مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الخرسانة: مادة البناء الأكثر شيوعاً في القرن العشرين

المدخل الجنوبي لنفق غوتهارد
رينو تامي: المدخل الجنوبي لنفق غوتهارد، في أيرولو، كانتون تيتشينو. Balerna, Archivio del Moderno, Fondo Rino Tami

عُشّاق الهندسة المعمارية يتحدثون عنها بكثير من الحَماسة والحَنين، بينما يرى فيها آخرون مثالاً للبرودة وانعدام الهوية. تستعرض swissinfo.ch، في هذا المقال فترة من التاريخ الثقافي السويسري اختلفت فيها الآراء بين معجب بالخرسانة ومبغض لها.

تَعتَمد سويسرا على الخرسانة بشكل رئيسي في عمليات البناء. وحتى بعد الحرب العالمية الثانية، استخدمت البلاد – بالقياس إلى عدد سكانها – كميةً أكبر من الخراسانة مُقارنة بِدِول أوروبا الأخرى التي كانت في خِضَم إعادة إعمار مُدُنِها التي تَعَرَّضت للقَصف والتدمير. وإلى اليوم، يُستخدم ما يزيد عن نصف طَنٍّ من الخرسانة للفرد الواحد في سويسرا سنوياً. وتُصنّف البلاد بانتظام من بين أكثر خمسة مُستهلكين للخرسانة في العالم.

كانت رغبة سويسرا الكبيرة في استخدام الخرسانة ولا تزال، تعود بشكل أساسي إلى تشييدها لمنشآت كبيرة ومُعَقَّدة على صعيد البُنية التحتية – مثل سد “غراند ديكسنس” (Grande Dixence) في كانتون فاليه، الذي يُعتَبَر أطول سَد واكثره جاذبية في العالم. وقد تَمَّ بناء السَد الذي يوازي بُرج إيفل في ارتفاعه بين أعوام 1951 و1961، وعَمل فيه ما يصل إلى 1500 شخص.

من بين هولاء، كان المُخرج السينمائي السويسري-الفرنسي جان لوك غودار، الذي وُظِّف هناك كمُشَغِّل هاتف عندما كان شاباً، والذي خَصَّص أول فيلم قصير له لموضع هذا السَد. ووَصف الفيلم موقع العمل بـ “الكائن المكوَّن من الحديد والصلب” الذي يقتلع أطناناً من الحَجَر من الجبل، ويضخه في “قلبه المعدني” ليَسحَقه هناك ويَخلِطه بالإسمنت.

سد في منطقة جبلية
سدّ “غراند- ديكسينس”. Jeremy Toma

استطاع غودار بَيع فيلمه لِمُشغلي السد – والذي كان فيلمٌ إعلاني جيد للخرسانة بالتأكيد. كانت الأسطورة الأساسية حينئذٍ هي أن الخرسانة ليست سوى صخرة مُتحولة. ولا تزال صناعة الخرسانة المحلية إلى اليوم تعلن عن مادة البناء هذه بوصفها مُنتَج طبيعي ومَحَلي مثلها مثل الجبن والحليب.

يُقدِّم معرضٌ يُقام حالياً في متحف العمارة السويسريرابط خارجي في بازل رسومات أصلية ونماذج وصور فوتوغرافية مأخوذة من أهم ثلاثة أرشيفات معمارية في سويسرا بغية إلقاء الضوء على الخرسانة بوصفها ظاهرة ثقافية ومعمارية. ويستمر المعرض حتى 24 أبريل 2022.

على الرغم من افتقار سويسرا إلى الثروات المعدنية، لكنها تتوفر على كميات لا حَصْر لها تقريباً من الحصى، وبخاصة الحَجَر الجيري الذي يُشكل عُنصُراً أساسياً لإنتاج الأسمنت. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قامت سويسرا بِبِناء عدد لا يُحصى من مصانع الأسمنت بالقرب من المحِاجر. وبينما كان الناس في الولايات المتحدة يكافحون ضد هيمنة صناديق الاستئمان الخاصة بالنفط والصلب، حاول الاشتراكيون في سويسرا إلغاء على “الصندوق الأستئماني للخرسانة”، الذي بدا نفوذه كبيراً جداً بالنسبة لهم. وفي أعوام التسعينيات، تم دَمج أجزاء كبير من الصندوق في مجموعة ” لافارج هولسيم”  Holcim-Lafarge المُتخصِّصة في صناعة مواد البناء، والتي تهيمن على سوق الخرسانة العالمي اليوم.

لكن الخرسانة ليست مُجرد مادة، وهي رمزٌ للتعامل مع الحَداثة أيضاً. وأصبحت عبارة “البناء الخرساني المفرط” تُستخدم  كَشِعار سياسي لِكَسب أصوات اليمين واليسار على حدٍّ سواء. وفيما يرى البعض أن المباني المُشَيَّدة باستخدام الكثير من الخرسانة تَمنح إحساساً بالأناقة، تبقى هذه المادة الإنشائية مثالاً على القُبح والبرودة بالنسبة لآخرين. إذن، حان الوقت لإلقاء نظرة على هذه المادة الأساسية لرؤى وكوابيس القرن العشرين.

الخرسانة تطفو إلى السطح

في منتصف القرن التاسع عشر، تم اكتشاف إمكانية تشكيل الخرسانة المَدعومة بالفولاذ إلى أشكال مُستقرة ومُقاوِمة لم يَكُن بالإمكان تَصَوُرها لفترة طويلة. وقد جعلت منها هذه الخاصية مادة البناء النموذجية للحداثة بعد الصُلْب العادي الذي استُخدم بكثرة في فترة ألمانيا الفيلهلمية. [بين عامي 1890 و1918].

وفي ذلك الوقت، بَشَّرَت “نشرة الاسمنت”، الصادرة عن قسم العلاقات العامة لصناعة الخرسانة السويسرية في أعوام العشرينيات بإن الخرسانة، وبصفتها مادة المستقبل، قد “تغلبت أخيراً وبشكل كامل على جمود وعَقَبات المواد الطبيعية مثل الرُخام والحَجَر الرملي والخشب”.

  • سالفاتوري أبريا / نيكولا نافوني / لوران شتالدَر (مُحررون): “الخرسانة في سويسرا. تاريخ من الماضي القريب” (Concrete in Switzerland. Histories from the recent past). 2021
  • نادين زبيرغ / توبياس شايديغَّر. رمادي. “الخرسانة كَشَفرَة” (Grau. Beton als Chiffre). على مَوقع: Wissen, 2020 (cache 01)| Gegen
  • سارة نيكولس: “رِماح بولوكس” (Pollux’s spears). في الدورية الأكاديمية Grey Room 1.2018
  • جورج شبيخَر/ هوغو مارفورت/ نيكولاس شتولّ: “لا شيء يعمل بدون الاسمنت: تاريخ صناعة الاسمنت السويسرية” (Ohne Zement geht nichts: Geschichte der schweizerischen Zementindustrie). 2013.
  • أدريان فورتي. “الخرسانة في فترة الحرب الباردة” (Concrete in the Cold War). مساهمة في كتاب “وَهم الحرب الباردة” (Das Imanginäre des Kalten Krieges.) لـ دافيد أويغستَر وسيبيلَّه مارتي. 2015.
  •  حوار مع سارة نيكولز، أمينة معرض الخرسانة “Beton”.
  •  حوار مع نادين زبيرغ، جامعة زيورخ.
  • حوار مع أيفان باناغوبولوس، مدونة “أكسبلورابيليا” (Explorabilia)

كذلك قامت مصانع الخرسانة في وقت مُبَكِّر بالتصدي للمخاوف الأولية التي كانت تَخشى من عَدَم الصمود الكافي لمَزيج الأسمنت والحَجَر والعوارض الفولاذية، من خلال العديد من العروض العامة. وحَدَثَ ذلك مثلاً في المَعرض الوطني السويسري بزيورخ في عام 1883، عندما عَرَضَت شركة “فيكير” Vigier لصناعة الاسمنت قُدرة تَحَمُّل جسرٍ لم يَتَعرَّض للإنهيار إلّا بعد دَحرَجة 38 طناً من جذوع الأشجار عليه. وقد قَدَّم المعهد الفدرالي لاختبار وبحوث المواد الذي تأسس عام 1880 في المعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ دليلاً علمياً على صمود الخرسانة، كما أثبت مراراً وتكراراً لاحِقاً قُدرة التحمُّل الفائقة لهذه المادة. ولم تُصبح الخرسانة تَجسيداً لمرونة التصميم فَحَسْب، ولكنها باتت مثالاً على الاستقرار والمرونة أيضاً.

مدخل لكهف
مدخل أحد الكهوف ضمن معروضات المعرض الوطني لعام 1883 في زيورخ: الصخور مصبوبة بالإسمنت. Eth-bibliothek Zürich / Romedo Guler

مع ذلك، لم يكن للخرسانة أي اعتبارات جمالية في ذلك الوقت، حيث ظل استخدامها ولفترة طويلة مُقتَصراً على الأماكن غير المَرئية مثل أُسُس المباني والأعمدة والدَعّامات وأنظمة الصَرف الصحي. وحيث كانت الخرسانة ظاهرة للعيان، فإنها تُخفي حقيقتها وتظل مختفية عن الأنظار، حيث تُستخدم  لإكساء الأُسُس وكتقليد للحجر الطبيعي.

في حوالي عام 1905، عَبَّر أعضاء جمعية التراث السويسري (وهي منظمة غير ربحية مُكرَّسة للنهوض بالتراث المعماري السويسري) عن امتعاضها من “الجلد الخراساني الميّت” المُستَخدَم في الجدران الاستنادية المُشيدة في مناطق جبال الألب، وأوصوا بِكَشط الخرسانة إلى الحَد الذي يُظْهِر الحجر الطبيعي الموجود في تركيبتها. وكما قالوا، يجب أن تبدو الخرسانة بالنسبة للطيور المهاجرة كالرَصيص [وهي نوع من الصخور الرسوبية والفتاتية]، أو اشبه بـ “ألبودنغ” الصخري المضغوط بشكل طبيعي.

جسور مايّار الخرسانية تثير الإعجاب

بعد الحرب العالمية الثانية، ازداد عدد الأصوات المؤيدة للصفات الجمالية للخرسانة بشكل كبير. وفي عام 1947، خَصَّص مَتحف الفن الحديث في نيويورك معرضاً استعادياً للمهندس المدني السويسري روبرت مايلارت (Robert Maillart) الذي أحدَثَ ثورة في استخدام الخرسانة المُسلحة. وكما جاء في البيان الصحفي للمتحف، فإن جسور مايلارت الخرسانية “تقفز فوق الأنهار والصدوع بأناقة كلاب الصيد. أما نَفيَ أعمال هذا العبقري إلى الوديان البعيدة فيعود إلى الغباء فقط”. وسخِر القَيِّمون على المعرض من جسر “شتوفّاخَر” Stauffacher في زيورخ، حيث تم “إذلال” النواة الخرسانية التي شيدها مايلارت من خلال إكسائها بالغرانيت والحَجر الرملي. وكما قالوا، فإن المسؤولين ضيقي الأفق، ومن خلال إخفائِهم لهذه الكتلة الخرسانية بالذات، إنما أخفوا ما يَضَع مايلارت في مصاف النحات الروماني كونستانتين برانكوشي.

جسر للربط بين هضبتيْن
أحد الجسور الخرسانية الشهيرة التي صممها روبرت ميار: جسر سالجينا- توبيل (1929/1930). Eth-bibliothek Zürich

الخُرسانة الخام وفق طراز لو كوربوزييه

في فترة ما بعد الحَرب، أصبح لو كوربوزييه النموذج المركزي للتعامل مع الخرسانة. وقد قَدَّم المهندس المعماري السويسري-الفرنسي هذه المادة بشكل إيجابي، وحاول جَذب الإنتباه إليها في شكلها الخام ودون صَقْل أو تِبييض. ويَجمَع ما يُشار إليه اليوم غالِباً بـالعمارة “الوحشية” (أو الخمومية) بين تجارب مُتنوعة ومُختلفة جداً مع الخرسانة.

لا توجد هناك علاقة بين النَمَط المعماري الذي أطلِقَت عليه تسمية “العمارة الوحشية” – والذي أُسنِدَ إلى المهندس المعماري لو كوربوزييه – بالمعنى الفعلي للكلمة، لكنه كان بالأحرى من أخلاقيات الإنتاج المعماري التي انبثقت من الحركة المعمارية الحداثية. وقد اشتُقَّت هذه التَسمية من تعبير فرنسي يعني “الخرسانة الخام” “béton brut” التي أستُخدِمَت في التعمير بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تقوم على سَكب الخرسانة الجاهزة أثناء البناء. وسُمّيت بـ “وحشية” بسبب استخدام كلمة brut الفرنسية (التي تعني الخام)، لتتحول تسمية الطريقة بالنتيجة إلى “brutalism” التي تعني “متوحش” بالإنجليزية.

وكان هذا النوع من العمارة التي ازدهرت في فترة الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، يقتضي امتلاك المباني لقيمة تمييز أيقونية، ووجوب استخدام المواد بشكلها الخام الذي تتواجد فيه في الطبيعة وبدون أي تكرير، وضرورة الكِشف عن البناء – بِمَعنى عَدَم صَقله أو تَزيينه أو إكسائه بالجُص.

لم تكن الخرسانة سوى واحدة من هذه المواد، حتى وإن كان مصطلح “الوحشية” يستخدم غالباً اليوم كمُرادف للمباني ذات المساحة الكبيرة من الخرسانة المكشوفة.

إحدى أكثر المباني المُلفِتة للنَظَر، والتي استُخدم فيها هذا التوجه المعماري هي كنيسةرابط خارجي سانت نيكولاس التي صممها النحات والمهندس المعماري فالتر ماريا فورديرر في بلدية  “هيريمينس” (Hérémence) في كانتون فاليه عام 1967. وكما هو الحال مع العديد من الكنائس التي أنشأت حينذاك وفق هذا النَمَط، يدعو المبنى من خلال اللعب بالنوافذ والشُرفات إلى ثورة جَذرية. وفي تصميمه للكنسية التي تقع على بُعد بضعة كيلومترات من سد “غراند دكسين” اعتمد فورديرَر على صورة صخرة سقطت في الوادي. هنا تتحول الخرسانة إلى القشرة الثانية للأرض، أو إلى طبيعة جديدة، يُنْظَر فيها للعمارة بوصفها جزء من المناظر الطبيعية التي يختفي فيها الخط الفاصِل بين ماهو طبيعي وماهو اصطناعي.

من جهته، تعامل”ستوديو 5رابط خارجي” (Atelier 5) وهو مجتمع معماري سويسري تأسس في برن عام 1955 من قبل خمس مهندسين معماريين رياديين في الاسلوب المعماري لذلك الوقت، مع الخرسانة بشكل أكثر لُطفاً. ومع الاستخدام الواسع النطاق للخرسانة في مبانيهم، شَعر هؤلاء بوجوب التزامهم بأخلاقيات بِناء تُناسب الخرسانة مع كل عيوبها السطحية. وكما قال المهندس المعماري جاك بلومَر – أحد مؤسسي ستوديو 5 – ذات مرة فإن الخرسانة مادة “تستوعب البساطة في التعبير والبساطة في التفاصيل على حدٍ سواء”.

كانت عَقيدة البَساطة هي البرنامج هنا؛حيث تم تنظيم “ستوديو 5” بشكل جَماعي يَتَجاوز عبادة الأسياد والنجوم. كان الهَدف هو بِناء مَساكن للطبقة العاملة. ورُغم أن الشقق المُشيدة كانت تؤول للطبقة المُتوسطة المُتعلمة في الغالب، إلّا أنَّ مجموعة المعماريين نجَحت أيضاً في بناء العديد من المُستوطنات ذات الكثافة السكانية العالية الصالحة للعيش، التي كانت أكثر تَوَجُهاً نحو مُدن العصور الوسطى منها إلى الحداثة الفَخمة.

لكن مخططات هؤلاء المعماريين على الحقول الخضراء ما كان ليُمكن تَصَوّرها لولا المناظر الطبيعية  المُحيطة التي تشكلت تماماً من الخرسانة: فعلى سبيل المثال، كانت مستوطنة “هالين” (Halen) تتوفر على موقف سيارات ضخم تحت الأرض، ولم يكن الاتصال بالمدينة مُمكناً إلا من خلال السيارة.

مخرج يؤدي إلى فضاء استراحة بجانب طريق سيارة
منفذ لفضاء استراحة بجانب الطريق السريعة A12، فلورا روشا- رونكاتي وريناتو سالفي، 1988 Jennifer Goff

أعقَبَ مشاريع البُنية التحتية للطاقة في الستينيات توسِعة شبكة الطُرُق السريعة، التي استهلكت كميات هائلة من الخرسانة. وربما كان هذا هو المجال الأكثر مَدعاة للفخر لعمارة الخرسانة السويسرية نظراً إلى التقدُّم الذي أحرَزَته، كما في تصميم المهندس المعماري رينو تامي (Rino Tami) لمداخل نَفق غوتهارد في ستينيات القرن الماضي على سبيل المثال.

الخرسانة كعدو لحركة “تراجع النمو”

لم يكن للخرسانة مكان سياسي محدد بوضوح في فجر ما سُمّي بـ “عمارة الحداثة”. حتى أنَّ جناح الجيش في المعرض الوطني السويسري في عام 1964 لم يُذَكِرُنا إلّا بالحَجم المُثير للإعجاب للمباني المشيدة وفق طراز “العمارة الوحشية”. وقد قَدَّمَت سويسرا نفسها حينذاك بوصفها القُنفد المُحَصَّن جيداً، من خلال 141 شوكة خرسانية، تَزِن كل واحدة منها 3,5 طن. مع ذلك، تم الجَمع هنا بين التَعبير عن التجارب المعمارية والموقف المحافظ بشكل أساسي.

يقول الاستاذ الفخري في تاريخ العمارة أدريان فورتي (Adrien Forty) إن الخرسانة لم تمنحنا الوَعد بمستقبل أفضل فَحَسب، ولكن الخوف من الدمار الشامل أيضاً؛ حيث يُمكن رَبط الخرسانة الخام بالعمارة التَقَدُّمية، مثلما يمكن ربطها بالجُدران الخرسانية العارية للمخابئ التي بُنِيَت تحت الأرض في جميع أنحاء البلاد خلال الحرب الباردة لحماية السويسريين من القنابل النووية الروسية.

مبنى على شكل قنفد
منظر لجناح الجيش على شكل قنفد خلال المعرض الوطني في لوزان سنة 1964، وضع تصميمه المهندس المعماري يان بوث في زيورخ. Keystone / Jakob Braem

على الرغم من إعادة التَسَلٌّح والتنافس بين الأنظمة، تم استخدام الخرسانة بشكل جماعي في الشرق والغرب على حدٍ سواء لِمُواجهة النَقص في المساكن في فترة ما بعد الحرب بأسرع وقت ممكن. ولم تكن “المباني الرمادية الجاهزة” في الشرق التي كانت تُقابل بالإزدراء في الغرب، لتختلف كثيراً عن تلك الموجودة في الغرب – بل أن بناءها كان مُتشابهاً للغاية؛ حيث كانت العناصر الجاهزة تُنتَج بكميات كبيرة لِيَتم تجميعها لاحقاً في مباني سكنية غير مُكلِفة، أو مُربِحة على الأقل للمُستثمرين. هذه الأوضاع، أعطَت استهلاك الخرسانة في سويسرا دُفعة ثالثة كبيرة؛ حيث ارتفعت مثل هذه المستوطنات من الأرض في فترة ما بعد الحرب في الهضبة الوسطى في سويسرا. وكانت عمليات البناء هذه تتم بسرعة، وبِسعرٍ زَهيدٍ احياناً، ومع مُراعاة العائد الاستثماري على حساب الجمالية في أحيان أخرى.

في بداية السبعينيات، انهار الازدهار الاقتصادي والحَماس للتقدم. وأظهرت أزمة النفط في عام 1973 بوضوح حدود النمو الذي تَنَبأت بها ” منظمة نادي روما” [وهي مركز أبحاث غير حكومي وغير ربحيرابط خارجي في زيورخ يضم اقتصاديين وعلماء وسياسيين من دول مختلفة]، حيث سار الكساد الاقتصادي والثقافي جنباً إلى جنب.

في ذلك الوقت، وُصِف البناء السَريع بـ “التلوث البيئي” – عنوان كتاب أيضا للمهندس المعماري رولف كيلر – والسَكَن في مُجَمَّعات سَكنية كبيرة كَحالةٍ مُنهِكة وغير مقبولة. ووفقاً لعضوٍ بارزٍ في رابطة المهندسين المعماريين السويسريين، أصبحت العمارة الجميلة نادرة جداً لدرجة أنه يتعين على المرء أن يبحث عنها مثل “الزبيب في عجينة تنتفخ، في قشرة خرسانية تنتشر فوق الأرض”. وحيث كانت الخرسانة ستصبح مثالاً لفكرة مُضَلِّلة عن التقدم، بدأت صناعة الخرسانة في عام 1977 بتتويج أجمل المباني في سويسرا في محاولة لموازنة الصحافة السيئة.

في سبعينيات القرن الماضي، ظهر موضوع “البناء الخرساني المفُرط” الذي يُغطي المناظر الطبيعية في برامج حزبية مُختلفة أيضاً. وقد حَدَث ذلك في وقت مبكر عند حزب العمل الوطني [الذي تأسس في عام 1961، كحركة يمينية مُتطرفة مُعادية للأجانب تسعى إلى أجندة مناهضة للهجرة، والذي تحول إلى حزب الشعب لاحقاً]، الذي لم يُبَرِّر مُبادراته ضد “الغزو الأجنبي لسويسرا” بشعارات عنصرية فقط، ولكن بِحِماية البيئة أيضاً. فالهجرة تؤدي إلى المزيد من الناس، وهؤلاء يؤدون إلى المزيد من الزَحف العمراني، وإلى الاستخدام المُتنامي للخرسانة بالنتيجة. وفي عام 2020، قام حزب الشعب (اليميني المحافظ) مرة أخرى بحملة ضد “البناء الخرساني المفُرط” في سويسرا. لكنه فعل ذلك للأسف من خلال صورة لنصب تذكاري لضحايا المَحرقة في برلين، صُمِّم من قبل المهندس المعماري الأمريكي بيتر أيزنمان.

.

في نهاية السبعينيات، تَبَنّى الحزب الإشتراكي هذا الشعار أيضاً. وبالنسبة له، كانت الخرسانة تمثل مَنطق النمو المُوَجّه للرِبح والمُضاربة العقارية. وعندما تَمَرَّدت حركة الشباب في المُدن السويسرية في بداية الثمانينيات، كانت تنادي بالإبادة النهائية للخرسانة. وكما جاء في المشورات الغاضبة للحركة: “من المؤسف أن الخرسانة لا تحترق!”

الانقسامات العَميقة في تَصَوّر الجمهور للخرسانة لا تزال قائِمة إلى اليوم. ولو سِمِحت الصُحُف الشعبية لِقُرائها بالتصويت على المبنى الأبشع في سويسرا، فمِن المؤكد أن الجائزة ستكون من نصيب مبنى يكشف عن الكثير من الخرسانة بشكلها الطبيعي.

برج خرساني
بعد عملية تصويت، اختير هذا المبنى في عام 2018 كـ “أبشع منزل في سويسرا”! في الصورة: مقر العاملين في مستشفى تريملي في زيورخ من قبل إستر ورودولف جوير. Volker Schopp

في المقابل، يمكنك أن تكون واثقاً في الوقت نفسه من أن الجوائز المَمنوحة من الدوائر المعمارية ستكون من نَصيب المنازل التي تلتزم النَهج المفتوح في التعامل مع الخرسانة. واليوم، يمكن العثور على العديد من المنازل – ولا سيما في المناطق السكنية الأكثر جاذبية – التي صُبَّت فيها الخرسانة بعناية كبيرة وتُرِكَت كما هي دون أي عمليات إكساء. وبرغم فُقدان الخرسانة للكثير من هالة البساطة، لكن المهندسين المعماريين ما زالوا يقدرون الخرسانة بوصفها مادة “أصيلة”.

مشهد خارجي لمنزل مشيّد من الخرسانة
بفضل “مواد البناء الحضري” “Der Stadtbaustein”، فاز المهندسان المعماريان أندرياس فوهرمان وغابرييل هاشلر من زيورخ بالجائزة الأولى التي تمنحها دار النشر الألمانية “كولواي” Callway. Callwey, Häuser des Jahres 2021

لفترة طويلة، لم يَعُد النقاش حول الخرسانة يدور حول الجماليات، ولكن حول التأثير البيئي لاستخدامها، حيث تُعَد صناعة الأسمنت واحدة من أكبر المُسببات لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية. وتستهلك صناعة الاسمنت كميات كبيرة جداً من الطاقة، كما تولد انبعاثات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.

ومن هذا المنظور أيضاً، تُعتبر الخرسانة مادة كلاسيكية من القرن الماضي.

المزيد
مبنى خرساني

المزيد

مُحاولات سويسرية لابتكار الاسمنت الصديق للبيئة

تم نشر هذا المحتوى على يُمكن لبعض الحلول التي تقوم بتطويرها سويسرا – بوصفها من بين البلدان ذات أعلى استهلاك للإسمنت – أن تقود إلى جعل قطاع البناء أقل تلويثا وأكثر مُراعاة للبيئة.

طالع المزيدمُحاولات سويسرية لابتكار الاسمنت الصديق للبيئة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية