرات خارقة للعادة وأصحاب قوّة تفوق البشر، وهم يتحرّكون ويتدخّـلون بطريقة فردية، مثل Batman وSuperman وSpiderman. في المقابل، عادة ما يكون الأبطال اليابانيون على العكس من ذلك، مراهقين معرَّضين لكافة أنواع الأذى، وهم يقودون إنسانا آليا (Robot).

وفي الوقت الذي يستخدِم فيه الأمريكيون القوة الصماء (مثلما أشار إلى ذلك نُـقّـاد معروفون مثل لوكا رفائيللي وأليسيا مارتيني)، يلجأ اليابانيون إلى قوة الإرادة والشعور بالواجب والمبادئ الأخلاقية وإلى عمل الفريق.

مدارس جمالية وثقافية خارج الحدود

المخرج الأمريكي Quentin Tarantino، هو أحد الذين سحرتهم جاذبية المانغا، دون إبداء أدنى مقاومة، بل تحوّلت هذه الجاذبية إلى الخميرة التي غذّت Kill Bill، إحدى روائع أعماله التي لا جدال فيها، وهو شريط لا يتضمّـن أجزاء من الصوّر المتحركة فحسب، بل يُـدرجُ مدوّنات جمالية وروائية، مثلت تكريما رائعا للثقافة اليابانية ولشخصيات الساموراي.

الناقد السينمائي كارلو شاتريون، الذي أشرف على إعداد هذه التظاهرة (أي “تأثير المانغا”)، لا يربِـطه بها عـشق كبير أو ولع شديد، لكنه مراقِـب نبيه، ويوضِّـح في حديث مع swissinfo.ch أن “(تأثير المانغا)، مشروع ظهر للوجود، بحثا عن تحليل للتأثيرات التي أحدثها المانغا على الأشخاص (عموما)، وليس على المبدعين السينمائيين (فحسب)”.

ويواصل شاتريون قائلا: “بشكل ما، نُـمثِّـل نحن الجواب (على هذا السؤال). فإذا ما أنجز اليوم مهرجان لوكارنو والمتحف الوطني للسينما في تورينو هذه المراجعة (الشاملة) للسينما المتحركة اليابانية، فهو الدليل على أن إنتاجا كان يُـعتبر بدائيا وغير تربوي في الستينات، دخل في الواقع إلى حياتنا كما أن حضوره لا زال متواصلا”.

وبعد أن انغمس في عالم المانغا، يُـشدّد شاتريون على أن الصوّر المتحركة اليابانية نجحت في “رفع الحواجز لدى جمهور شابّ عن قضايا بدا أنها حُـسِـمت (أو أغلِـق الحوار بشأنها)، مثل الموت والألم وفقدان الوالدين والطبيعة المهدّدة”، بل يُـمكن القول أن الصوّر المتحركة اليابانية وسينما المانغا عموما، قد ساعدت جزئيا الشباب في العالم الغربي على اقتحام المجتمع والدخول فيه، فمعظم الأبطال لا يتوفّـرون فيها عادةً على قدرات استثنائية، لكن جميعهم يمتلكون قوة عزيمة كبيرة تسمح لهم بتجاوز صعوبات الحياة.

ومع أن المدوِّنات الثقافية والجمالية، عادةً ما تعبّـر عن اختلاف طبيعي، إلا أن الرسالة المُضمنة فيها كونية الطابع في واقع الأمر. ويُـعلِّـق كارلو شاتريون “لا شكّ أن إيساو تاكاهاتا عبّـر عن ذلك بشكل جيد جدا، حيث قال: (رغم وجود فوارق ثقافية قوية جدا، فنحن جميعا يابانيون وإيطاليون وأمريكيون. إننا تعبير عن نفس الصِّـنف البشري). فعلا، من غير الممكن أن يقدِّم جوابا أفضل”.

فرانسواز غيهرينغ – لوكارنو – swissinfo.ch

(ترجمه من الإيطالية وعالجه كمال الضيف)

ولِـد في عام 1935، وهو مُـنشِّـط ومخرِج ياباني. بعد أن اختتم دراساته العليا، سجّـل في جامعة طوكيو الشهيرة، ليتابع دروس الأدب الفرنسي وتحصّـل على الإجازة في عام 1954.

شديد الإعجاب بشعر Prèvert عشِـق السينما الفرنسية ودرس في فرنسا أيضا.

ألّـف تاكاهاتا المسلسلات التلفزيونية Heidi (1974) وMarco (1976) و”أنّـا ذات الشعر الأحمر” (1979)، ثم أسس في عام 1985 بالاشتراك مع هاياوو مييازاكي، أستوديو Ghibli الشهير. ومن بين أشهر أعماله، “قبر للحلزون” (1988) و”بوم بوكو” (1994) و”جيراني اسمهم ياماداس” (1999).

تتركّـب كلمة مانغا من جزأين: مان، وتعني الصورة وغا، التي تعني السريع، ولدى جمعهما في كلمة واحدة، يُـصبح المعنى صور سريعة. أما اليوم، فتُـطلق الكلمة للتبسيط على كل الأشرطة المتحرِّكة اليابانية.

يرمُـز تعبير الصور المتحركة في هذا السياق، إلى المسلسلات المتحرِّكة التي تُـنتجُ انطلاقا من قصّـة موجودة في أحد أشرطة المانغا.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية