مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الكتابة عن تجربة السجن تحذير من مغبّة الإرتداد إلى المربّع الأوّل”

يعمل حسين سعد، الكاتب التونسي المقيم بكانتون فريبورغ السويسري منذ نحو عقديْن من الزمن، مدرّسا للتاريخ في أحد المعاهد الثانوية منذ 2005. zVg

"في السجن كل شيء ضدّك.. يقتلونك ببطء .. السجن مملكة "الكبران"، ومجرمو الحق العام يقصفون سمعك بكل قواميسهم الفاجرة، وما احتوت من بذاءة". بهذه العبارات لخّص الأستاذ السويسري من أصل تونسي كتابا أصدره حديثا بعنوان "الطالب والزنزانة". قام على نشره الملتقى العربي الأوروبي للإبداع.

هذه القصّة تسطر – وفقا لمؤّلفها –  “محنة التونسيين في مواجهة آلة الإستبداد والطغيان في ما قبل ثورة الكرامة في عام 2011″، والتي كان هو نفسه واحدا ممن خاضوها، وربحوا الجولة الأخيرة منها ضد نظام القهر في عهد زين العابدين بن علي. ونظرا لكون المؤّلف قد استقرّ به المقام في كانتون فريبورغ السويسري، أجرت swissinfo.ch هذا الحوار معه للوقوف على أهمية هذا العمل والهدف من إخراجه في هذه المرحلة.

swissinfo.ch: إلى أي حدّ أسهمت سويسرا التي احتضنتك أيام الجمر في إطلاق عنان القلم لديك؟

حسين سعد: على المستوى المعرفي لم أكن تصور أن أتحصل على كل هذا الزاد. بعد دراستي للأدب العربي في تونس، أضف إلى ذلك حفظي للقرآن واطلاعي على التاريخ العربي الإسلامي وعلى أمهات الكتب في التفسير والفقه، درست في سويسرا، بشغف التاريخ والفلسفة الغربية. حصلت على إضافة نوعية أثرت زادي المعرفي. دخلت هذا البلد وأنا لا أعرف عن أوروبا شيئا فأصبحتُ أدرّسُ تاريخها. أصبح لديّ تاريخ حضارتين.

الإثراء الحقيقي في تطور آلية النّقد والمقارنة. القصة لا تمثل إلا بداية لإنتاج قادم في مجال القصة والتاريخ والحضارة. لعلّ الوقتَ هو العائق الحقيقي حيث أنّ شُغلي لا يترك لي الوقت الكافي للكتابة.

 swissinfo.ch: لماذا الكتابة عن تجربة السجن الآن، وقد طوت تونس صفحة الإستبداد إلى الأبد بحسب رأي البعض؟ هل من أجل مواساة النفس؟

حسين سعد: لقد طوت الثورة الفرنسية مرحلة استبداد الملوك عبر قرون وكان آخر هؤلاء الملوك لويس السادس عشر وحدث ما حدث بعد الثورة من قتل وترهيب وانتقام باسم الثورة إذ يقال أن المقصلة كانت تعصف بثلاثين رأسا لفترة امتدت عشر سنوات ثم وقع التصالح وطوت فرنسا تلك الصفحة، لكن ذلك لم يمنع من مواصلة الكتابة عن تلك الفترة إلى يومنا هذا.

حسين سعد في سطور

كاتب تونسي، من مواليد 1966 بولاية (محافظة) المهدية من الجمهورية التونسية.

مُتزوّج و أب لستّة أطفال.

درس اللّغة و الآداب العربية بكلية الآداب بمنّوبة بتونس العاصمة من سنة 1987 الى 1991 وهي السنة التي تمّ فيها اعتقاله، والحكم عليه بالسّجن.

هاجر إلى سويسرا أين درس التّاريخ والفلسفة بقسم الآداب (قسم فرنسي) في جامعة فريبورغ، أين تحصل على الماجستير ثم شهادة الكفاءة للتدريس في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي. 

يشتغل منذ سنة 2005 مدرسا للتّاريخ في أحد المعاهد الثانوية الحكومية بمدينة فريبورغ بسويسرا.

مقولة أنّ تونس طوت الإستبداد إلى الأبد من المبالغ فيه، لكن ذلك لا ينفي أنّ هناك هامشا من الحرية أكثر من ذي قبل. المشكل أنه يُمكن في أي وقت أن نعود الى نقطة الصفر لأنّ الدّيموقراطية تبدو هشة وديمومتها أو تطورها رهين لمواقف داخلية وخارجية. لعلّ الكتابة عن هذه المرحلة تبدو هامة وضرورية لنقول للناس انظروا ماذا حدث عندما فسحنا المجال للديكتاتورية فهي لا ترحم أحدا.. حذاري من أن تُفرّطوا في هذه الحرّية ولا تتركوا الفرصة للمتربّصين ليُعيدونا إلى المربع الأول.

swissinfo.ch: الكثير قد كُتب عن محنة السجن وعذاباته، ما الذي يُضيفه هذا النّص إلى النصوص التي سبقته؟

حسين سعد: لن تجد إنتاجا في هذا الجانب لا يضيف شيئا لأن كل واحد ينظر إلى المحنة من زاوية معينة وكل له أسلوبه في تناول القضية… تناولتُ المسألة بطريقة أدبية مستغلا معرفتي الجيّدة باللغة العربية وتمكني منها للتعبير عن كل ما تعرض له السجناء السياسيون.  ثم أنا من الذين زُجّ بهم في السجن برغم أني لم أكن سياسيا ناشطا ولم أكن أنتمي لتيار الإتجاه الإسلامي، وهو حال العديد في تلك الفترة حيث أنّ آلة بن علي الإجرامية أصيبت بعمى الألوان. كان الديكتاتور مستعدا لأن يضع الشّعب كلّه وراء القضبان ليضمن مصالح عائلته ومقرّبيه.

 swissinfo.ch: أنت اليوم أستاذ ولست طالبا، وفي سويسرا وليس في تونس. ما الذي يشدّك إلى هذه المرحلة دون غيرها؟

حسين سعد: شكرا على هذا السؤال. في الحقيقة أوّل ما يشدني إلى هذه المرحلة هو وجودي فيها، فأول ما يعنيني أني أكتب عن فترة من حياتي… قد أكتب عن فترات أخرى في حياتي لكن ما يميّز هذه الفترة أيضا، أنها مشترك بين طائفة ليست بالقليلة ولذلك أحسّ أني أتكلم باسمهم أو عوضا عنهم، فالعديد منهم لا يُمكن له أن يُخرج تلك المأساة بتلك الكلمات. منهم من قال لي إنه بكى عندما قرأ القصة، ومنهم من استغرب من حدوث كل هذا، ومنهم من قال إنه عرف السجن التونسي إبّان عهد الديكتاتور من خلال روايتي.

التصميم الخارجي للكتاب. zVg

 swissinfo.ch: من وحي تجربتك المُرّة، ومن وحي خبرتك كمؤرّخ، إلى أي حد كانت أوضاع المؤسسات العقابية التونسية في عهدي المخلوعيْن: بورقيبة وابن علي، تعكس أوضاع المجتمع ككل؟

حسين سعد: أن لا تتواصل مع من تحب ولا تتحرك كما تريد هو سجن وأظن أن هذا هو المتعارف عليه عبر العصور في تحديد ماهية السجن. لكن أن يُصبح السجن مكانا لممارسة أنواع أخرى من التعذيب النفسي والجسدي على السجين فهذا عذاب فوق العذاب. السجون التونسية في التسعينيات تحولت إلى ساحات للإنتقام وممارسة أقصى أنواع الغطرسة ضد المعارضين السياسيين. ما عاد السجن تلك المؤسسة للتهذيب والإصلاح، بل تحوّل – خاصة في عهد بن علي – إلى محرقة أتت على حياة طائفة من المعارضين وأذاقت الطائفة الباقية وأهليهم ألوانا من العذاب. وصل الأمر إلى أن الجلاد والضحية هم من أبناء العمومة. لقد كشفت حقيقة السجون في تلك المرحلة عن نفسية المواطن التونسي التي تعتمل فيها العديد من التناقضات خاصة نزعة التوحش التي أصابت فئة من المجتمع جسّدوها في التنكيل بطائفة ليست بالقليلة. 

 swissinfo.ch: بين الرغبة في كتابة التاريخ وأدب السير الذاتية، ومجازات الصور الشعرية وأدب القصة، أين تصنّف كتاب “الطالب والزنزانة”؟

حسين سعد: نعم سؤالك مهمّ، ليست واحدة من كل هذا وإنما هي “قليل من كل هذا”، كما يقال بالفرنسية. إذا كانت السيرة الذاتية هي عبارة عن حقائق لا عمل للخيال فيها وتسلط الضوء على شخصية معينة وأحداث معينة، فالعمل من هذه الزاوية يندرج ضمن أدب السّير الذاتية. أما إذا قلنا أنها تندرج ضمن أدب الرواية وليس أدب القصة بالتحديد، فهذا مُمكن لأن أحداثها تدور في أكثر من مكان [الكلية، مركز البحث، السجن، القرية…] على خلاف القصة التي تدور أحداثها في مكان ضيق لفترة زمنية قصيرة. كما أنها تحكي أحداث شهور وسنين وفيها تفصيل دقيق للأحداث وعدد الشخصيات فيها أكثر مما هو في القصة. فيها قليل من الخيال يجعلها تجنح إلى الرواية خاصة عندما أتخيل الحوار الذي دار في نفس حاكم التحقيق بعد خروجه من مكتبه ثم كيف عاد إلى بيته وتلقى مكالمة من سيده…

swissinfo.ch: كيف استُقبل هذا الكتاب في الساحة الثقافية التونسية؟ وهل أنت راض عن حركة توزيعه حتى الآن؟

حسين سعد: الطبعة الاولى 300 نسخة وزعتها في سويسرا بقي منها 50 نسخة. أما الطبعة الثانية فستكون في دار طباعة تونسية عن قريب. وصلتني العديد من التعليقات من الذين قرأوا الكتاب. منهم من قرأه مرتين. منهم من قال إنه بكى وآخر مستغرب من حصول كل هذا في عهد بن علي! ومنهم من قال لي أدخلتني إلى السجن غصبا عني في إشارة الى انسجامه مع الأسلوب وكيفية إخراج الأحداث. لكن كل هذه الملاحظات لا تجعلني أغفل عن نواقص شابت العمل نتيجة قلة التجربة على اعتبار أنه أول إنتاج.

swissinfo.ch: هل تفكّر في ترجمة هذا الكتاب للوصول إلى جمهور أوسع؟ وهل لقي أي اهتمام من المنظمات والهيئات المكافحة للتعذيب والمدافعة عن حقوق الإنسان؟

حسين سعد: لا يخفى أننا نحن العرب لا نقرأ كثيرا، على عكس الغربيين. إذا أردت ان يكون لعملك إشعاع فترجمته إلى لغة أخرى مسألة تبدو ضرورية. الجمهور الفعلي للقراءة يُوجد هنا في الغرب، فهم يلتهمون الكتب إن صح التعبير، من صغيرهم إلى كبيرهم. ليس هناك تلميذ لا يوجد في محفظته قصة أو قصتين مستغلا أي فراغ ليقرأ بعض الصفحات. قد يُترجم العمل إلى الفرنسية بعد أخذ نصيبه من الإنتشار في نسخته العربية.

كان الديكتاتور مستعدا لأن يضع الشّعب كلّه وراء القضبان ليضمن مصالح عائلته ومقرّبيه

حسين سعد

 أما عن بقية سؤالك بشأن المنظمات الإنسانية، فقد نصحني البعض أن أتصل بهيئات إنسانية وأسلمها نسخة من العمل وسأفعل إن شاء الله من منطلق التشنيع بالظلم والتعذيب والتأكيد على أن التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم.

swissinfo.ch: هل سنشهد صدور كتاب آخر، وهذه المرة عن تجربة اللجوء القسري في سويسرا؟

حسين سعد: تستحق هذه التجربة أن تُدوّن لأنها تجربة يتشارك فيها العديد من اللاجئين التونسيين، لكنني أوكل الأمر إلى غيري للقيام بهذه المهمة. أنا بصدد إتمام اللمسات الأخيرة لكتاب في التاريخ يتحدث عن الحروب الصليبية. أما في ميدان القصة فقد أتممت عملا باللغة الفرنسية لا زال قيد التدقيق والإصلاح وهي رواية تتناول الحياة اليومية لقرية في أقصى الساحل التونسي من بين أبطالها سجين سياسي. وقد استلهمت تجربة السجن لأصوّر محنة المعارض التونسي في زمني بورقيبة وبن علي.   

swissinfo.ch: يطغى على كتابتك أسلوب القصص القرآني؟ لماذا اختيار هذا الأسلوب رغم تباين أزمان الوقائع؟

حسين سعد: القرآن نص حي لا يموت، وهو صالح لكل الأمكنة والأزمنة ويمكن تفسير ذلك علميا. التراكيب والأساليب والبلاغة في القرآن تفعل فعلها في أي عارف باللغة العربية. التصاقي بالنص القرآني واستحضاره في كتابتي يبدو بديهيا، فلولا تمكّني من اللغة العربية ما كنت لأتذوق طعم النص، ولولا القرآن ما كنت لأعشق اللغة العربية. القرآن تحدث بإطناب عن الظلم ومصير الظالمين وعن الصابرين والعدل والقصص كثيرة في القرآن. تحْضُرني الآيات القرآنية طبعا وبداهة لا تعسّفا وتصنّعا، تغمُرني كلمات النّص القرآني كما يغمر السيل الرُّبى فتنسحب على نصّي المتواضع. إن استدعاء لغة القرآن وأسلوبه في كتابتي لـ “الطّالب والزنزانة” هو نوع من التّحليق في رحابة اللّغة العربية والإرتقاء بالأحداث لإخراجها في أسلوب يُعطيها مصداقية أكثر.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية