مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“ليس كل ما يلمعُ ذهبا.. بالضرورة”

عمال إنقاذ يتحركون في مدخل منجم للذهب والنحاس في "كابيزا دي نيغرو" في البيرو حيث ظل تسعة من عمال المنجم محاصرين داخله في أبريل 2012. للعلم، يمثل الذهب 95% من صادرات البيرو إلى سويسرا Keystone

لا يوجد لدى سويسرا مناجم، لكنها تُعتبر المركز العالمي الأول لتنقية وتكرير معدن الذهب. وليس من المستغرب أن لا تكون الشفافية هي اللاعب الرئيسي في هذا الميدان ما دامت انتهاكات حقوق الإنسان وتلويث البيئة عملة رائجة فيه. وفي بعض الأحيان، فإن ما يصل إلى سويسرا من ذهب لا تجلله هالة من القداسة.

الواقعة الأخيرة، اندلعت قبل بضعة أشهر في بيرو، حيث تم إحالة نحو ثلاثين شخصا وأربع شركات إلى القضاء بتهمتي استخراج غير قانوني للذهب من باطن الأرض وغسيل الأموال، اللتان تصل عقوبتهما إلى السجن مدة 15 عاما. وتشير المعلومات إلى أن المُتهَمين قاموا، خلال سنوات معدودة، ببيع نحو 25 طنا من الذهب تبلغ قيمتها 900 مليون دولار، استُخرِجت من مناجم غير قانونية، موجودة في منطقة من الأمازون يطلق عليها اسم “مادري دي ديوس”، التي تَستخرج البيرو منها حوالي 20٪ من إجمالي إنتاجها من المعدن الأصفر.

في سياق متصل، أفاد محقق بيروفي، وفقا لما نقلت عنه صحيفة “لوماتان” السويسرية، في أن تكون تلك الشركات قد موّلت مشاريع الإستخراج بأموال مشبوهة، متأتية من تجارة المخدرات، وتمّ، فيما بعد، بيع الذهب المُستَخرَج إلى شركتين سويسريتين، وهما شركة “ام كي اس سويتسيرلاند MKS (Switzerland)” في جنيف، التي تمتلك مصفاة “بامب Pamp” الموجودة في كانتون تيتشينو (جنوب)، وشركة “ميتالور Metalor” في نوشاتيل.

وفي تصريحات وردت على لسانه، أشار فريديريك بانيتزوتّي، المتحدث باسم شركة “ام كي اس MKS”، إلى أن شركته قامت بمزيد من التحريات في سويسرا وفي بيرو، حيث لم يتم بعدُ الإعلان عن النتائج، إلا أن بانيتزوتّي أكد من جانبه: “عدم وجود ما يُنبئ عن صحة الإدعاءات التي تقول بأن مصدر هذا الذهب غير شرعي”. من جهة أخرى، لم تظهر معطيات أخرى تُوجب إبلاغ مكتب الإتصالات السويسري بشأن غسيل الأموال (MROS) حيث يضيف بانيتزوتّي أن “الذهب القادم من بيرو والذي قامت مجوعة ’ام كي اس MKS‘ بتكريره، صُـدّرَ بشكل قانوني واسْتُخرِج من مناجم تقليدية مُسجلة لدى السلطات البيروفية ومطابقة للوائح والقوانين الحكومية المتعلقة بتتبع مسار الذهب”.

يجدر التنويه هنا إلى أن مكتب الإتصالات بشأن غسيل الأموال تلقى في العام المنقضي 1625 بلاغا، واحد منها فقط يتعلق بالمعادن الثمينة. ولكن بالنظر إلى قيمة المبالغ التي تنضوي عليها سوق المعادن الثمينة (في عام 2011 مثلا، استقبلت سويسرا أكثر من 2600 طن من الذهب قيمتها 96 مليار فرنك)، أليس من المحتمل أن تكون هناك مشكلة؟

بدوره، أوضح فريديريك بانيتزوتّي في محاولة منه لتنسيب المسألة أن “عدد العملاء والمعاملات، في مجال المعادن الثمينة، أقل بكثير مما هو في القطاع المصرفي، وعملاء مصافي تكرير الذهب، هم شركات ومؤسسات وليسوا أشخاصا كما هو في البنوك والمصارف، وفي عام 2003، ذكرت الهيئة التي أصبحت تُسمى الآن “فينما” أي هيئة الرقابة الفدرالية على الأسواق المالية (FINMA) وجود حوالي 14,5 مليون حساب خاص في المصارف السويسرية، في مقابل أقل من ألف في قطاع المعادن الثمينة”.

لكن يجدر التنويه هنا إلى أن “القانون الخاص بإعادة استخدام الأموال المكتسبة بصفة غير مشروعة (تعرف اختصارا بـ LRD) يتعلق بالوسطاء الذين يعملون في تجارة الذهب. في المقابل، لا تخضع المصفاة التي تشتري الذهب الخام وتحوّله إلى سبائك، لهذا القانون، إذ ينبغي دائما التمييز بين الإنتاج والتجارة”، بحسب ما أوضح توبياس لوكس، المسؤول عن الإتصال في هيئة الرقابة الفدرالية على الأسواق المالية (فينما FINMA).

اقتفاء الأثــر

من جهته، يعتقد مارك غينيا من منظمة “إعلان برن” غير الحكومية، بأن صناعة الذهب وقطاع تجارة السلع الأساسية، بشكل عام، تنقصهما الشفافية إلى أبعد حد، ويقول: “منذ الوسطاء الأوائل، والمعاملات التجارية تحدث، غالبا، عبر سلسلة متتابعة من الشركات غير المقيمة (أوف شور)، المسجلة داخل نطاقات قانونية لا تسمح بفهم (أو تحديد) المستفيد الحقيقي” منها.

وفي الواقع، فإن الحادثة المشار إليها آنفا ليست الأولى التي يردُ فيها ذكر أسماء شركات سويسرية. ففي الآونة الأخيرة على سبيل المثال، ظهر اسم مصفاة “ميتالور Metalor” في تقرير فريق الخبراء التابعين للأمم المتحدة المكلف برصد تطبيق الحظر المفروض على أريتريا، حيث يُشتبه بأن الشركة، التي يوجد مقرها في نوشاتيل، قامت باستيراد حوالي عشرة أطنان من الذهب من هذا البلد الإفريقي ما بين شهري فبراير 2011 ويوليو 2012، على حدّ قول جِيل لابارْت، الصحفي الذي نشر عددا من الدراسات حول تجارة المعادن الثمينة (من بينها كتاب “الذهب الإفريقي: النهب والتهريب والتجارة الدولية”).

وفي وقت سابق، ارتبطت المصافي السويسرية أيضا بقضية أخرى تتعلق باستيراد الذهب من جمهورية الكونغو الديمقراطية، مثلما يتذكر لابارت، الذي استُدْعي في عام 2010، من قبل لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان السويسري بوصفه خبيرا في قضايا تبييض الأموال والشفافية في هذا القطاع. 

في المقابل، نفت شركة “ميتالور” الإتهامات وأعلنت أنها تُـراقب بعناية كافة مسارب الذهب، بدءا بالمنجم ووصولا إلى تجارة التجزئة، وأنها تكرس جهودها بجدّ للحيلولة دون تأتّي المعدن الأصفر من أنشطة إجرامية أو من مناطق صراع أو من تلك التي تتعرض فيها حقوق الإنسان دوريا للإنتهاك.

سوق ذهب مسؤولة؟

في السنوات الأخيرة، كثف اللاعبون في سوق صناعة الذهب جهودهم ومبادراتهم الرامية إلى ضمان شبكة إمدادات “نظيفة”، مثل مبادرة “Conflict Free Gold” أو “Responsible Jewellery Council” أو نظام “LBMA Responsible Gold Guidance” الإرشادي.

فريديريك بانيتزوتّي، الذي كانت الشركة التي يعمل بها وراء اعتماد هذا النظام، يقول إنه عبارة عن “دليل دخل حيز التنفيذ هذا العام، ويستند إلى المبادئ التوجيهية لمنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية، وينظم مهمة تأمين واجب التحفظ في المجال التزود المسؤول (بكميات الذهب)، ويُلزم الشركات بتتبع المسار كاملا لمعرفة المصدر الذي جاء منه الذهب، حيث نتعرض، كل عام، لعمليات تدقيق ومراجعة خارجية للتحقق مما إذا كنا نحترم جميع هذه القواعد”.

من جهة أخرى، اعتبرت هذه التدابير لازمة بسبب الضغوط الدولية المتزايدة. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، اعتمد في شهر أغسطس 2012 قانون “دود – فرانك Dodd-Frank”، الذي يتعلق بالمعادن الواردة من مناطق الصراع، ومن المرتقب أن يُقدم الإتحاد الأوروبي قريبا على اتخاذ خطوات مماثلة.

وبرأي جِيل لابارْت، فإن الخطوات التي اتخذتها الشركات تسير في الإتجاه الصحيح، على الرغم من إمكانية طرح تساؤلات حول مدى قدرتها فعلا على توفير حلول للمشاكل، خصوصا وأن هذه المبادرات طوعية وأن التجاوزات نادرا ما تتم معاقبتها.

من ناحيته، يُلاحظ مارك غينيا أن “هذا الصنف من التحركات يعني ترك الحرية لقاطع طريق في أن يُقرر من تلقاء نفسه سرعة السير المسموح بها وأن يقوم بنفسه بإجراءات الرقابة على الطرقات”، مضيفا بأن من بين الأعضاء في “مجلس المجوهرات المسؤول” (Responsible Jewellery Council) هناك شركات معروفة بتصرفاتها غير المسؤولة. فمن بين الأعضاء المؤسسين، هناك على سبيل المثال “شركة “Newmont Mining”، التي قمنا في 2009 بمنحها “جائزة العار” (وهي جائزة تمنح لأسوإ الشركات على هامش التئام الإجتماع السنوي للمنتدى الإقتصادي العالمي في منتجع دافوس) على مشروعها للتعدين في غانا”، وبالمناسبة، فإن الشركة الأمريكية متعددة الجنسيات المذكورة تمتلك، من ضمن ما تمتلك، مصفاة “فالكامبي” في بلدة باليرنا (جنوب) التي تعتبر واحدة من بين أكبر أربع مصافي ذهب في سويسرا.

في الوقت نفسه، شدد فريديريك بانيتزوتّي على أن القضية الأخلاقية لا يمكن اختزالها في الإطار التشريعي والتنظيمي فحسب، فإذا كانت “السرعة المسموح بها في الطرق السيّارة 120 كيلومترا في الساعة، فلا يعني هذا أنه من غير المُمكن اختيار سيارة مُراعية للبيئة. فالشركات السويسرية تطبق بعدُ المعايير الأكثر صرامة في العالم فيما يتعلق باقتفاء أثر الذهب، كما تدافع شركتنا عن نموذج للتجارة العادلة”.

إحصائيات متشظية

رغم كل شيء، يسود في سويسرا قدر كبير من التحفظ بشأن مصادر الذهب الذي يصل إلى مصافيها، وهو ما يفسّر عدم الإشارة إلى بلد المنشإ منذ بدء صدور الإحصائيات الوطنية منذ عام 1981. وأوضح جِيل لابارْت أنه “في فترة السبعينات والثمانينات، وُجّهت لسويسرا انتقادات بسبب استيرادها الذهب من جنوب أفريقيا، التي كانت تخضع لحظر دولي. إضافة إلى ذلك، كان من الضروري اللجوء للتمويه عند استيراد التبر الأصفر من الإتحاد السوفياتي في سياقات الحرب الباردة”، إلا أنه استدرك ليشير إلى أن سويسرا ليست استثناء لاسيما إذا ما أجريت مقارنة مع وضعية البلدان العريقة في مجال تكرير الذهب، مثل كندا وبريطانيا وألمانيا، فهي جميعا أبعدُ ما تكون عن الشفافية في هذا المجال.

وفي الآونة الأخيرة، جدّد سيدريك فيرمويت، عضو مجلس النواب عن الحزب الإشتراكي، طرح المسألة على الحكومة الفدرالية متسائلا عما إذا كانت على استعداد لتغيير هذه الممارسة (أي عدم الإشارة إلى بلد المنشأ)، إلا أنها ردت إجمالا بأن الإعتبارات الفنية لم تتغير منذ آخر مرة تم فيها تحليل المسألة، ومع ذلك لفتت إلى أن “الإطار السياسي والإقتصادي والإجتماعي تطوّر وأن الحكومة الفدرالية تعتزم إعادة النظر في مسألة نشر البيانات المتعلقة بمبادلات الذهب”.

وبحسب جيل لابارت، فإن هذه الإحصائيات يمكن أن تكون مفيدة بالتأكيد، لكن من الأجدر أن تُحلّ المشكلة قبل كل شيء على مستوى المؤسسات الدولية. لذلك يرى أنه “من الواجب أن يتم تقصي الأثر من نقطة الإنتاج إلى نقطة الوصول. ففي حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية، فإن الذهب، كان يمر في السابق عن طريق دبي عوض أن يصل إلى سويسرا مباشرة. واليوم، تُصدّر توغو أطنانا من الذهب، في حين أنه لا توجد، رسميا، أية مناجم في البلاد”.

تتوفر سويسرا على تقاليد عريقة في مجال تكرير ومعالجة معدن الذهب.

في عام 2011، تم استيراد 2600 طن من تبر الذهب إلى الكنفدرالية تبلغ قيمتها الإجمالية 96 مليار فرنك سويسري.

تشير التقديرات إلى أن ثُلثي كميات الذهب في العالم تعبر ماديا من خلال سويسرا.

توجد في سويسرا أربعة من أكبر مصافي الذهب في العالم، تقع ثلاث منها في كانتون تيتشينو جنوب البلاد.

تعود أسباب هذه الرّيادة بالخصوص إلى مستوى الأمان المرتفع جدا وإلى نجاعة النظام المتوفر على المستوى اللوجستي والمالي على حد السواء.

إضافة إلى ذلك، نجحت المصافي السويسرية في بلوغ مستويات جودة يُجمع الخبراء على وصفها بالإستثنائية.

الصين: 355 طن
أستراليا: 270
الولايات المتحدة الأمريكية: 237
روسيا: 200
جنوب أفريقيا: 190
بيرو: 150
كندا: 110
غانا: 100
إندونيسيا: 100

(المصدر: المسح الجيولوجي الأمريكي)

في عام 1998، تطرّقت الأمم المتحدة لأول مرة إلى مسألة تمويل الصراعات عبر تهريب الماس، وفرضت عقوبات على أنغولا بسبب حرمانها الدول الأخرى من شراء الأحجار الكريمة، وفي عام 2000 جاء الدور على سيراليون وبعدها ليبريا ومن ثم كوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

في عام 2000، اجتمعت الدول المنتجة للأحجار الكريمة بممثلي القطاع الصناعي في كيمبرلي، جنوب أفريقيا، لوضع نظام لمواجهة السوق غير القانونية ولضمان حق المشترين في الحصول على مصادر شرعية للأحجار الكريمة، وفي عام 2001 تم تأسيس المجلس العالمي للماس، والذي يهدف، على وجه التحديد، إلى التحقق من أصل الماس الخام، في السنة التالية، بعد موافقة الأمم المتحدة، أنشئت شهادة نظام عملية كيمبرلي، التي تربط بين الشركات المصنّعة والحكومات والمنظمات غير الحكومية في التحقق من مصادر الأحجار الكريمة.

ورغم مرور عشر سنوات، إلا أن هذه الآليات لا تزال غير كافية من وجهة نظر غالبية المنظمات غير الحكومية، بحسب مارك غينيا، من منظمة “إعلان برن”، ويعود السبب إلى “عدم تطبيق العقوبات على الإنتهاكات”، وبالأخص في بلدان مثل زيمبابوي وأنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

وهل يمكن، مع ذلك، اعتبار اتفاق كيمبرلي مثالا على التنظيم الأفضل، أيضا، فيما يخص سوق الذهب؟ برأي مارك غينيا فإن التحدي أكبر من ذلك بكثير، نظرا لأن التبر يمكن إذابته بسهولة، وبالتالي “من الصعب جدا التوصل إلى الكشف عن مصدره بالمقارنة مع الأحجار الكريمة أو الماس”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية