“تجربتي السلبية لم تجعلني أضعف وطموحي مُستَمر”
عندما اختارت خديجة أعبيزان الإستقرار في جنيف قبل حوالي 30 عاماً، لم يكن ذلك هَرَباً من حرب أو أزمة اقتصادية تعصف ببلدها، أو نتيجة عَزْم مُسبق. لكن الصدفة لعبت دورها في رَسم حياة جديدة لها في سويسرا، التي تقول إنها "حَقَّقَت لها الكثير".
سلسلة تجارب مهنية
يطرح حلول الإنسان بمكان لم يألفه من قبل تحديات ومصاعب جمة، قد يسعفه الحظ في بعض الأحيان، فيستأنف رحلة حياته المهنية من حيث توقّف قطارها في بلده الأصلي بيسر وسلاسة.. وقد يجبره الواقع الجديد على بداية المشوار من نقطة الصفر، إن لم يظل يراوح مكانه لسنوات طويلة. وضع المهاجرين العرب في سويسرا ليس استثناءً في هذا الباب، وتكاد تتباين مساراتهم بعدد شخوصهم. swissinfo.ch اختارت الحديث إلى عيّنة منهم، فكانت هذه السلسلة من البورتريهاترابط خارجي.
كان والدها مُهاجراً يعمل في فرنسا ويعيل – مثله مثل الكثيرين من أبناء بلده – أسرته التي ظلَّت في المغرب. وأثناء تمضيتها الإجازة الصيفية معه بعد إنهائها الإمتحانات الثانوية في وطنها، جاءها خبر حصولها على شهادة البكالوريا، وبدأ معها حلم دراسة الأدب الفرنسي في بلد كامو وسارتر. لكن الأقدار كانت ترسم لها طريقا آخر.
فبعد بضعة أشهر أمضتها مع والدها، وفي عام 1988، جاءت إلى جنيف لزيارة صديقة سويسرية متزوجة من رجل مغربي، وحلَّت ضيفة عندها. ولم تُعجب الشابة العشرينية آنذاك بطبيعة سويسرا ومناظرها الخلابة وعمارتها فحسب، ولكن شيئاً آخر لَفَت انتباهها أيضاً. “كانت مُعَدَّلات البطالة مُنخفضة جداً (لم تتعدَّ آنذاك 1%). وفُرص العمل كثيرة، وقد أثار هذا إستغرابي وأسعدني في نفس الوقت. ومع أنني جئت إلى هنا كضيفة، لكنني بالنتيجة قررت الإستقرار في جنيف، مع الحفاظ على إتصالي بوالدي في فرنسا وبقية أسرتي في المغرب”.
“لم يتخلوا عني”
في بداية تواجدها في مدينة كالفين، لم تواجه خديجة أعبيزان (Khadija AABIZANE) أيّ مشكلة في العثور على عمل :”كان عدد المهاجرين أقل بكثير مُقارنة باليوم، وعروض العمل تملأ الصُحُف. كنت أمارس العديد من الوظائف مثل تربية الأطفال وغيرها، ولَم تكن لديّ أي مُشكلة في الحصول على مُرَتَّب”. لكن طموح المغربية الشابة كان أبعد من ذلك، إذ كانت ترغب بُممارسة وظيفة تحبها حقاً، وبالذات في المستشفى الجامعي بجنيف. وهكذا، وبعد حصولها على حق الإقامة في سويسرا، تقدمت في عام 1993 بطلب للعمل كمساعدة تمريض هناك، وتم قبولها على الفور، سيما وأنها تُتقن اللغات الفرنسية والعربية والإنجليزية.
لكن مُعاناة من نوع آخر كانت بانتظارها في وظيفتها الجديدة؛ حيث أصيبَت بحساسية قوية جداً من مادة اللاتيكس (Latex) التي تدخل في صناعة القفازات المطاطية. “كنت أعاني لفترة طويلة الإنتفاخ والوَذَمَةٌ الوِعائِيَّة (تورم الأنسجة تحت الجلد) وغيرها من الأعراض التي كانت تصل إلى درجة فقدان الوعي، والتي ازدادت مع استمراري بالعمل”. إلّا أنَّ إدارة المستشفى لم تَتَخَلّ عنها، واعتبرت حالتها مَرَضا مهنيا ناتجا عن طبيعة عملها. وهكذا عرضوا عليها تدريباً مهنياً جديداً يتيح لها العمل في مجالات أخرى، لكن في ذات المستشفى. وكما تتذكر: “استغرقت فترة التدريب سنتين، تبعتها دورة تأهيلية لمدة سنة، قمت في نهايتها بتقديم أطروحة – كانت حول موضوع فقدان القدرة على الكلام أو ما يُعرف بـ “الحبسة” (بالإنجليزية Aphasia) – حيث اشترطت على المستشفى الحصول على شهادة الدبلوم للعودة للعمل هناك. وخلال هذه الأعوام الثلاثة كنت أستلم مُرتبي الشهري الإعتيادي بالكامل”.
بعد ذلك، مُنِحت أعبيزان مكتبها الخاص، وبدأت بمُمارسة عملها الجديد في مجال التأمينات [التأمين الصحي، وتأمين الحوادث والتأمين على العجز وغيرها] مع قسم الموارد البشرية، حيث تَنَقَّلَت بين أقسام جراحة الجهاز الهضمي، وطب الأعصاب، وجراحة المخ والأعصاب، وطب الأمراض الجلدية ، لينتهي بها المطاف في قسم طب العيون الذي لا تزال تعمل فيه إلى اليوم.
“طموحي مستمر”
خلال هذه الفترة، حصلت أعبيزان على الجنسية السويسرية، ثم تَزوجت وأنجَبَت طفلتين هما الآن بعمر 13 و11 عاماً. لكن زواجها لم يُكتَب له الإستمرار بسبب العُنف الذي ساد هذه العلاقة. وإثر انفصالها، انتَمَت إلى منظمة “فيلاج سويسرابط خارجي” (القرية السويسرية) غير الحكومية وبدأت بالإهتمام بقضايا المرأة والعُنف ضد النساء. وهي تنوي طَرح كتاب هو الآن بشكل تقرير حول حياتها الشخصية والمُعاناة التي كابدَتها، لإفادة السيدات اللواتي يُعانين من ظروف مُشابِهة. وكما تقول: “أمنيتي أن أثبت أني قادرة على الوقوف على قدمي لوحدي، وبأني إمرأة قوية استطاعت الوصول إلى مَرتبة جيدة في عملها، وبأن تجربتي السلبية لم تجعلني أضعف أو أنهار، وبأن طموحي مُستمر رغم تقدمي في السن”.
“سويسرا حققت لي الكثير”
رغم التجربة المريرة التي تَعَرَضَت لها في حياتها الشخصية، تقول أعبيزان إن سويسرا حققت لها الكثير. “لو كنت تَعَرَّضت في المغرب إلى نفس الحالة المَرَضية التي أصابتني في مستشفى جنيف نتيجة ظروف العمل، لكنت فقدت وظيفتي. لكنهم هنا في جنيف لم يتركوني، وأعادوا تدريبي، ومَنحوني فرصة إختيار المجال الذي يَضمَن بقائي في الحَقل الطبّي الذي كنت أحب العمل فيه، وفي نفس المستشفى التي كنت أرغب بالعمل فيها. كما استَطَعت في نفس الوقت الحصول على شهادة الدبلوم”.
وتقول أعبيزان أيضاً إن وجودها في سويسرا وعملها بمجال حقوق المراة في منظمة ‘فيلاج سويس’، ساعدها على تضميد جراح حياتها الشخصية. وهي تشير إلى الكلمة التي ألقتها يوم 5 ديسمبر 2016 في قصر الأمم بجنيف، خلال اليوم العالمي للمنظمات غير الحكومية الذي نظمته ‘فيلاج سويس’ حول موضوع المرأة. “لم يَكُن من السَهل علي التَحَدُّث عن مُعاناة شخصية. من الصَعب على المرأة أن تقول إنها تَعَرَّضت للضَرب المُبرح، فهناك الخجل والتابوهات، والكلام بهذا الشأن يتطلب الكثير من الشجاعة. لو كنت في بلدي، لما كان بإمكاني التَطَرُّق إلى هذا الموضوع بهذا الشكل، وفي الأغلب، كانوا سيعطون الحق لزوجي، وكنت سأمنَع عن التَحَدُّث بالأمر حتى من قِبَل الأهل بدعوى العَيب. كما كان ذهابي إلى طبيب نفسي والتعبير أمامه عما كنت أعانيه من انكسار سيكون صعباً”.
التكيّف مع العادات
اندماج السيدة العربية المُسلمة في المجتمع السويسري، وما تَجِده اليوم من تقدير واحترام لم يأت من فراغ، ولكنه تطلَّب مجهوداً وصبراً. “أي شخص يَجِد صعوبة في البداية. لقد جاء إندماجي خطوة بخطوة، لأن علينا أن نتكيَّف مع عاداتهم ولا نستطيع فَرْض عاداتنا عليهم لأننا نعيش في بلدهم. كنت أشعر بالكثير من الخجل في البداية، وعندما كنت أصوم رمضان مثلاً، لم أكن أعلِن عن ذلك، لأني كنت أجد صعوبة في فَرض ديني. اليوم يعرف الجميع في المستشفى أنني أصوم، ولا أدخن أو أشرب الخمر وهم يحترمون ذلك. لقد ازدادت جرأتي وثقتي بنفسي مع مرور الوقت، وبدأت أناقشهم في القضايا التي تتعلق بنا كعرب. لكن من المِهُم أن نحترم البلد الذي نحن فيه دائِماً”.
على الجانب الآخر، وَجَدَت أعبيزان في سويسرا أيضاً أصدقاء يشدون من عزيمتها ويساعدوها. وهي تضرب مثلاً بوالدة طفلة صغيرة كانت تعمل كمربية لها في بداية وجودها بجنيف. “لقد وقفت هذه السيدة التي كانت تعمل كمُدَرِّسة معي وعاونتني كثيراً. كانت سيدة مُتَفَتحة وتحترم الأديان، ولم تَتَوان عن إرشادي مثلاً إلى أماكن وجود الأطعمة الـ‘حلال’، وبقي اتصالي معها مستمراً إلى اليوم. لم يكن لتعامل هذه الأسرة معي أي علاقة بديني أو دينهم، بل كان قائماً على الأخلاق والمعاملة الطيبة. لقد ساندوني ووقفوا معي دائمأ، وأنا لا أزل مُمتنّة لهم إلى اليوم”.
تعاون سويسري – مغربي
بالإضافة إلى عضويتها في منظمة ‘فيلاج سويس’، فإن خديجة اعبيزان هي النائبة الأولى لرئيس “جمعية سُميّة بلاج للتنمية المستدامة والسياحة بالمغربرابط خارجي“. وكما تقول، فإن ‘فيلاج سويس‘ “منظمة كبيرة لها فروع في الكثير من الدول الإفريقية ومنها المغرب. وهي تتعاون هناك مع جمعية سُميّة بلاج في مجالات التنمية المُستدامة والمرأة والسياحة”.
تتمثل إحدى الأهداف الرئيسية لـ ‘فيلاج سويس’ بتقليص الفجوة الرقمية والإختلافات التكنولوجية بين دول الجنوب والبلدان الناشئة ودول الشمال. ومن خلال عملها بالمستشفى الجامعي بجنيف، تستطيع اعبيزان المساهمة في تحقيق هذه الأهداف.
“كموظفة في المستشفى، بإمكاني مثلاً أن أطلب من الموارد البشرية إمدادنا بأجهزة الحاسوب التي لا تكون المستشفى بحاجة إليها (والتي لازالت تعمل بصورة جيدة)، ثم نعطيها باسم المنظمة للدول الفقيرة كنوع من الإعانة. وهذا يساعد الأشخاص ولا سيما في القرى على التواصل وإثبات وجودهم وتسويق عملهم، وهو مهم أيضاً للشباب لأن هؤلاء يمثلون جيل الغد”.
كذلك تتعاون المنظمتان في مجال السياحة. فعلى سبيل المثال، توجد هناك سواحل في المغرب تفتقر للمرافق الصحية التي تمس الحاجة إليها، وهنا ترفع الجمعية إحتياجات الناس في هذا القطاع إلى ‘فيلاج سويس’، التي تقوم بمعاونتها وتقديم خبرتها في هذا المجال.
إذن، وبعد قرابة 30 عاماً على وجودها في سويسرا، والتجارب التي تكونت لديها، ما هي الوسيلة الأفضل لنجاح اندماج الوافد الأجنبي والمهاجر العربي بشكل خاص في سويسرا برأي اعبيزان؟
“التكامل يجب أن يكون من الطرفين”، كما تقول. “برأيي، يجب على سويسرا أن تفتح أبوابها أمام المهاجرين، وأن تعينهم مادياً ومعنوياً، لأن هؤلاء لا ذَنب لهم فيما يجري في بلدانهم. لا يُمكن تَرك هؤلاء في مواجهة الموت والبرد والقهر، والظروف الصعبة، فهم يحتاجون للدفء والدَعم النفسي – الذي يزيد عن الدعم المادي أحياناً – لا سيما الأمهات اللواتي لديهن عدد من الأطفال الذين يعاني الكثيرين منهم من الصدمة”.
وكما تضيف: “من الناحية الأخرى، نرى أن سويسرا – وهذا ما تُشكَر عليه – تتيح فرص التعَلُّم للاجئين الموجودين على أراضيها كما توفر لهم الرعاية الطبية”. وكمثال على ذلك، تشير أعبيزان إلى العيادة الخارجية المُتنقلة للرعاية الصحية المُجتمعية في جنيف (CAMSCO). وهذه عبارة عن هيكل مُتَنَقِّل مُكَوَّن من فريق تمريض، ورعاية صحية ونفسية، يقدم الرعاية الطبية بشكل مجاني، ولا سيما للأشخاص الذين لا يتوفرون على أوراق ثبوتية، أو تأمين صحي.
“من جانبه، يتعيّن على اللاجيء أو المهاجر أن يَسعى ويبذل جهداً هو الآخر وأن يتعلم، ولاسيما اللغة، وأن لا يكتفي بتَلَقي المعونة المالية، والرعاية الصحية والإستفادة فقط. ومن المُهم أيضاً ان لا يَفرِض شروطه أو عاداته، لأنه بذلك يُصَعِّب الحياة على نفسه وعلى المهاجرين الآخرين أيضاً. وعليه أن يعكس صورة جيدة عنه سواء كعربي أو كمسلم، لكي لا يقال أنه جاء للإستفادة فقط. ينبغي على المهاجر أن يشارك ويتعاون وأن يُقَدِّر الفُرَص الممنوحة له”.
في النهاية أسأل أعبيزان عما تشتاق إليه في وطنها ولم تجده في سويسرا. “أشتاق كثيراً للحنان الذي كان يغمرني في بلدي والذي لم أجده هنا، كما لم يُفارقني الإحساس بالغربة أبداً”، كما تجيبني بصوت تخنقه اﻟﻌﺒﺮات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.