مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

من جنيف.. اقتفاءُ غبار النجوم لمعرفة أسرار الكون

مطياف AMS-02 معلق خارج محطة الفضاء الدولية، ويعبر الفضاء 400 كيلومترا فوق رؤوسنا. NASA

يأتي غبار النجوم من الشمس أو من أعماق الفضاء. وتلك الجسيمات الفلكية، هي حبيبات متناهية في الصغر من مادة مُشبَعة بالطاقة، تعطي للعلماء معلومات عن مصدر ومصير الكون. وهنالك كاشفان ـ أحدهما دولي والآخر صيني ـ يتقفيان أثر ذلك الغبار بشكل مباشر في مدار الأرض. وقد ساهمت جنيف في تصميم هذه المعدات وفي تحليل جزء من المعطيات التي قام الكاشفان برصدها.

 الكاشف الأول يُدعى مطياف ألفا المغناطيسي (AMS-02) ويدور منذ خمس سنوات ونصف على محطة الفضاء الدولية (ISSرابط خارجي)، وهو نتاج للتعاون بين الأمريكيين والروس والأوروبيين واليابانيين والكنديين. والثاني، يُسمى بولار (Polarرابط خارجي)، أُطلق الشهر الماضي مع محطة الفضاء الصينية Tiangong 2رابط خارجي.

 اما الهدف فهو كشف وتحليل الجسيمات، المُنبعثة بشكل أساسي من النجوم، والتي تدور باستمرار في الفضاء بسرعات جنونية. هذا هو مبدأ كواشف سيرن (CERNرابط خارجي) (المختبر الأوروبي في فيزياء الجسيمات)، إلا أنه هنا، لا يتم إنشاء الجسيمات من خلال عمليتي التسارع والتصادم، ولكن يتم أخذ تلك الجسيمات التي تعطيها لنا الطبيعة. عدا عن ذلك، فإن AMS وPolar مدينان بشدة لسيرن ولقسم الفيزياء النووية والجسيمية (DPNCرابط خارجي) في جامعة جنيف أيضاً. 

للمتخصصين، ولكن ليس فقط …..

بدايةً، AMSرابط خارجي الذي ابتكَره عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل للفيزياء ساموئيل تينجرابط خارجي، هو عبارة عن مغناطيس قوي جداً ومُكوَّن من 6000 قطعة من مزيج من المعادن متلاصقة معاً. مثقوب من مركزه، ويُشكّل ما يشبه كعكة دوناتس كبيرة يبلغ قطره 110 سم وارتفاعه 80 سم، وهو يفصل الجسيمات حسب شحنتها الكهربائية قبل أن يجعلها تمر عبر سلسلة من الكواشف للتعرف على خصائصها.

يجب أن يلتقط AMS البروتون وذرات المادة المُضادة أيضاً، ويضع علماء الفيزياء على مسار المادة المُظلمةرابط خارجي شديدة الغموض، التي لاتزال العلاقات التي تربطها بالمادة المُضادة تثير النقاش. غير أنه، وبعد خمس سنوات وما يقارب 100 مليار من الجسيمات المُلتقطة، لم يسهم بأي اكتشاف ذي أهمية كبيرة. واستخدمت نتائجه بشكل خاص لصقل نماذج علماء الفيزياء النظرية، وحَملِهم على مزيد من البحث والتفكير.

16 عام من اجل وضع تصوّر مطياف ثم بنائه ووضعه في مداره (باللغة الإنجليزية)

محتويات خارجية

هل النتائج مُخيّبة للآمال؟ ليس الأمر كذلك بالنسبة لسونيا ناتال، التي عملت على تصميم AMS. وهي تُذكِّر أن النتائج في مجال البحث العلمي ليست مضمونة ويمكن أن يلعب الحظ دوره أيضاً. واستشهدت كمثال على ذلك بالأمواج الثقالية، التي اكتُشِفَت يوم إعادة تشغيل المرصد الفلكي ليغورابط خارجي (LIGO)، في الولايات المتحدة، بعد عطل تقني دام لعدة سنوات.

وتشير عالمة الفيزياء في سيرن إلى «أنه مهما يكن فسوف يحقق AMS ما لم يتم تحقيقه حتى الآن: ويتمثل ذلك بمراقبة مستمرة لجميع حركات الجسيمات، التي يأتي معظمها من الشمس، حول الأرض وعلى مدى حياة محطة الفضاء الدولية (ISS)، أي حتى عام 2024، ونتمنى أن يدوم لوقت أطول». وبذلك يصبح لدى الباحثين معطيات قيّمة حول تغيرات نشاط كوكب النهار(الشمس) خلال دورة شمسية كاملة (11 سنة)، مما سيسمح بتقدير تأثيرها على الحياة والنشاطات البشرية (من تغير المناخ والاتصالات اللاسلكية إلخ…) 

« هيوستن، لدينا مشكلة»

تصل هذه المعطيات إلى موقع بريفيسان الذي بناه سيرن على الأراضي الفرنسية في السبعينيات. وهو مبنى حديث، مسقوف بالحديد المُموّج الأزرق وتُغطي واجهته لوحة فضائية كبيرة تضفي عليه مظهراً أنيقاً بعض الشيء، ويتوسط مجموعة أبنية إسبارطية أو بالأحرى متداعية للسقوط. هنا، نحن نضع قدمنا في ناسا. حتى وإن كان المكان لا ينتمي للوكالة الفضائية الأمريكية إلا أن AMS معلق إلى حدٍّ كبير بمحطته الفضائية. وتوضح سونيا ناتال أنّ «ناسا هي مَن يدير البنية التحتية، وبالتالي علينا أن نتبع تعليماتها».

ثم تضيف الباحثة «لو أردنا إعادة تشغيل حاسوب AMS فلا يمكننا فعل ذلك إلا عن طريق الحاسوب المحمول على متن المحطة، ورائد الفضاء هو الذي سيقوم بتفعيل الاتصال، ولأننا لا نستطيع الاتصال بهم مباشرة، يجب علينا أن نتصل عن طريق ناسا. وعندهم أشخاص في هيوستن مدربون بشكل خاص على التعامل مع الضغوطات النفسية وهم وحدهم لديهم القدرة على الكلام مع رواد الفضاء. فالمسألة مسألة ثقة».

ولو حصل، لسوء الحظ، أن احتاج AMS لإصلاحٍ ما، فستكون المهمة مستحيلة. وتذكر سونيا ناتال «كنا قد أردنا إبدال قطعة لا تعمل بشكل جيد، فاضطررنا لإرسال ملف كامل وانتظرنا حوالي شهرين ليأتينا الجواب بأن ذلك غير ممكن. وكان ذلك يتطلب الخروج من المركبة وAMS له حواف حادّة من المحتمل أن تُمزّق بدلة رائد الفضاء. ولذلك اضطررنا لإيجاد حل بواسطة بعض التعديلات التي أجريناها على البرنامج». 

الانضباط الصيني

نيكولا برودوي عانى هو الآخر من قيود القوانين الصارمة. ليس في جنيف ولا في هيوستن ولكن في الصين. فعالِم الفيزياء الذي عمل في سيرن سابقاً، وهو مصمم بولار، والذي يعمل حالياً في مرصد جنيف، أول تجربة غير صينية متواجدة على متن محطة الفضاء الصينية التي ستستقبل قريباً رواد فضاء.

وبعد أن مُنِحَ إذناً حسب القواعد المعمول بها لحضور الانطلاق بتاريخ 15 سبتمبر الماضي على القاعدة جيوغران، في وسط صحراء جوبي، وجد نفسه ممنوعاً من الخروج مع زميلين له في اليوم الذي سبق اليوم المُنتظر. وكان عليه أن يُشاهد إطلاق الصاروخ “المسيرة الطويلة” من فوق سطح الفندق الذي كان فيه. والسبب: هو أن ثلاثتهم تجوَّلوا في أحد أحياء المدينة وكان عليهم أن لا يتواجدوا فيه، لأن أحد الوزراء كان مارّاً من ذلك المكان. والجنود الصينيون ـ الذين يُشرفون على رحلات الفضاء ـ لا يمزحون فيما يخص الانضباط.

اقلاع الصاروخ الذي وضع مطياف بولار على المدار القطبي يوم 15 سبتمبر 2016. وهذا المطياف مثبّت بالنسخة الثانية من المحطّة الفضائية الصينية. Reuters

اليوم، يضحك نيكولا برودوي من هذه الحادثة. فبعيداً عن هذه المُنغِّصة، هو فخور لنجاحه بإقناع الصينيين بوضع كاشفِهِ في المدار. «هناك ضغوط كثيرة من أجل إرسال أشياء إلى الفضاء. إنها عبارة عن مسابقات، وقد قدمت العديد منها. فذهبت لمقابلة وكالة الفضاء الأوربية ESA والروس والهنود ولم أنجح بإقناعهم، لكنني نجحت أخيراً في الصين».

AMS وPolar: مشروعان بمشاركة كبيرة من جنيف، ومنافستان رابحتان. وهنا بالطبع يوجد أكثر من صدفة. العمل حالياً أو العمل سابقاً في سيرن يُقدم علاقات جيدة، علماً بأنَّ عالم فيزياء جسيمات من أصل اثنين في العالم مُرتبط عملياً بسيرن من قريب أو من بعيد. فقبل بولار، كان قسم الفيزياء النووية والجسيمية قد بنى دامبي DAMPE (مستكشف جسيمات المادة المُظلمة) والذي هو نسخة مُبسطة من AMS (بدون مغناطيس)، أُطلق في ديسمبر 2015 وصار على القمر الصناعي الصيني.

Polar في المقابل، ليس AMS بنسخة مُخففة. هو عبارة عن علبة من الألمنيوم 40 سم مقابل 40 سم ممتلئة بـ 1600 وميض، أي بلورات تتأثر بالانفجار بواسطة الفوتون (حبيبات ضوئية) بطاقة عالية جداً. وإن كان AMS يتعقب في جميع الاتجاهات، Polar مُصمم للإجابة عن سؤال واحد: «هل يمكن استقطاب الفوتونات المنبعثة خلال المرحلة الأكثر كثافة لانفجارات الغاما أم لا؟» 

نوازل المجرات

ما معنى ذلك؟ انفجارات أشعة غامارابط خارجي هي الظواهر الأكثر عنفاً والأكثر إضاءة مما يمكن مراقبته في الكون. فخلال بضع ثوان إلى بضع دقائق تنبعث كتلة ضحمة من الجسيمات، التي يمكن أن يصل حجمها إلى حجم الأرض، في الفضاء بسرعة الضوء.

والفرضية الأكثر شيوعاً أن الانفجار ينجم عن انهيار نجم ضخم ـ أكبر بمئات المرات من الشمس ـ يُنهي حياته على هيئة ثقب أسود.  

100 مليون مرّة أكثر إشراقا من سوبير نوفا! (باللغة الإنجليزية).

محتويات خارجية

وتابع نيكولا برودوي قائلاً: «نحن هنا في مجالات الفيزياء التي لا نستطيع تجريبها في مختبر. حيث توجد طاقات هذه الجسيمات بِقِيَمٍ لا نستطيع الوصول إليها في سيرن على الإطلاق. هذا شيء مجهول تماماً، ولا يمكننا سوى تقديره بشكل استنتاجي».

وهذه الومضات العملاقة ـ القادرة على إنارة مجرة كاملة ـ نادرةٌ جداً. ويُقدّر حصول انفجار في كل مجرة مرة كل 100 مليون سنة. ولكن بما أنه يوجد الكثير الكثير من المجرات، فاحتمال مراقبة انفجار يمكن أن يحدث بمعدل مرة في اليوم. وقد صُمم بولار من أجل مراقبة ربع السماء باستمرار، وعليه بذلك أن يلتقط وسطياً انفجار أشعة غاما واحد كل أربعة أيام.

والاستقطاب؟ بشكل مبسط جداً، نستطيع القول بأن الضوء «الطبيعي» يتحرك وفق مسار على هيئة موجة عمودية، مثل أمواج البحر. إذا كان الضوء مُستقطباً، فستخضع الموجة للدوران، على سبيل المثال 45 درجة، وستنتشر لا بشكل عمودي بل أفقي.
فإذاً كيف تنتشر موجات انفجار أشعة غاما؟

«منذ أن بدأنا دراستها، أي منذ خمسين سنة، لا زلنا لا نعرف شيئاً، يجيب عالم الفيزياء. والتنبؤات تتراوح من 0 إلى 100% من الاستقطاب. ولكي يكون الضوء مُستقطباً، يلزم حقل مغناطيسي مُنظّم ومنطقة انبعاثات غير كبيرة. وبذلك ستساعدنا المعطيات التي سنحصل عليها على فهم ما الذي تعنيه حقيقةً انفجارات أشعة غاما».

الموت القادم من السماء

تحدث انفجارات أشعة غاما في مجرات أخرى، على بعد ملايين أو حتى مليارات السنين الضوئية عن كوكبنا. ويضيف نيكولا برودوي: «هذا من حسن حظنا، لأنه لو حدث انفجار واحد في درب التبانة، فلن يكون الأمر جيداً، فعلاً لن يكون جيداً أبداً للحياة على الأرض».

تعبير لطيف. فحسب مقالة نُشرت عام 2013 في مجلة طبيعة، لو حدث انفجار أشعة غاما ووصل إلى الأرض، يمكنه خلال عدة ثوان القضاء على ثلثي طبقة الأوزون على الأقل. وستصبح الأشعة فوق البنفسجية للشمس مميتة لمعظم النباتات والعوالق التي تشكل أساس السلسة الغذائية البحرية. وسينهار 60% من الناتج الغذائي خلال عدة أسابيع، بالإضافة للفوضى التي يمكن تخيلها في المجتمعات البشرية.

ولإضافة القليل من الأجواء المرحة لهذه الصورة المروعة، ستتسبب الكيمياء الجديدة للجو بتشكيل طبقة من الغيوم السامة من أكسيد الآزوت، التي بدورها ستحجب الشمس وستلون السماء بالأصفر والبرتقالي وستتسبب بهطول سيول من الأمطار الحمضية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية