مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“نحن لا نـشُـنّ الحـروب بل نصنعُ الأفـلام”

لقطة من فيلم "زنديق" للمخرج ميشيل خليفي وفي الإطار أيضا بطل الفيلم محمد بكري (حامل المطرية) ومجموعة من المساعدين. FIFF

تتجدد ذاكرة الشعوب مع تعاقب الأزمان والأجيال، فهي الملاذ عندما تختلط الأزمنة وتتواتر الفواجع، وحتى عندما تسلب الأرض، يسكن هذا الوجع، وهذه الذاكرة طوايا الوجدان، حيث يتولد الإحساس، وتتشكل بذرة الانتماء.

هذه الذاكرة، ذاكرة الشعب الفلسطيني، هي ما يحاول ميشيل خليفي تعهده في فيلمه الجديد “زنديق”، إيمانا منه بأن بناء المستقبل الفلسطيني لا يتخذ بعده الحقيقي إلا بإعادة النظر في البدايات وبداية التاريخ الفلسطيني الحديث هي نكبة 1948.

من رحم تلك المأساة تحاول السينما الفلسطينية الجديدة أن تبدأ التوثيق النقدي تجاه المستعمر، وتجاه الذات القابلة للاستعمار، وذلك لأن المعادلة بكل بساطة “هم أقوياء لأننا نحن ضعفاء” على حد قول مخرج “زنديق”. وفي إحدى العبارات التي تضمنها الفيلم، وصيغت ببراعة فائقة تلخص رسالة المبدع الفلسطيني الطائق إلى الإنعتاق: “نحن لا نشن الحروب بل نصنع الأفلام”.

على هامش الدورة الرابعة والعشرين للمهرجان الدولي للافلام بفريبورغ، حيث يشارك هذا الفيلم الفلسطيني البريطاني ضمن المسابقة الرسمية، أجرت swissinfo.ch هذا الحوار مع ميشيل خليفي الذي احتضنته فريبورغ منذ بداية التسعينات.

swissinfo.ch: الفيلم الذي تشاركون به في هذا المهرجان يوجد ضمن المسابقة الرسمية، ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لمخرج سينمائي؟

ميشيل خليفي: في هذه المشاركة مساعدة للفيلم، لكن كل فيلم له طريقته الخاصة في الوصول إلى جمهوره. حضورنا إلى فريبورغ هو بسبب الصداقة الوثيقة التي تربطنا بالمدير الفني لهذا المهرجان، لكننا كنا واعين بأن سويسرا ليست سوقا سينمائية كبيرة، كما انها ليست محطة ضرورية للوصول إلى النجومية. لقد استجبنا إلى الدعوة أيضا تضامنا معهم للجهود التي يبذلونها في التعريف بسينما بلدان الجنوب.

بماذا يتميز فيلم “زنديق” عن سابق أعمالكم؟

ميشيل خليفي: بالنسبة لي التأليف هو تنويع على نفس الوتر، والموضوع الأساسي في كل اعمالي هو محاولة الإجابة عن سؤال: كيف خسر العرب فلسطين؟ وما هي طبيعة العلاقة الجدلية بين واقع المجتمع العربي والمجتمع الفلسطيني وحدوث النكبة عام 1948 . هذا التفكير يقودني إلى أن ما فقدناه هو فلسطين ما قبل 1948، أما فلسطين المستقبل فلا تزال موجودة، وهي في متناول اليد إذا ما غيّرنا نمط وأسلوب تفكيرنا، واعدنا تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والدولة، ثم قمنا بإعادة النظر في علاقة حاضرنا بالماضي وبالمستقبل. أؤمن أن فلسطين لا تزال في محلها، وبإمكاننا جميعا ان نشارك في تغيير الظروف التاريخية والسياسية بما يسمح باستعادتها.

الفيلم يروي قصة مغترب يعود إلى موطنه الاوّل، عن ماذا كان يبحث بطل الفيلم في الناصرة؟

ميشيل خليفي: هو عاد لإنتاج فيلم وثائقي ، وجمع شهادات عن نكبة 48 من أفواه من عاصروها، وكان يشغله سؤال أساسي: لماذا لم يرو له والداه ولو مرة واحدة ما حدث سنة 1948. الكل يعلم أن الكثير قد قيل عن اللاجئين في البلدان المجاورة أو الذين أبعدوا إلى أقطار بعيدة، لكن القليل فقط كتب او قيل حول من فضّلوا البقاء متحمّلين الغطرسة والبطش. بطل الفيلم يريد أن يفهم ذلك، وفي هذا أيضا إعادة اللحمة للتجربة الإنسانية بين الداخل والخارج من سكان فلسطين، هي نفس القصة انقسمت إلى شقيّن.

لكن الأسطورة خلصت من زمان، واليهود أخذوا الأرض، ما الفائدة في إعادة رواية ما فات؟

ميشيل خليفي: الامر يتعلق بمحاكاة مع الذات، كل واحد فينا وريث قصة آبائه، وآبائه ورثوا قصة أجداده، ثم تنضاف إلى ذلك مكاسب الحاضر، وتطلعات المستقيل…التجربة الإنسانية عملية تراكمية، والقضية الاساسية كيف يجب ان نتعامل مع هذا التراكم، ولكي نفهم حركة التاريخ، لابد من فصل الأزمان عن بعضها البعض. الهدف الذي يريد الفيلم أن يصل إليه وعي الفلسطيني والعربي خاصة أنه وريث جرح غائر وكبير، وهذا الجرح لحظة تأسيسية في تاريخه، لكنه لن يستطيع صناعة التاريخ إلا عندما ينفك من اسر تلك اللحظة.

كيف استقبل المشاهد السويسري فيلم “زنديق” إلى حد الآن؟

ميشيل خليفي: فاجأ الفيلم الجمهور السويسري، وطريقة تناوله للقضية أيضا كان جديدا عليهم، كذلك يبدو انه أثار لديهم العديد من الأسئلة. حتى الآن ظل هذا الفيلم موجها إلى الفلسطينيين وإلى العرب، لكن يبدو أن له جمهوره الغربي أيضا. معنى هذا أن الإشكال الذي يعالجه هذا الموضوع يحظى بأهمية لدى هؤلاء جميعا.

نعود إلى عنوان الفيلم “زنديق”، هل هي محاولة لنزع الطهورية عن الفلسطيني، وبالتالي محاولة انسنته؟

ميشيل خليفي: ها هنا دلالات متعددة: أولا هي محاولة لدعم وتعزيز فرص خلق مجتمع متعدد في العالم العربي يتعايش فيه المتديّن مع العلماني، وثانيا محاولة إضفاء طابع إنساني على الفلسطيني نفسه، وحتى لا يحمّل هذا المجتمع الضيق والصغير وزر الإحباطات العربية.

هناك قواسم مشتركة في توصيف الواقع الفلسطيني بينكم وعدد من الوجوه الفلسطينية المعروفة في الساحتيْن الإبداعية والسينمائية كالشاعر سميح القاسم، والمخرجة نجوى النجّار، هل هي دعوى إلى التنصل من أشكال المقاومة الحالية، والبحث عن بدائل؟

ميشيل خليفي: وجودنا في مجتمعات غير ديمقراطية جعل المقاومة مسلوبة في أيدي إيديولوجيين يقررون مكان الشعب، ونيابة عنه، هذا الأمر لم يكن كذلك خلال الثورة الأمريكية أو خلال حرب بريطانيا ضد النازية. في الحالتيْن الذي حارب هو الشعب، وبشكل جماعي. عندما يقرر المجتمع يكون مهيّأ لتحمّل تبعات قراره. الوضع في منطقتنا مغاير جدا، هذا هو حال سوريا التي توجد منذ عقود في حالة لا حرب ولا سلم، وذلك لأن النظام السوري يخشى مجتمعه، كذلك هو الحال في كل المجتمعات العربية كالأردن ومصر والجزائر و…لكن حتى لو قرر الشعب توجها ما، المبادئ الأساسية للديمقراطية تسمح بالتعبير عن رأي مخالف من دون السعي إلى فرضه بأسلوب غير ديمقراطي.

أجرى الحوار عبد الحفيظ العبدلي – فريبورغ – swissinfo.ch

نشأ ميشيل خليفي في الناصرة، حيث ولد عام 1950. في العشرين من العمر، ترك الناصرة إلى بروكسل، حيث درس الإخراج المسرحي والتلفزيوني في الـ INSAS (المعهد الوطني العالي لفنون العرض)، قبل أن يتخرّج عام 1977.

لفت الأنظار منذ باكورته الوثائقيّة «الذاكرة الخصبة» (1980) التي نالت الجائزة الأولى في «أيام قرطاج السينمائيّة»، وكان حينها قد بدأ العمل في التلفزيون البلجيكي. ثم جاءت باكورته الروائية «عرس في الجليل» عام 1987. يومها، استُقبل الشريط بحفاوة في «مهرجان كان» (جائزة النقاد ـــــ 1987)، وحصد جوائز عدّة مثل «التانيت الذهبي» في «مهرجان قرطاج» (1988).

واستمرّ نجاحه مع «نشيد الحجر» (1990)، حتى «الطريق 181» (2003). وبعد غياب ستّ سنوات، ها هو يعود بـ«زنديق» الذي نال جائزة أفضل فيلم روائي عربي في «مهرجان دبي».

ويشارك المخرج بهذا الفيلم أيضا في الدورة 24 من المهرجان الدولي للأفلام بفريبورغ.

يقيم خليفي حالياً في بروكسل، حيث يدرّس في المعهد نفسه الذي تخرّج منه، إضافةً إلى نشاطه المتشعب بين الإخراج والإنتاج.

يعود بطل الفيلم إلى مهد ولادته بالناصرة بعد أن هاجرها هاربا أثناء حرب 1948، لكن هذه العودة كانت محفوفة بالكوبيس كما اقترنت بأحلامها الوردية.

هذا الفيلم الذي لاقى إلى حد الآن الإشادة والتنويه ويعرض خلال المهرجان الدولي للأفلام بفريبورغ ضمن المسابقة الرسمية، سبق ان نال جائزة أفضل فيلم روائي في طور الإنجاز في مهرجان دبي، وفيه يتعقب المخرج مصير وطن ممزق بالاحتلال والصراعات الداخلية، وتركه الفراغ القانوني مسرحا للفوضي وتصفية الحسابات بين العصابات والمتاجرين في الأعضاء البشرية.

رغم كل ذلك يمضي بطل الفيلم (جسده الممثل محمد بكري) في مغامرته الهادفة إلى حماية الذاكرة الفلسطينية عبر الكاميرا ومن خلال جمع شهادات من عاصروا نكبة 1948، في محاولة لتدارك التقصير الحاصل في هذا الجانب.

في التوازي مع ذلك يظل بطل الفيلم كأي إنسان آخر، فالفلسطيني إنسان أيضا يعاني من التمزق والضياع، ويشكو عقدا نفسية، ويمر بتجارب ذاتية وعاطفية ويخوض غراميات ناجحة وفاشلة، ويتنقل من شارع إلى شارع زمن زقاق إلى زقاق في رحلة زندقة لايبدو انها مست بطل الفيلم فحسب بل شملت مدينة الناصرة الغارقة في العنف، وكل الوطن الغارق في الصراعات الجانبية، والخارج من عقد التاريخ.

الفيلم أيضا عبارة عن تصفية حساب مع الذات، فاللاجئ الذي غادر الوطن، عند عودته تائبا لن بجد له ملاذا، كل الفضاءات مشغولة، والوطن يتداعى نابذا ورافضا كل قادم جديد، ولا سبيل إلا العودة على بداية الأسطورة، والعثور على مفتاح بيت أهله عام 1948.

لكن الإمساك برأس الحكاية، لا يكفي، فلئن وجد المفتاح، لن يجد الدار التي “سكنها اللصوص وتجار الأعضاء البشرية”، مما يزيد في الضياع وتشعب المهمة، ولم يبق من سبيل أو من حيلة سوى “التسلح بالكاميرا، وإعادة ترميم الذاكرة الوطنية المتهاوية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية