مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عندما يكون الزهد الصوفي جسرا للتواصل بين الثقافات والبشر

مقام النبي يحي باحد اروقة جامع الامويين بدمشق بسوريا، حيث يصلي مسلمون ومسيحيون منذ أزيد من 1000 عام Catherine Touaibi

يستضيف متحف الفنون المعاصرة بمارتيني معرض "مسارات روحية"، ضمن الأديان العالمية الكبرى في إطار فعاليات السنة الدولية للتقارب بين الثقافات. ويسلط جزء مهم من هذا المعرض الضوء على أضرحة الأولياء والصالحين في منطقة المغرب العربي من خلال مجموعة كبيرة من الصور التقطتها عبر السنين عدسة السويسرية كاترين طويبي.

الهدف من هذا المعرض بحسب مادس أولسين، مدير المتحف “فتح حوار حول مصير الإنسان وقدره”، هدف طموح لاشك، رغم إقراره بأنه “كان بمثابة التحدي توفير هذا اللقاء بين الثقافات من دون السقوط في فخ تاريخ الأديان:. ولم يكن أمامنا، يضيف هذا الأخير، سوى نزع رداء الموضوعية للسماح لكل مشارك بتحسس النور الذي يكتنزه التراث البشري.

أما الجناح الذي خصصه المتحف للدين الإسلامي ضمن هذا المعرض فيقترح على الزائر مجموعة كبيرة من الصور التقطتها عدسة طويبي لأضرحة أهل الزهد ممن تجلّهم وتعظمهم الطرق الصوفية. ومن هي طويبي؟ امرأة شقراء، زرقاء العينين، سويسرية أصيلة مدينة القديسين فريبورغ، وقد تربت في أحضان الكاثوليكية.. إنه مسار مثير للإنتباه بلا شك!

نظرة غربيّة

يعترف مادس أولسين، وقد علت وجهه ابتسامة عريضة “نعم هذا العمل يقدم رؤية غربية، وشهادة مؤثرة حول هذه الممارسات الباطنية والصوفية في الإسلام. إنها نظرة مفعمة بالإنسانية حول أشخاص يصلّون في أماكن مقدسة”.

ضريح زاهد على إحدى قمم الجبال بالمغرب، وقبر قديسة في مصر، ومقبرة أولياء صالحين بمدينة فاس، ونساء مجتمعات حول قبر أحد المشايخ في غور كهف بإحدى المناطق التونسية النائية… ثلاثون صورة من أحجام متوسطة ومتواضعة الجودة هو كل ما تقترحه كاترين طويبي على زائر هذا المعرض. لحظات حرصت فيها على تجنب أي لمسات تجميلية خادعة.

وتوضح المصوّرة دوافع عملها هذا فتقول: “كان هدفي الإمساك بهذه اللحظة التي لا يعود ما فات منها، وتقديم شهادة صادقة على معتقدات هؤلاء الأشخاص وهم يتعبّدون. لكنني أحرص على أن أظل خارج المشهد، ولا ألتقط صورهم من الأمام، حتى لا أذهب خشوعهم، كما لم يكن بإمكاني حمل أجهزة تصوير متطورة وكبيرة الحجم. أحرص على الإنصهار في الإطار المحيط، وأنتظر.. في بعض الأحيان لساعات طويلة، تلك اللحظة التي يبدو لي فيها أنها اللحظة المناسبة لالتقاط الصورة. وقد أجبر في بعض الأحيان على العودة في يوم آخر لنفس المكان”.

يصوّر أحد هذه المشاهد بعض المسيحيين مجتمعين عند مقام النبي يحي (مزار القديس جون بابتيست لدى المسيحيين) في أحد أروقة مسجد الأمويين بدمشق، بمحاذاة مسلم يصلي متجها للقبلة. وعن هذا المعلم الإسلامي التاريخي تقول كاترين طويبي: “هذا المسجد فريد من نوعه، لأنه بني على أنقاض كنيسة، هي نفسها قد شيدت في مكان معبد جوبيتار، كبير الآلهة في العهد الروماني”.

روحانية خالصة

يقرّب هذا العالم الروحي بين الأديان والثقافات، وتشير طويبي إلى أن الكثيرين من أهل الزهد في الإسلام في القرون الوسطى قد عاصروا بعض الأعلام المسيحيين مثل فرانسوا داسيس، الذي هاجر في حياته إلى مصر.

وعن اهتمامها بعالم التصوف والزهد، تقول طويبي: “ولدت في فريبورغ، أحد أهم المراكز الروحية في سويسرا، والذي لا يزال يوجد فيها إلى حد الآن مجموعة من الأديرة والمعابد، وكنت أشعر بالإنجذاب باستمرار إلى الورع والزهد، وهما ميزتان أساسيتان للطرق الصوفية”.

وتشرح خلفيات هذا الميل إلى الزهد فتقول: “لقد وصلت إلينا الحكمة الكونية القديمة عبر سلسلة طويلة من الأتباع والقديسين. ويرشدنا البحث عن أسرار هذا الوجود إلى طريق المقدس، للأسف طريق أغفلته مجتمعاتنا في هذا العصر”.

اعتنقت كاترين طويبي الدين الإسلامي قبل عشر سنوات، لكن اكتشافها لحضارة الشرق كان بداية من سنة 1982، وتزامن ذلك مع زواجها من رجل جزائري “لقد سحرني ما لقيته من كرم الضيافة والإستقبال، وما عرفته عن حضارة الشرق التي أبعد ما تكون حقيقتها عن الصور النمطية السائدة عنها في الغرب”.

أوّل ضريح زارته كاترين كان قبر الشيخ سيدي بن قاسي، الجد الأول للعائلة التي ينتمي إليها زوجها، وبالنسبة لطويبي: “مع مرور الوقت أصبحت شغوفة بزيارة هذه الأضرحة. في أغلب الأحيان يتوسط هذه الأماكن ضريح الولي، لكن ليس بالضرورة دائما. ما هو غريب في هذه الفضاءات الجوي الروحي الذي يلفها، حيث يفتقد المرء فيها الإحساس بالزمان والمكان”.

انعطافة ثمانين درجة

مع بداية الألفية الثالثة، دشنت كاترين طويبي مرحلة جديدة في حياتها المهنية هذه المرة. وبعد ثلاثة عقود من العمل في مجال السياحة والتسويق، اختارت العمل لحسابها الخاص “لم يعد بإمكاني التفرّغ في حياتي للعمل، وللإنتاج، والإستهلاك. لقد أردت أن أعطي لحياتي معنى آخر، وأن أوفّر الوقت والجهد لهذا البعد الشرقي الذي اكتشفته في كياني”.

سنوات قليلة بعد ذلك، اكتشفت هذه الرحالة التي لا يستقر بها مقام عن طريق الصدفة عالم التصوير سنة 2003، على هامش أحد المعارض. ومنذ ذلك الحين، التقطت صور أزيد من 80 ضريحا لمشايخ وزهاد معروفين نسبيا في المغرب والجزائر وتركيا وسوريا ومصر، وأيضا في باكستان والهند. وتخطط حاليا لزيارة إيران والعراق والمملكة العربية السعودية للغرض نفسه.

وفي العام الماضي فقط، نظمت إحدى جامعات الجزائر معرضا لأعمال هذه المصورة الفوتوغرافية التي تقول عن نفسها: “العمل التوثيقي الذي أقوم به وعنوان هذا المعرض يعبران بدقة عن مساري الروحي الشخصي. فالإهتمام البالغ الذي حظيت به أعمالي في الجزائر وفي مارتيني بسويسرا شجعاني كثيرا، وأنا الآن بصدد إعداد كتاب حول هذا الموضوع”.

تفكيك مشاعر الخوف

لا يتوقف طموح طويبي عند هذا الحد، فهي تحاول ايضا بناء جسور متينة للتواصل بين الشرق والغرب، وذلك من أجل “تفكيك مشاعر الخوف المتبادل بين العالمين، وإثبات أن الديانتيْن الإسلامية والمسيحية جاءا يبشران بعالم يسعد فيه الجميع”، على حد قولها.

ورغم الخيبة الكبرى التي أصابتها بعد إقرار الحظر على بناء المآذن في سويسرا في موفى نوفمبر 2009، فإنها استخلصت بسرعة الدروس: “لقد أدركت أن النقاش الذي دار خلال مبادرة حظر المآذن ظل سطحيا، وأن الأغلبية الصامتة لم تبد رأيها حول رسالة الإسلام، في حين كان منتظرا منها المساهمة في الإعتراض على محاولات شيطنة الإسلام”.

ومن المنتظر أن تنظم “الجمعية الدولية للصوفية العلوية” التي تنتمي إليها طويبي مؤتمرا بمدينة جنيف في شهر أكتوبر المقبل إحياء لمرور قرن على تأسيسها.

ويستضيف هذا المؤتمر الذي يعقد تحت شعار”من أجل إسلام حر ومسؤول”، شخصيات من مختلف الأديان، والحساسيات الفكرية، وأنصارا للبيئة، وغيرهم. وعن أهداف هذا المؤتمر، تختم كاترين طويبي بالقول: “نريد أن نعطي صورة أخرى عن الإسلام، بعيدا عن الصور النمطية الموغلة في السياسة والتطرّف”.

إيزابيل إيشنبيرغر – swissinfo.ch

(ترجمه من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)

المعرض: يتلخص المعرض في تقديم “أربع رسائل تنويرية للقرن الواحد والعشرين”، من أخراج ألكسندر بونيون وأصحاب هذه الرسائل هم بيار رابحي (مسيحي من أنصار البيئة)، والشيخ خالد بنتونس، والقس ألان ريتشارد، والبوذي داغري ريمبوشي.

الصور: لكل من كاترين طويبي، وكريستيان إيغس، وأوسفالد روبّن، وهذه الصور على التوالي حول أضرحة الاولياء في ديار الإسلام، والديانة البوذية في مقاطعة التيبت، وصور بالابيض والأسود حول حول المسيحية.

مارتيني: يتواصل معرض “مسارات روحية” الذي ينظم في إطار “أيام القارات الخمسة 2010” إلى 15 أغسطس 2010 بمتحف الفنون المعاصرة في مدينة مارتيني (كانتون فالاي).

ولدت كاترين بفريبورغ، وتعمل وتقيم حاليا في زيورخ.

متحصلة على دبلوم في العلاقات العامة، ومصورة هاوية. عملت طيلة ثلاثة عقود في مجال السياحة والتسويق، وأشرفت على تنظيم العديد من التظاهرات الخاصة في سويسرا وخارجها.

اعتنقت كاترين الإسلام سنة 2000، وهي الآن عضو بالمجلس العلمي للجمعية الدولية للصوفية العلوية.

بدأت ممارسة التصوير سنة 2003، وتنظيم معارض لصورها بداية من سنة 2007. ونظم معرض “أضرحة الأولياء في أرض الإسلام” لأول مرة سنة 2009 بجامعة خروبة بمستغانم في الجزائر.

التصوف مدرسة روحية باطنية وزهدية اصيلة في الإسلام، وتشكلت كمدرسة واضحة المعالم في القرن الثامن الميلادي من داخل المذهب السني في البداية ثم انتقلت إلى التشيع ونجدها لدى الإسماعيلية والدروز.

نجد في التصوف الإسلامي العديد من النقاط المشتركة مع بعض التيارات المسيحية ، بل وحتى في البوذية والهندوسية.

توجد في العالم الإسلامي العديد من الطرق الصوفية، وتختلف في درجة اتساعها، وفي تصوراتها وعقائدها، وفي علاقتها بالسياسة وبالمجتمع والحياة عموما.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية