مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

محاولة لتفكيك لغز “داعش” وأخواتها في المنطقة

فيما استمرت المعارك بضراوة بين مجموعات متصارعة من المسلحين السوريين المناوئين لنظام بشار الأسد، واصل الطيران الحربي السوري يوم 6 يناير 2014 قصف الأحياء السكنية في مدينة حلب ما أدى إلى انهيار المزيد من المباني والعمارات مثلما يظهر في هذه الصورة التي وزعها "مركز حلب الإعلامي". Keystone

سقط المقر الرئيسي لما يُسمى "الدولة الاسلامية في العراق والشام" في مدينة حلب شمال سوريا في أيدي مقاتلي المعارضة الذين يخوضون معارك مع هذا التنظيم منذ ستة أيام حسبما أعلن المرصد السوري لحقوق الانسان يوم الاربعاء 8 يناير 2014. وقال المرصد: "سيطر مقاتلون من عدة كتائب إسلامية مقاتلة على مشفى الأطفال بحي قاضي عسكر وهو المقر الرئيسي للدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ولا يُعلم حتى اللحظة مصير المئات من مقاتلي الدولة الاسلامية الذين كانوا يتحصّنون فيه".

هذا التطور الملفت بل الدراماتيكي على الساحة السورية سبقته حادثتان ملفتتان وقعتا مؤخرا تستوجبان شيئا من التدقيق.. فقد أمر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الجيش العراقي بالإنسحاب من الفلوجة، الأمر الذي سهّل على تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش) اجتياح المدينة التي اشتهرت بمقاومتها العنيفة للإحتلال الأمريكي، ثم لا يلبث أن يرسل الجيش مرة أخرى لاستعادة المدينة. لماذا؟

أما الواقعة الثانية فتمثلت في قيام الطيران الحربي السوري بقصف كل مواقع الثوار ماعدا مواقع (داعش)، في الوقت نفسه الذي يصوّر نفسه للعالم على أنه يخوض مع هذا التنظيم الإسلامي المغالي في تطرفه “المعركة الكبرى” ضد الإرهاب الإسلامي.

والسؤال: ما هذا الذي يجري هنا؟ كيف يمكن أن يكون المالكي والرئيس السوري الأسد في حالة حرب ووئام في آن واحد مع بعض جماعات التطرف الأصولي الأكثر تشددا ودموية؟

أرجأت المعارضة السورية في المنفى إلى 17 يناير 2014 قرارها المتعلق بالمشاركة في مؤتمر جنيف-2 الهادف لإيجاد حل سلمي للنزاع في سوريا كما عُلم يوم الاربعاء 8 يناير لدى بعض أعضائها. وبعد أكثر من 48 ساعة من النقاشات الحادة بين أعضائها المجتمعين في اسطنبول، قررت الجمعية العامة للإئتلاف الوطني السوري المعارض تعليق المداولات وعقد اجتماع آخر في 17 يناير، قبل أيام معدودة من المؤتمر الذي يُرتقب أن يبدأ في 22 يناير في منتجع مونترو غرب سويسرا. وقال مصدر مقرب من المعارضة إن “النقاشات كانت حادة جدا بين مختلف المجموعات المكونة للإئتلاف. ولم يكن من الممكن حسم القرار”.

وقبل عقد هذا الإجتماع، أعلن المجلس الوطني السوري، المُكوّن الرئيسي للإئتلاف، يوم الجمعة 3 يناير إنه لن يحضر مؤتمر سويسرا بدون أن يستبعد قرارا مُماثلا من الإئتلاف الوطني السوري المعارض.

وخلال جمعيته العامة السابقة في نوفمبر 2013، أعلن الإئتلاف بعد نقاشات حادة أنه مستعد للمشاركة في مؤتمر جنيف-2، لكنه أكد “التزامه المطلق بأن هيئة الحكم الإنتقالية لا يُمكن أن يشارك فيها بشار الأسد أو أيّ من المجرمين المسؤولين عن قتل الشعب السوري، كما لا يمكن لهم القيام بأي دور في مستقبل سورية السياسي”.

يُشار إلى أن الهدف من مؤتمر مونترو يتمثل في محاولة إيجاد حل سياسي للنزاع السوري الذي أوقع أكثر من 130 الف قتيل وتسبب بنزوح الملايين من ديارهم منذ شهر مارس 2011.

(المصدر: عن وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتصرف بتاريخ 8 يناير 2013)

تفكيك اللغز

شخصية ماجد الماجد، أمير “كتائب عبد الله عزام” الذي اعتُقل ثم توفي قبل أيام في بيروت في ظروف غامضة، قد توفّر لنا بعض الإجابات التي تصب كلها في كيفية استخدام مختلف أجهزة الإستخبارات الإقليمية والدولية للإسلام المتطرف كسلاح سياسي وتكتيكي.

فهذا المواطن السعودي المولود في الرياض العام 1973، مطلوب من السلطات السعودية بتهمة الإرهاب منذ سنوات. ومع ذلك تتهم طهران المخابرات السعودية بأنها جنّدته منذ أن “اخترعت” تنظيم “فتح الإسلام” الذي خاض معركة مخيم نهر البارد في شمال لبنان.

في المقابل، ترد السعودية على إيران بتذكيرها بأن السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، حذّر العام 2007، حين كان الماجد يقود المعارك ضد الجيش اللبناني، من أن اقتحام مخيم نهر البارد هو “خط أحمر”. وهذا دليل برأي الرياض على أن الماجد تابع للمخابرات الإيرانية والسورية.

الولايات المتحدة، من جهتها، وضعت “كتائب عبد الله عزام” على لائحة الإرهاب، واعتبرته من أخطر الفصائل التابعة لتنظيم القاعدة. ومع ذلك، لم تضع زعيمها الماجد على لائحة الإرهاب. لماذا؟

وحين اندلعت الإنتفاضة الشعبية في سوريا، عمد النظام إلى إطلاق سراح مئات الإسلاميين من السجون وسهّل أمر إعادة تنظيمهم وتسليحهم، بعد أن كان قد استخدمهم في وقت سابق ضد الإحتلال الأمريكي للعراق. ومن أبرز من حظي بحرية الحركة بين سوريا ولبنان بمعرفة وإشراف المخابرات السورية كان ماجد الماجد. فكيف يمكن لهذا الرجل أن يكون في كل مكان؟ وهل يُعقل أن ينتمي، أو أن يكون على علاقة، مع كل أجهزة الإستخبارات هذه في نفس الوقت؟

تأريخ الإرهاب

في خضم الإجابة على هذا السؤال، يُمكن أن تتفكك أمامنا بعض خلفيات لعبة الشطرنج الكبرى التي تُمارس في العالم الإسلامي منذ نيف و35 عاماً، والتي يبدو – برأي مراقبين ومحللين – أن الأصوليون الإسلاميون المتطرفون يُستخدمون فيها تارة كبيادق وتارة أخرى كسلاح سياسي.

صحيح أن الولايات المتحدة أبرمت منذ عام 1945 حين التقى الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز على متن البارجة الأمريكية كوينسي، حلفاً مع السعودية ضد الشيوعية (ثم مع الإخوان المسلمين ضد الحركة الناصرية حسب بعض الروايات)، إلا أن الأمر كان يجب أن ينتظر حتى 25 ديسمبر 1979 حين غزا الجيش السوفياتي بلاد الأفغان، كي تبدأ واشنطن ألعابها الدموية مع التطرف الإسلامي الذي أُطلق عليه في الغرب (قبل الشرق) اسم “الإسلام الجهادي”.

آنذاك، وُلد في الثمانينات تنظيم القاعدة بإشراف وكالة الإستخبارات الأمريكية “سي. أي. آي” (بل يتردد أن تسمية “القاعدة” ولدت في واشنطن باسم ترميزي هو Base)، واستمر هذا الإشراف حتى هزيمة القوات السوفياتية بعد عشر سنوات، كما يكشف عن ذلك بجلاء كتاب جون كولي الشهير “الحرب غير المقدسة” (Unholy war).

هذا التطور أثبت أنه حدث جلل بالفعل. فمنذ ذلك الحين، دأبت إيران والسعودية ومصر (أيام الرئيس السادات) والعراق (في عهد صدام حسين) وسوريا على استخدام التنظيمات المتطرفة الموجودة أو تلك التي تخترعها أجهزة المخابرات المختلفة لتنفيذ أهداف خاصة ومحددة. لم يكن هذا في يوم ما تحالفاً استراتيجياً أو أيديولوجياً بين هذه الدول وبين التنظيمات المتطرفة، بل كان مجرد لعبة استخبارية أمنية جهنمية يعتبر فيها كل طرف أنه يستخدم الآخر.

وهذا ما جعل الحركات المتطرفة تشبه إلى حد بعيد الجزيئيات في علم فيزياء الكم (Quantum physics). فهي يمكن أن تكون موجودة في مكانين أو أكثر في الوقت نفسه، وهي لا تبرز، كما الجزيئيات أيضاً، إلا بعد أن يلاحظها (أو “يُفكّر”) بها أحد. وهكذا، كان أمراً طبيعياً أن تكون القاعدة موجودة في طهران والرياض في الوقت نفسه، وأن تكون التنظيمات المشتقة منها كـ “فتح الإسلام” تابعة لإيران وسوريا أمس وللسعودية اليوم.

إنها أيضاً لعبة الأواني المستطرقة ذاتها، لكنها أثبتت أنها أشبه برمي عيدان الثقاب المشتعلة قرب براميل بارود مكشوفة، كما أدركت الولايات المتحدة جيداً في أحداث 11 سبتمبر 2001، وكما تكتشف الآن كل الدول الإقليمية، من النظام السوري (الذي لايزال يمارس اللعبة إياها برعايته لـ “الإرهابيين”) إلى طهران والرياض، من دون أن ننسى بالطبع إسرائيل.


دور القوى الإقليمية

الآن، إذا ما كان من “حـق” القوى الغربية والأجنبية أن تلعب ورقة الأصولية المتطرفة على هذا النحو، طالما أن النظام العالمي ليس بأي حال منظومة أخلاقية أو جمعية خيرية، فهل ينطبق الأمر نفسه أيضاً على القوى الإقليمية الإسلامية؟ (هنا لا بد من توضيح المقصود بهذا السؤال بشكل محدد عبر الإشارة إلى حقيقة لا يُمكن لأحد أن يُجادل في صحتها مفادها أن المنظمات الإسلامية المتطرفة، بشتى أشكالها، لا تمت بأيّ صلة إلى التيار الإسلامي العام الذي يشكّل الأغلبية الكاسحة من الأمتين العربية والإسلامية، كما أنها قليلة التعداد ولا يُمكن في يوم من الأيام أن تتحوّل إلى حركة جماهيرية واسعة). إضافة إلى ذلك، يجب الإعتراف هنا أنه ليس ثمة في الواقع دولة إقليمية واحدة بريئة من الصفقات الفاوستية (أي الجهنمية) مع تيارات التطرف هذه. تماماً كما أن الولايات المتحدة لم تكن، ولم تزل، غير بريئة حسب مراقبين من جعل المتطرفين يعتقدون أنهم قادرون على السيطرة على العالم، من خلال تسهيل نصرهم في أفغانستان على الإتحاد السوفياتي، أساساً عبر تزويدهم بالصواريخ المضادة للطائرات والدبابات.

لكن، ماذا يعني أن تحذو القوى الإقليمية حذو الولايات المتحدة في إطلاق عفريت التعصب والتطرف من قمقمه؟

الكثير، الكثير. فهو يشي بأن كل الشعارات الإيديولوجية الإسلاموية لهذه القوى، مجرد أوراق توت لإخفاء أجنداتها القومية أو الإستخباراتية أو التوسعية التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالأخلاقيات الدينية أو المثل اللاهوتية. وهو يعني، أيضاً، أن الاسلام، أو على الأقل اسم الإسلام، قد وُضعَ قيد الإستخدام كسلاح سياسي. وهذا ما يجعل هذه القوى الإقليمية “الإسلامية” لا تختلف بشيء عن القوى الدولية “المسيحية” التي تستخدم الإسلام هي الأخرى كسلاح من هذا النوع.

بيد أن الأهم هو أن إطلاق العفريت من قمقمه يُطلق بدورة عفريتاً أشد هولاً بكثير من عقاله ممثلا في الحرب المذهبية الطاحنة بين السنّة والشيعة التي أدّت مرتين إلى انهيار الحضارة الإسلامية (مرة حين مهدت لغزوات المغول والصليبيين، ومرة أخرى مع الحروب العثمانية – الصفوية التي سهَّلت الإجتياحات الاستعمارية الأوروبية لاحقا).

هنا يكمُن الخطر الأكبر الذي تفرزه استخدامات القوى الإقليمية للتطرف الأصولي بشتى أصنافه، والذي بدأ يُحيل الوضع في المنطقة إلى جهنم حقيقية، كما يتبدى بوضوح في الكارثة الإنسانية الكبرى التي تجري في سوريا هذه الأيام، والتي جرت (واستؤنفت الآن) في العراق، وبدأت تتمدد مؤخراً إلى لبنان.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية