مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“حتى في سويسرا يُستخدم الماضي كوسيلة دعائية”

Jakob Tanner

يدور في سويسرا، شأنها شأن غيرها من بلدان العالم، صراع حول التفسير السياسي للتاريخ. وفي مواجهة مساعي التعديل التحريفية الرامية إلى موافقة إشكاليات الماضي مع الحاضر، يقترح المؤرخ السويسري جاكوب تانر نهجًا مغايرًا يفتح الباب بوجه أسئلة وانتقادات جديدة للماضي الذي لا يزال يُهيمن على الحاضر.

هو أستاذ مشهور في مجال التاريخ المعاصر وسويسرا بجامعة زيورخ. كان عضوا باللجنة المستقلة للخبراء الذين أسندت لهم مهمّة تسليط الضوء على دور سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية. ومن آخر ما أصدر كتاب “تاريخ سويسرا في القرن العشرين” (ميونيخ، 2015).

لم تكن كتابة التاريخ بريئة يوما ما ، ومع صعود الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة وإعادة تأميم السياسة على نطاق عالمي ، تحوّلت ، أكثر فأكثر ، إلى ميدان معركة أيديولوجية ، تسخرها التيارات السياسية المختلفة لخدمة تفسيراتها ، مما يجعل كل مؤرخ حرّ يتساءل إلى أين يتجه العالم.

وعلى وجه الخصوص ، ما يحصل من تغيير في تفسير تاريخ الحرب العالمية الثانية التي كانت وما زالت تمثل مرجعية رئيسية في خلافات الذاكرة السياسية ، ونضرب على سبيل المثال ما حصل في المجر وبولندا حيث قامت الحكومتان المستبدّتان بتسريح مدِيرِي المتاحف العلمية الشهيرة ، وإعادة بناء المعالم الأثرية ، وتجميل صورة العملاء النازيين على أنهم شخصيات وطنية مخلصة ، أضف إلى ذلك ، إخراج جامعة أوروبا الوسطى من بودابست بدافع معاداة السامية.

مثل هذه التوجهات أصبحنا نشاهدها أيضًا في أوروبا الغربية ، ففي عام 2005 ، قررت الجمعية الوطنية الفرنسية وجوب تدريس الطلاب “الدور الإيجابي” للاستعمار الفرنسي في إفريقيا لكي تفخر “الأمة الفرنسية العظيمة” بدورها الحضاري ، ومثل هذه المساعي التفسيرية هي التي توصف بأنها “تحريف للتاريخ”.

ويجدر بالذكر أن مصطلح تحريف التاريخ وفق ما يحصل على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يختلف لاختلاف تفسيره السياسي ، ذلك أن التيارات اليسارية هي من يقوم بعملية التبديل التاريخي ، من منطلق رفض الادعاء العريض بأن الولايات المتحدة هي الدولة المختارة التي تكافح ، منذ تأسيسها في القرن الثامن عشر ، من أجل الحرية والمساواة والرفاهية لأكبر عدد من الناس.

هذه الصورة الباهرة ، يعترض عليها منتقدوها عبر تقديم طرح آخر مختلف يسلط الضوء على القمع والاستغلال باعتباره الدور الرئيسي ، في حين تركّز الحوارات في جوهرها على موضوع ربط العبودية بالرأسمالية ، ويقرر المؤرخون التنقيحيون ، استنادا إلى دراسات حديثة ، أن “رأسمالية مانشستر” و “عبودية المسيسيبي” عملتا كوحدة واحدة ، وأن الأصول العنصرية للتاريخ الأمريكي لم تتغير منذ ذلك الحين ، سوى القليل.

تحريف وتهوين

يرتبط مصطلح “تحريف التاريخ” عند أهل اللغة الألمانية بشيء مختلف تمامًا ، وأول ما يتبادر إلى أذهانهم منكرو الهولوكوست ، الذين يمتازون بهجومهم على اليهود وعدم احترامهم لحقوق الإنسان ، وتُمجّد تياراتهم ، المنتشرة في العديد من الدول ، الاشتراكية القومية والفاشية أو تهوّن من شرّهما ، ولا تزال تشكل هذه المجموعات اليمينية المتطرفة خطرا بالغًا.

المزيد
Vereidigung des Schweizer Bundesrats 1943

المزيد

حينما أجبر الشعب السويسري حكومته على التراجع عن الحكم الشمولي

تم نشر هذا المحتوى على في أوقات الأزمات تعتبر الديمقراطية شديدة البطيء. لذلك، وعشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، أعطى البرلمان الفدرالي السويسري الحكومة الحق في الحكم بقانون الطواريء. حيث أصبح من حق الحكومة الفدرالية وحدها اتخاذ القرارات، دون التقيد بالبرلمان ـ وكان هذا من شأنه جعل الحكومة أكثر قدرة على التصرف إبان الحرب.  البرلمان يظل بلا خسائر في نفس الوقت…

طالع المزيدحينما أجبر الشعب السويسري حكومته على التراجع عن الحكم الشمولي

ومع مرور الوقت ، حصل تحوّل في المواقف ، ولم تعد النزعة التحريفية بالإنكار الصريح لجرائم الاشتراكية القومية ، وإنما بعرضها كأحداث منفصلة ، أو بالتقليل من شأنها ، فمثلا المتطرف اليميني بيورن هوكي من حزب البديل الألماني ، يسْخر مما أسماه “سياسة المواجهة الغبية” للماضي ، التي “تُظهر التاريخ الألماني كما لو كان تافهًا ومسخرةً” ويدعو إلى “الاستدارة بالذاكرة السياسة بمقدار 180 درجة”.

وفي عام 2019 ، اعتمد البرلمان الأوروبي قرارًا بشأن “أهمية الوعي التاريخي لمستقبل أوروبا” ، ونص صراحة على أن “بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ، تجري عمليات تعديل تاريخية تمجّد الأشخاص الذين تعاونوا مع الاشتراكية القومية”.

وأن البرلمان الأوروبي: “مستاء من (…) عودة الفاشية والعنصرية وكراهية الأجانب” ، وينتقد حقيقة أن بعض الحكومات – وخاصة الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية – تدعم هذه التوجهات ، كما استهدف نص القرار الحكومة الروسية لأنها تسعى إلى: “تزوير الحقائق التاريخية” و “إخفاء” الجرائم التي ارتكبها الاتحاد السوفيتي في أيامه.

سويسرا والحرب العالمية الثانية

وفي سويسرا أيضًا ، لا تزال الحرب العالمية الثانية نقطة خلاف محورية في السجالات التاريخية السياسية ، وممّا امتاز به اليمين السويسري أنه نأى بنفسه عن الاشتراكية القومية بعد عام 1945 واعتبر مناهضة الشيوعية أولى التزاماته بالديمقراطية.

وفي فترة ما بعد الحرب ، قدم المتطرفون اليمينيون أنفسهم على أنهم وطنيّون خُلّص ، وصرّحوا جميعا بأنهم كانوا أيام المقاومة جزءًا منها ، وإذا ما أمكن إثبات العكس ، لاذوا بـ”حق النسيان”.

كما وأن محاولات إعادة تفسير مسارات الحياة الفردية لا تزال موجودة حتى اليوم ، ففي السيرة الذاتية التي نُشرت مؤخرًا للمستشار الفيدرالي السابق فيليب إتِّر صاحب المسيرة المهنية الطويلة (1934 – 1959) ، الذي اتهمه كثير من معاصريه بالانتهازية خلال الحرب العالمية الثانية ، ساق المؤرخ توماس زوغ تبريرات وجيهة بحقه ورسم شخصيته على أنه قاضٍ قدم تنازلات ، وتصريحات معادية للديمقراطية ، لأسباب لا تعدو أن تكون “تكتيكية”.

وأيضا ، توجد تفسيرات مماثلة في الدراسة التي قام بها تيتوس ماير حول المنظمة السرية “P-26” ، التي شكلها 400 مواطن ، وتضم 80 خلية ولديها ترسانة أسلحة خاصة بها ، والتي اعتبرتها لجنة التحقيق البرلمانية (تحت هيمنة الأحزاب البرجوازية) ، المشَكّلة في عام 1990 ، أنها تمثّل: “تهديدًا محتملاً للنظام الدستوري” ، ذهب ماير أن أعضاءها كانوا أبطالًا صامتين.

وعلى الرغم من ذلك ، وعلى عكس دول مثل بولندا والمجر ، حيث يتوافق تصحيح التاريخ مع سلطان الدولة ويصبح خطرًا حقيقيا على علم التاريخ ، فإن المشهد السويسري للأبحاث يتميز بمزيج مثمر من المهنية والفضول ، فبالإضافة للمناقشات العامة ، يتم باستمرار تناول مواضيع ومصادر جديدة للتاريخ الوطني السويسري ودمجها في مناقشة نظرية عالمية.

وحاليا ، لدينا دراسات ، ذات آفاق واسعة ، حول الملاذ الضريبي السويسري ، وتجارة العبور ، وسويسرا بعد حقبة الاستعمار ، وتاريخ الهجرة ، ويتم انطلاقا من الدراسات السابقة فحص دور الشركات وإنتاج الأسلحة والحماية المدنية والحركات الاجتماعية ومجموعة كاملة من الموضوعات المهمة المتعلقة بالثقافة والأجناس وتاريخ المعرفة.

واللافت أن الحدود بين الأبحاث الأكاديمية وأبحاث الهواة نفاذة ، ففي العام الماضي ، على سبيل المثال ، قدّم ثلاثة صحفيين دراسة مستندة إلى أدلة حول “محتجزي معسكرات الاعتقال السويسرية”.

وفي حين تعيد عملية تصحيح التاريخ اليمينية إنتاج الأسئلة القديمة في قالب تفسير وطني ، تعبّر مناهج البحث الحديثة عن حق كل جيل في طرح أسئلة جديدة حول الماضي ، وبهذه الطريقة المزدوجة ، لا يتسع مجال المعرفة التاريخية فحسب ، بل تتغير الصورة العامة للتاريخ ككل في كامل فضاء التغطية الإعلامية.

الآراء الواردة في هذا المقال تخص الكاتب وحده ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء swissinfo.ch.

سلسلة “وجهات نظر”

تقوم swissinfo.ch بنشر آراء حول مواضيع مختلفة، سواء حول قضايا سويسرية أو مواضيع لها تأثير على سويسرا. يرمي اختيار المقالات إلى تقديم آراء متنوعة بهدف إثراء النقاش حول القضايا المطروحة. إذا كنت ترغب في اقتراح فكرة لمقال رأي، يُرجى إرسال رسالة إلكترونية إلى arabic@swissinfo.ch

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية