مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

جنيف الدولية تحتفي بـمرور 12 قرنا على تأسيس فاس المغربية

swissinfo.ch

في غمرة التظاهرات الاحتفالية التي تشهدها هذه السنة المملكة المغربية بمرور 12 قرنا على تأسيس مدينة فاس، احتضن المقر الأوروبي للأمم المتحدة بجنيف مؤخرا أمسية فنية كبيرة، أحيتها المجموعة الموسيقية الفرنسية "ملتقى السلام" التي تضم مغاربة وفرنسيين ومعتنقين جدد للإسلام، بمشاركة الفنانة المغربية رشيدة طلال، والمطرب اليهودي موري كوفي.

واشتملت التظاهرة أيضا على معرض تشكيلي مُتميز للفنانيْن المغربيين المقيمين بسويسرا علي لغروني وعزيز بوستة اللذين عبرا بطريقتهما عن حبهما لمدينة فاس المُدرجة في قائمة التراث الإنساني العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”.

وقد نظمت هذه التظاهرة بالتعاون مع جمعية “الثقافات المتعددة” (Cultures Plurielles) بسويسرا، والمركز الثقافي المغربي الأمريكي بلوس أنجلس (MACCLA)، وبرعاية سيرغاي أورزنيكيدس، المدير العام لمكتب الأمم المتحدة بجنيف والسفير محمد لوليشكي، الممثل الدائم للمملكة المغربية بالمنظمة، والسفير المغربي لدى برن محمد غديرة، وبالتعاون مع اليونسكو، وبالتعاون مع “الجمعية المغربية للاحتفال بـ 12 قرنا على تأسيس مدينة فاس”.

برنامج الاحتفال الذي انطلق يوم 23 أكتوبر الماضي بإحياء سهرة بجنيف ومؤتمر علمي بجامعتها، سيتواصل إلى 10 نوفمبر من خلال المعرض التشكيلي للرّساميْن المغربيين علي لغروني وعزيز بوستة.

جنيف وفاس، مهدا التنّوع والتسامح

اختيار جنيف، هذه المدينة الدولية، لانطلاق سلسلة من الفعاليات الثقافية عبر عدد من المدن الأوروبية، كان اختيارا مدروسا. وعن ذلك تقول السيدة نزهة الإدريسي، رئيسة جمعية “الثقافات المتعددة”: “جاء اختيار جنيف لأنها مدينة عالمية تلعب دور حلقة الوصل بين شمال أوروبا وجنوبها وترفع راية التقارب والحوار بين الديانات والثقافات، وهي تشبه في ذلك إلى حد كبير مدينة فاس، المعروفة بكونها نقطة تقاطع بين الثقافة الإسلامية القادمة من الشرق والتقاليد البربرية والإفريقية القادمة عبر الصحراء الكبرى”.

إلى جانب ذلك، تتقاسم المدينتان تقاليد عريقة في إيواء المضطهدين وفي إعلاء القيم التكافل والتعاون الإنسانيين، إذ كانت فاس، العاصمة الثقافية بالمغرب الأقصى، ملاذا آمنا للأندلسيين، مسلمين ويهود، الهاربين من بطش الكنيسة، تماما كما تستضيف جنيف اليوم أعدادا كبيرة من اللاجئين من المناطق التي تشهد حروبا وصراعات إثنية، وتأوي على ترابها عشرات من المنظمات والوكالات الدولية، مثل المقر الرئيسي لجمعيات الهلال والصليب الأحمر والمكتب الدولي للسلام وغيرها.

كما أن تأسيس المدينتْن وتطوّرهما يتشابهان إلى حد بعيد، وعن ذلك تقول السيدة الإدريسي: “تأسست فاس على يد مولاي إدريس الأول، الذي قدم إلى المنطقة هاربا من اضطهاد الدولة العباسية، كما كانت نهضة جنيف ثمرة الأفكار الإصلاحية التي حملها معه كالفان، الهارب من بطش الدولة الفرنسية”.

هذا الاختيار يتخذ بُـعدا دوليا وإنسانيا أكبر لدى السيد محمد لوليشكي، الممثل الدائم للمملكة المغربية لدى الأمم المتحدة، وبالنسبة له: “المغرب، كان مقتنعا دائما بأهمية التعايش بين الحضارات وبين الديانات وهو أساس العلاقات بين الدول وبين مكوّنات المجتمع الواحد، ولا غرابة إذن أن تكون جنيف أوّل محطة للتواصل بين المغرب والدول الأخرى. فجنيف مهد الدفاع عن حقوق الإنسان ومركز القانون الدولي الإنساني”.

الرسالة الإنسانية لمدينة فاس

المنظمون لهذه التظاهرة لا يخفون انشغالهم بتصاعد مشاعر الكراهية تجاه الأجانب وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة عبر البلدان الأوروبية، ويأملون من خلال هذه التظاهرة الثقافية أن يساهموا في لفت الأنظار إلى ما يمثل القواسم المشتركة بين الشعوب، على الرغم من تنوع الأعراق والأجناس والألوان.

والاحتفال الذي حضره جمهور عريض، أغلبه من أبناء الجالية المغربية بسويسرا ومن أعضاء الهيئات الدبلوماسية والموظفين الدوليين، ومن السويسريين، أبناء البلد، أراد المنظمون من خلاله إيصال رسالة تقول عنها نزهة الإدريسي، رئيسة جمعية الثقافات المتعددة: “في زمن يُجرّم فيه المهاجرون وتلحق بهم كل النعوت السلبية وتكثر أسباب الشقاق بين الثقافات والأديان، أردنا أن يعلم المجتمع الدولي بأن أوّل جامعة في العالم كانت جامعة القرويين، أسستها لاجئة قدِمت من مدينة القيروان، هي فاطمة الفهرية، وأن ما يفرّق بين الشعوب، هو ثراءً للثقافة الإنسانية ومكسبا لها، تماما مثلما كانت علاقة الحب بين مولاي إدريس الأوّل، العربي القادم من بعيد، وكنزه الأمازيغية، أساسا للتمازج بين ثقافتيْن وحضارتيْن كبيرتيْن”.

أما عن دلالات الحفل بالنسبة للحضور من الجالية المغربية والعربية بصفة عامة، فتقول السيدة نزهة الإدريسي: “أردنا أن يعلم أبناؤنا المقيمون بالمهجر أنهم ينتمون إلى حضارة يحق لهم أن يفخروا بها وأنهم ليسوا سوى أغصان لتلك الشجرة اليانعة في أوروبا”.

رد إعتبار، ثم ماذا بعد؟

المناسبة كانت فرصة للتذكير أيضا بأعمال الفنّانين والمؤرخين حول مدينة فاس، ومن هؤلاء تيتوس بيركهارد، سويسري من أصول ألمانية، خصص حيّزا هاما من أعماله لهذه المدينة التي أقام فيها زمنا طويلا، وأعجب بطابعها المعماري ونفحاتها الروحية، وبفضل أعماله العلمية، صنّفت اليونسكو مدينة فاس لاحقا كجزء من التراث الإنساني.

كذلك يتواصل الآن تنظيم معرض للفنون التشكيلية، بمشاركة كل من علي لغروني، وعزيز بوسته، في فضاء أحد الأجنحة بمقر الامم المتحدة بجنيف. اللوحات المعروضة تستوحي من تاريخ مدينة فاس طابعها الشرقي، وقيمها الإنسانية العالمية، ونفحاتها الروحية الطاهرة.

وعن مشاركته هذه يقول علي لغروني: “من خلال تعدد الألوان في أعمالي التشكيلية، أردت أن أعكس تعدد أوجه الحياة والمعمار اللذيْن تزخر بهما مدينة فاس، كل لوحاتي تتضمّن رموزا وألوان وتعابير عربية ومغربية أصيلة”. ولا يخفي هذا الفنان الذي يقيم في جنيف منذ ثلاثة عقود سعادته بالدعوة التي وجّهت له للمشاركة، فهو من أبناء فاس، قضى فيها طفولته وجزءً من حياته.

أما الرسام عزيز بوستة، فقد كشف لسويس إنفو، سرّ لوحاته الإثنتي عشر، التي أكمل رسمها في غضون ثلاثة أسابيع فقط، وإستوحى ألوانها كما يقول من “دار الدبيغ بفاس”، وأسند لكل لوحة من لوحاته أسماء عربية وأمازيغية للتعبير عن التمازج الثقافي الذي تعكسه الحياة والعمران في فاس.

لكن، ما الذي ستستفيده فاس من هذه التظاهرات؟ كمال الودغيري، رئيس المركز الثقافي المغربي الأمريكي بلوس أنجلس الذي تُنسب أليه فكرة تنظيم هذه التظاهرة الدولية للاحتفاء بفاس من خلال الفن، أجاب قائلا: “ستحظى فاس بإشعاع دولي، وستجذب إليها السواح والزوّار، والمهتمين بالفنون العمرانية”.

ويضيف الودغيري: “سنستفيد كلنا، عربا ومسلمين، من هذا الجهد لانه سيبيّن أن فاس مدينة الحضارة والتمدن وحاضرة العلم، إستفاد من تراثها العالم بأسره، وفي هذا فخر للعرب، وللمغاربة”.

أما السيدة نزهة الإدريسي، فتقول: “ما يجب أن تتوجه إليه أنظارنا الآن هو كيفية حماية الكنوز التراثية في هذه المدينة، وكيفية المحافظة على إشعاعها الدولي”.

سويس إنفو – عبد الحفيظ العبدلي بالإشتراك مع إصلاح بخات- جنيف

تاسست مدينة فاس أولا على يد إدريس الأول في أواخر القرن الثامن قبل أن يقوم ابنه إدريس الثاني بتوسيعها سنة 182 هجري، الموافق لسنة 808 ميلادي، أي قبل 1200 سنة من الآن، وأتخذها عاصمة لدولة الأدارسة.

تنقسم المدينة اليوم إلى ثلاث وحدات كبرى: المدينة القديمة وفاس الجديدة، التي بُـنيت على يد أبي يوسف يعقوب المنصور سنة 1276 ميلادي، والمدينة الحديثة، وقد بناها الفرنسيون زمن الإستعمار.

هذه المدينة التي شُيدت على الضفة اليمنى من نهر فاس، يقطنها اليوم حوالي 1.8 مليون نسمة. هاجرت إليها عائلات عديدة من القرويين من الشرق ولجأ إليها الأندلسيون الذين طُـردوا من ديارهم وهربوا من بطش الكنيسة.

إشتهرت فاس عبر تاريخها الطويل بكونها مركزا علميا هاما، وبجامعة القرويين، التي أسست سنة 859 ميلادي، وكانت مقصد طالبي العلم من العالميْن العربي الإسلامي، وكذلك من البلدان الأوروبية، كما عرفت هذه المدينة بصناعاتها التقليدية العريقة، مثل صناعة الورق والدباغة وصناعة الجلد والقصب.

سيطرت على فاس العديد من العائلات الحاكمة، منها أمراء زناتة والموحدون وبنو مرين، إلى أن تحوّلت عاصمة للدولة العلوية، وظلت عاصمة للمملكة المغربية حتى سنة 1912، لكن عندما إستقل المغرب عن الإحتلال الفرنسي، انتقلت عاصمة المملكة إلى الرباط.

من المتعارف عليه في المغرب، أن الرباط هي العاصمة السياسية والدار البيضاء، العاصمة الإقتصادية، أما فاس ومراكش، فهما حاضرتا الثقافة والسياحة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية