مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

طلب المجد.. سعي دؤوب لا يتوقف من المهد إلى اللحد

متقاعد في طريقه إلى منزله بعد يوم عمل Keystone

تشهد سويسرا تزايُـدا في أعداد الأشخاص الذين يتّـجهون إلى افتتاح مشاريع خاصة، بمجرّد دنوّ موعد خروجهم إلى التقاعد. ويعيـنهم في ذلك، خبرتهم واتساع دائرة معارفهم، الأمر الذي يجعل لديهم فرصة نجاح أكبر ممّـا لدى رجال الأعمال من الشباب المبتدئين.

ينبغي أن لا يُـتَصور بأن تحقيق الطموحات يفُـوت أوانه، حتى ولو بلغ المرء من العمر عُـتِـيا أو أنه لم يبق له من العمر قدر ما مضى. فمنذ سنوات، وتحديدا في عام 2006، عرضت دور السينما في سويسرا الفيلم “دي هيربتزايتلوزن Die Herbstzeitlosen”، (بالألمانية)، ومعناه التقريبي بالعربية “أزهار الخريف”، ويروي حكاية مارْثا، السيدة المُسِـنّة الظريفة ذات الثمانين ربيعا وأصلها من إحدى قرى وادي إمينتال في مقاطعة برن أوبرلاند، الذي يضم المرتفعات الريفية حول العاصمة برن.

قامت تلك السيدة، بعد وفاة زوجها بتحويل محل العطارة التابع له، إلى متجر للملابس الداخلية، فأحدث صنيعها صدى كبيرا في القرية الساكنة، كما أنه مثّل نقطة تحول في حياتها.

ولعلّ الواقع شاهد على وجود الكثير من الأمثلة التي تُصدّق ما يمكن أن نعتَـبره اجتهاد الجَـدّات في تحقيق طموحاتهن، وهو ما أقرّته الدراسة التي أجرتها المدرسة العليا للإدارة في مدينة فريبورغ.

غبطة رجل عمره 73 حولا

رودولف فاركاس، بلغ من العمر 73 عاما، وبالرغم من ذلك، لا يزال في صحته، وحيث أنه خبير في علم الحاسوب، فقد قام في العام الماضي بتطوير إحدى التطبيقات الخاصة بجهاز آيفون، ثم قام بطرحها في الأسواق تحت مسمى “كوبز Cubz”، وهي عبارة عن لعبة ألغاز ثلاثية الأبعاد، تُذَكّـر بلعبة المكعب الملون “مكعب روبيك Rubik Cubes”، الشهيرة التي اختُرِعت في الثمانينات.

وفي حديث مع swissinfo.ch، قال رودولف فاركاس: “في عام 2009، وبسبب الأزمة، توقفت الشركة الأمريكية “كروي” التي عمِـلتُ لديها مدة 24 عاما، عن إسناد المهام إليّ. ونظرا لرغبتي في الاستمرار بالعمل في مجال البرمجيات ولكون ابني هو أيضا مهندس كمبيوتر، فقد اقترح عليّ أن أسعى إلى تطوير برنامج لجهاز أيفون”.

وبعد بضعة أشهر من العكوف تام على سبر أغوار لغة البرمجة “أبل” Appel، تمكّـن مهندس الكمبيوتر رودولف يعضده رفيقه بيرترو ديفرونس ذو الـ 36 ربيعا، من الانطلاق في عملية تطوير لعبة المكعب. ويوضح رودولف قائلا: “بعد عام، تمكّـنا من طرح اللعبة في الأسواق، فتكشفت الأمور عن مشروع واعد، مُـفعم بالثقة والعزيمة على الاستمرار، وتمّ تطوير اللعبة لتُـصبح بأكثر من لغة ولتتناسَـب أيضا مع أجهزة (آيبود)”.

وتجدُر الإشارة إلى أن المشروع لم يدرّ على أصحابه الأموال ولم يجعل رودولف غنيا. فسعر اللعبة دولارا واحدا، وتمّ تنزيلها قُـرابة ألف مرة، إلا أن المبادرة بالنسبة لرودولف، هي أكثر من المال، إنها مصدر غِـبطة وحماس وافتخار.  

ظاهرة متنامية

وفي حديث لـ swissinfo.ch، أوضح ماتياس روسّي، الأستاذ في المدرسة العليا للإدارة في فريبورغ، أن مارثا ورودولف، هما مجرّد مثاليْـن يشهدان لظاهرة، مفادُها أن رجال الأعمال من كبار السن في تنامٍ مُـضطرد. وبناءً على الدراسة المتميِّـزة والفريدة من نوعها على مستوى سويسرا، والتي أجراها البروفيسور حول النشاط التجاري لكبار السن خلال الفترة ما بين عامي 2005 و2007، تبيّن بأن “عدد رجال الأعمال في سويسرا الذين تزيد أعمارهم على 55 عاما، هم في ازدياد مستمِـر. ففي عام 2005، كانت نِـسبتهم 2,4٪ ثم في عام 2007، أصبحت 6٪”.

ويضيف روسّي موضِّـحا بأن هذا التوجّـه لم يأت من فراغ، وإنما هو مدفوع من خلال عِـدّة عوامل “أولها، شيخوخة سكان سويسرا، التي تصاحبها شيخوخة رجال الأعمال، ومن ثم، طبيعة الأعمال في البلاد والتي من شأنها أن تشجِّـع على امتداد الحياة المِـهنية إلى ما بعد سِـن التقاعد، فضلا عن توفر الوسائل التكنولوجية الحديثة الكفيلة بتيسير عملية إنشاء المشاريع الصغيرة والمتوسطة”.

وفي واقع الأمر، لا يمكن وصف هذه الظاهرة بأنها عامة، بل تشير الدراسات إلى أن الرجال هُـم ضعف النساء وأن هذا التوجه محكوم بالمستوى الدراسي، فضلا عن توفر الموارد المالية، وهو ما أكّده روسّي قائلا: “لا شك، بأن الخِـبرة والمهارة والموارد المالية وشبكة المعارف التي تتوفر للشخص المقبل على التقاعد، تُـساعد في وُلوج هذا الباب وتُـهيّئ لصاحبها فُـرص النجاح”.

خبرة حياة

وبالمقارنة، نجِـد بأن نسبة نجاح الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجْـم، التي يؤسسها كبار السن، أعلى معدل نجاح من تلك التي يؤسِّـسها الشباب، هذا النجاح حالَـف أيضا ماريو كومر، وهو مُـحاسب قانوني مستقِـل، أسَّـس شركة استشارات “MRK Consulting” في عام 1987، ومن حينها، لا يزال يتقاطر عليه الرّاغبون في الحصول على الإستشارة.

عملَ على مدى عشرين عاما لدى شركة آرثر أندرسن الأمريكية، التي كانت تُـعتبَـر حتى عام 2002 إحدى كبريات الشركات متعدّدة الجنسيات، العاملة في مجال مراجعة الميزانيات وتدقيق الحسابات وتقديم الإستشارات على المستوى العالمي.

وعند التحدث لـ swissinfo.ch قال كومر – ابن السبعين عاما وسليل مدينة جنيف – عن نفسه: “بعد عشرين عاما من الخدمة لدى شركة آرثر أندرسن، شعرت بالرغبة في تغيير مسار عملي، وقد مضى عليّ الآن 24 سنة وأنا مستمر في العمل، حتى وإن كان أقل وتيرة من السابق، وعندما يكون الطقس جميلا أذهب للتزلج أو للجبل، ولا ننسى أن من يمضي عمره مُجِـدّا في عمله، يخرج من السابعة صباحا وحتى السابعة مساء، لا يمكن له أن يتوقَّـف دُفعة واحدة”.

وجدير بالذكر، أنه في السنوات الأولى كان لِـزاما على شركة كومر أن تثبت ذاتها، ثم بفضل المعارف والصّداقات التي تكوّنت خلال العمل لدى أندرسن الأمريكية، ازدهر نشاط الشركة. ومن الطبيعي، أن يقل الحماس مع تقدّم الإنسان في العمر، إلا أن كومر، كما يصرّح، ليست لديه رغبة في مغادرة الميدان.

في الختام، يمكن القول أن كلا من ماريو ورودولف ومارثا، ليسوا سوى أشخاص احتضنوا أحلامهم زمنا طويلا، قبل أن يحين وقت المخاض والولادة. وبحسب ماتياس روسّي: “هُـم أناس لديهم رغبة جامحة في عمل الخير، وحينما واتَـتهم الفرصة، استثمروا ما لديهم من خِـبرات وتجارِب في التعبير عن الذات وتحقيق حُـلم العمر”.

ظهر من خلال الدراسة التي تمخّـض عنها مشروع “المرصد العالمي لريادة الأعمال” والتي شملت 35 بلدا، بأن لدى سويسرا ظروفا مثالية وبيئة اجتماعية مواتية لتحقيق المشاريع التجارية.

ووفقا للتقرير الخاص بالمسح الذي أجراه المرصد العالمي لريادة الأعمال في عام 2005، فإن 6,1٪ من البالغين في سويسرا يسعوْن إلى إنشاء شركات خاصة أو هُـم أصحاب أو مدراء شركات مضى على قيامها أقل من ثلاث سنوات ونصف السنة.

وبالمقارنة دوليا، تأتي سويسرا في المرتبة دون المتوسط من بين الدول التي شملتها الدراسة، التي قام بها المرصد العالمي لريادة الأعمال، إلا أنها من بين الدول الأكثر ديناميكية في المجال.

تصدّرت أمريكا الشمالية قائمة الدول التي لديها أعلى المعدّلات من مؤسسي الشركات.

وفي عام 2008، بلغت نسبتهم 33٪ عند الفئة العمرية بين 55 و65 عاما، متجاوزة بكثير النسبة الموجودة في وسط الشباب من الفئة العمرية بين 25 و35 عاما.

تقدمت الدول النامية على سويسرا في الترتيب. فهي بالرغم من أوضاعها الاقتصادية المتواضعة، إلا أن ظروفها تحتّـم على الناس إنشاء الشركات الخاصة باعتبارها فُـرصا للبحث عن المعيشة.

في المقابل، تتمتع سويسرا بانخفاض في مستويات البطالة واستقرار في الوظائف، بالإضافة إلى ارتفاع نِـسبي في مستوى الأجور، وهي ظروف لا تحتّـم أو لا تُشجّـع على إنشاء الشركات الخاصة.

كما أشارت الدراسة التي أجراها المرصَـد، بأن ثلاثة أرباع الشركات السويسرية الخاصة، سواء منها الجديدة أو التي في طور الإنشاء، هي شركات تعمل في قطاع الخدمات، خاصة في خدمات الأفراد، تليها تلك التي تستهدِف قطاع الخدمات التجارية.

(المصدر: المرصد العالمي لريادة الأعمال)

الفيلم للمخرِجة السويسرية بيتينا أوبيرلي، ويحكي قصة مارثا، واسمها الحقيقي ستيفاني غلاسير، توفيت ليلة 15 يناير 2011 عن عمر ناهز الـ 91 عاما إلا شهرا واحدا، والتي قررت أن تحقق أحلام الصِّـبا بعد وفاة زوجها، وكان لها حينئذ من العمر 80 عاما.

وعلى الرغم من المعارضة الكبيرة من قِـبل سكان قرية “تروب Trub”، إحدى قرى وادي إمينتال في الأرياف الجبلية لكانتون برن، قامت بتحويل محلّ العطارة، الذي خلّـفه لها زوجها، إلى محل لبيع الملابس الداخلية، مما شكل نقطة تحوّل في حياتها.

أحرز الفيلم شهرة واسعة في الداخل، حيث سجل في عام 2006 أكبر عدد مشاهدين، كما حظي باهتمام كبير على المستوى العالمي، وقد مثل سويسرا في عام 2008 ضِـمن سباق جوائز الأوسكار عن “أفضل فيلم أجنبي”، لكنه لم يحصل على أي من الجوائز الأولى التي تنافست عليها 63 بلدا.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية