مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“النقود الحقيقية”: هل هي العلاج الجيّد لمُواجهة الأزمات المالية؟

francs suisses
لا تُشكل العملات النقدية الورقية والمعدنية سوى 10% من حجم الأموال المتداولة، حيث يتم إصدار ما تبقى من قبل المصارف التجارية على شكل عمليات الكترونية. Keystone

في الوقت الحالي، تصدر البنوك 90 % من النقود المتداولة، التي هي أموال مودعة افترضية لا يقابلها احتياطي نقدي لدى البنك المصرفي. وهذا من شأنه تشجيع المضاربة والأزمات المالية. وتهدف مبادرة “النقود الحقيقية” إلى إعادة استقرار السوق المصرفي من خلال إصلاح جذري للنظام النقدي. أما من وجهة نظر الحكومة والبرلمان، فهذه المبادرة هي عبارة عن مشروع متعدد المخاطر. 

هذه المُبادرة الشعبية “من أجل عملة في منأى عن الأزمات: المصرف الوطني هو المُخوَّل الوحيد لإصدار الاموال! (النقود الحقيقية)”رابط خارجي، التي أطلقها ودعمها اقتصاديون وأخصائيون ماليون ورجال أعمال، تهدف إلى وضع نظام نقدي أكثر ضماناً. ويتحدث نصها عن الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي انفجرت قبل عشر سنوات والتي طالت سويسرا: حيث اضطرت الحكومة والمصرف الوطني السويسري للتدخل من أجل إنقاذ يو بي اس، المصرف السويسري الأول.

يستند المُرَوِّجون للمبادرةرابط خارجي على استنتاج مفاده أنَّ إصدار النقود حالياً بكميات محدودة يقتصر على المصارف المركزية، التي تصدر عملات ورقية ومعدنية، أي “النقود الحقيقية”، والتي هي وسائل للدفع حسب قاعدة قانونية. في سويسرا، على سبيل المثال، تبلغ قيمة الأموال المُتداولة 80 مليار فرنك، وهو ما يُشكِّل 10% من إجمالي الأموال النقدية. أما ما تبقى، فتصدره المصارف التجارية، وعادة ما يتم ذلك من خلال منح قروض للشركات والأفراد أو لمصارف أخرى.

محتويات خارجية

في هذه الحالة، نتحدث عن “الأموال المودعة”، وهي عبارة عن عملة توجد فقط في حساب المعاملات. وللموافقة على منح قرض، لا يحتاج المصرف لوجود رأسمال خاص لديه يعادل قيمة القرض، بشرط أن يُسجَّل المبلغ في وديعة يمكن رؤيتها. واليوم، لا تعتبر الأموال المودعة وسيلة قانونية للدفع، وإنما مجرد وعد بدفع رصيد على حساب ما. وقد تسارع تضخم هذه العملة خلال العقود الأخيرة عن طريق الالكترونيات، التي سرَّعت المعاملات المالية والمصرفية. 

وقد ساهم استخدام الأموال المودعة بشكل واضح في نمو النشاطات المصرفية والاقتصاد بمجمله، من خلال تقديم قروض للشركات على سبيل المثال. ولكن في نفس الوقت، أدَّت هذه الأموال إلى خلق ديون، وفقاعات مُضاربة، وعدم قدرة المصارف نفسها على دفع الديون، وبالنتيجة إلى مضاعفة الأزمات المالية.  

ما تقترحه مُبادرة “النقود الحقيقية” إذن هي عملية إصلاح شاملة للنظام النقدي، من خلال تعديل جوهري للمادة 99 الحالية من الدستور الفدراليرابط خارجي. في المستقبل، ستوكل مهمة صك النقود ـ العملات النقدية المعدنية والورقية بالإضافة إلى الأموال المودعة ـ إلى الكنفدرالية مُمَثَّلةً بالمصرف الوطني السويسري. وستكون الأموال المودعة بدورها وسيلة دفع قانونية، صادرة عن المصرف المركزي.

بالمقابل، لن يكون بإمكان المصارف التجارية إصدار الأموال المودعة، وإنما سيستطيعون فقط قرض الأموال التي تمَّ وضعها للتداول بالفعل من قبل المصرف المركزي. وفي اليوم الذي ستدخل فيه القوانين الجديدة حيز التنفيذ، سيتم تحويل الأموال المودعة الصادرة عن المؤسسات المالية إلى عملة حقيقية. وسيكون هذا التحويل ممكناً من خلال منح المصرف الوطني السويسري قروض مماثلة للمصارف، التي سيتحتم عليها سدادها خلال فترة انتقالية “معقولة” (من 15 إلى 20 سنة).

سيبقى المصرف الوطني السويسري مصرفاً مركزياً مُستقلاً، ومسؤولاً عن عملية سير سياسة نقدية تتناسب مع المصلحة العامة للبلد، وتنظيم المخزون النقدي، والسير الجيد لعمليات الدفع ومنح الإئتمان للإقتصاد عن طريق مقدمي خدمات مالية. وفي هذا الوضع، لن يتم تنفيذ السياسة النقدية بالاعتماد على نسبة الفائدة بشكل أساسي، كما هو عليه الحال اليوم.

وتماماً كما في السابق، سيتم تحويل ثلث إجمالي الربح الصافي للمصرف الوطني السويسري إلى الكنفدرالية والثلثين إلى الكانتونات. إضافة إلى أنه في المستقبل، سيضع المصرف المركزي تحت تصرف المجتمع الأرباح الناجمة عن إصدار الأموال الجديدة، سواء كانت نقدية أو الكترونية: على سبيل المثال، لا يكلف إصدار قطعة الألف فرنك المصرف الوطني سوى بضع سنتيمات. وسوف يتم توزيع هذه الأموال، دون دَين أو فوائد، على الكنفدرالية والكانتونات أو بشكل مباشر على المواطنين. ونظراً إلى نمو المخزون النقدي الأخير، يمكننا أن نتوقع مبلغاً يتراوح بين 5 و10 مليار فرنك سنوياً.

محتويات خارجية

تعترف الحكومة الفدرالية بأهمية وجود مركز نقدي مُستقر، إلا أنها تعتبر أنه يمكن الوصول لهذا الهدف بفضل التدابير الدولية الجديدة، بدءاً من معايير لجنة بازل حول الرقابة المصرفيةرابط خارجي، ومروراً بالتنظيم الوطني الجديد لرؤوس أموال المصارف النظامية “الأكبر من أن تفشلرابط خارجي“. ووفقاً للحكومة، سيكون اعتماد نظام النقود الحقيقية بمثابة قفزة في الفراغ، حيث لم يُجرِّب أي بلد آخر نظام من هذا القبيل. وسيؤدي تطبيق هذه المبادرة إلى إعادة تنظيم كبيرة لم يسبق لها مثيل للنظام المالي، كما سيُعرِّض سويسرا لمخاطر وتكاليف قد تكون مرتفعة. 

ويمكن أن تنسف الشكوك القانونية المتعلقة بعواقب الإصلاح مصداقية سياسة الضرائب السويسرية، التي تميزت على المستوى الدولي حتى الآن، باستقرار شروطها المحيطة. وهو ما من شأنه أن يؤثر سلباً على مركز سويسرا النقدي مقارنة بالدول المنافسة لها، ويعرِّض مستقبل العديد من المصارف وفرص العمل للخطر.

إضافة إلى ذلك، سيحد الإصلاح من الأنشطة التجارية للمصارف إلى حد كبير. كما سيقلل منع العملة المصرفية من الموارد المتاحة لمنح الإئتمان، والتي تستمد منها المصارف تمويلاً ثابتاً. ولتعويض خسائر الأرباح، ستضطر المصارف لفرض مصاريف إدارية وعمولات أكبر على عملائها. وسيكون لخفض حجم القروض أيضاً تأثير سلبي على الشركات وبالتالي على الإقتصاد الحقيقي.

 استقلالية المصرف الوطني السويسري على المحك

 ووفقاً للحكومة أيضاً، ستقلل المُبادرة كذلك من استقلالية المصرف الوطني السويسري: حيث ستتعرض المؤسسة التي تصدر العملة لضغوطات سياسية كبيرة في حال أُجبرت على المشاركة في تمويل المجتمعات المحلية بشكل منتظم، وتحويل مليارات الفرنكات لها سنوياً. ومن المُحتمل أن يتم تشجيع المصرف الوطني السويسري لرفع مخزونه النقدي بهدف توفير المزيد من الأموال للكنفدرالية والكانتونات. وفي ظل النظام الجديد، لن يتمتع المصرف المركزي بالحرية الكافية لاتباع سياسة نقدية فعَّالة ـ تعتمد على أسعار الفائدة ـ لضمان استقرار الأسعار.

 ولذا، يُعارض المصرف الوطني السويسري هذه المبادرة. ووفقاً لرئيسه، توماس جوردان، باعتماد هذا الإصلاح، سوف تشارك سويسرا في نظام نقدي لم يتم اختباره من قبل، وهو يختلف جوهرياً عن نظام جميع الدول الأخرى. وهو ما من شأنه أن يُسبب اضطرابات خطيرة حتى قبل تطبيقه، كما يصعب تنبؤ نتائجه على المدى البعيد.

لم تنجح المبادرة بإقناع غرفتي البرلمان الفدراليرابط خارجي. كما عارضتها جميع الأحزاب ولم يدعمها سوى عدد قليل جداً من البرلمانيين. ففي مجلس النواب (الغرفة السفلى للبرلمان)، حصل النص على 9 أصوات مؤيدة و169 صوتاً مُعارضاً فيما امتنع 12 عضواً عن التصويت. أما في الغرفة العليا (أي مجلس الشيوخ)، فقد تمَّ نسف المبادرة تماما من خلال تصويت الغالبية العظمى (42 صوتاً) بـِ “لا” وامتناع نائب واحد عن التصويت ولم يصوت أحد بـِ “نعم”. 

أخيرا، يجدر التذكير بأن اللجنة المُعارضة للمبادرةرابط خارجي تضمُّ ممثلين عن جميع الأحزاب السياسية الرئيسية في الكنفدرالية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية