مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

قطعة من الأرض في… “جنّـات عَـدن”!

الهروب من الشُّـقق السكنية الضيِّـقة إلى "جنة عَـدن" لنِـسيان الحياة اليومية. outnow.ch

في شريطه الجديد الذي أسماه "حديقتنا في جنّـة عدن"، يقود المُـخرج مانو خليل، المُتفرج إلى عالم صغير مُتعدِّد الأحلام والثقافات في سويسرا، وهو يحكي قصّـة أشخاص يُـحاولون "خلْـق" عالَـمهم المُصَغّـر الخاص، الذي يُذكِّـرهم بأوطانِـهم التي اقتُـلِعَت جُـذورهم منها، على قِـطعة أرضٍ يقومون بزِراعَـتها غرب العاصمة السويسرية برن.

وتُسمّـى الحدائق الصغيرة، التي تُـوزَّع على أفرادٍ يقومون بزِرَاعَـتها والاستفادة من مَـحصولها، مقابل أجرٍ زهيد، “حدائق شريبر”، نِـسبة إلى الطبيب الألماني دانيال موريتس شريبر (1808 – 1861)، وهي واحات صغيرة يلجَـأ إليها سَـكَنة المُدن للاسترخاء وللقيام بأنشطة زِراعية في الهواء الطّـلق في أوقات الراحة والفراغ.

وقد تكون هذه الحدائق الصغيرة ملاصِـقة لسكن الشّـخص “المؤجِّـر” أو قد تبعُـد عن مسكنِـه نوعاً ما. وتقوم العائلة أو الشّـخص المسؤول عن الحديقة بزراعة الفواكه والخُـضروات، ممّـا لا يمنع وجود الأزهار والمروج الخضراء أيضاً. وكثيراً ما تحتوي الحديقة على كُـوخ أو سَـقيفة، تُـستَـخدم لِـوضْـع الآلات الزِّراعِـية أو للإستظلال بها، غير أن المَبيت فيها ممْـنوع.

وتقوم جمعيات من صِـغار المُـزارعين وجمعيات الحدائق الصغيرة بإدارة هذه الأراضي وتأجيرها إلى الأعضاء، مُـقابل أجورٍ بسيط، كما يقوم الإستشاريون في هذه الجمعيات، بمساعدة مؤجِّـري هذه الأراضي في مجال الزِّراعة العُـضوية واختيار أنواع النّـباتات الأكثر مُـقاوَمة.

مرحباً بكم في حدائق “بوتيغنموس” العائلية!

وفي هذه الحدائق، الواقعة في منطقة “بوتيغنموس”، غرب العاصمة برن، تتكاثر حُـبوب الفاصولياء بالإضافة إلى الطماطم وأنواع السَّـلَـطة والسَّـلْـق والجزر وعَـبَّـاد الشمس والكرز والورود البريَّـة وغيرها.

وخلف هذا المنتوج الوَفير من المحاصيل الزِّراعية وحبَّـات عَـرَق العاملين والدَّردشة تحت ظِـل السَّـقائف، اكتشف المُخرِج مانو خليل “جنّـة عَـدن” صغيرة، تدعوه إلى الحديث عن أشخاص من مُختلف أنحاء العالم. أشخاص كالأشجار والزهور التي تنمُـو في “حدائق شريبر” وتنمو معها حِـكاياتهم وأشعارهم وأغانيهم السَّـعيدة تارة، والحزينة تارة أخرى، والمليئة بالشّـوق إلى الوطن دائِماً.

وعلى مدى عاميْـن، رافق خليل هؤلاء الأشخاص بكَـاميرتِـه واستطاع الفوْز بثِـقتِـهم والتعرّف على قِـصصهم، التي أنتجَـت نسيجاً رائعاً من التّـجارب البشرية والقابلية على الحياة في جَـوٍّ من التّـعايُـش والتّـسامح والتّـفاهم المُتبادَل.

وهنا، يتبادَلُ الرِّجال الأنخاب ويحْـتَـسون البيرة (الجعّـة) أو شراب البراندي، المصْـنوع من البرقوق، في حين تقُـوم امرأة تضَـع الحِـجاب بتقليب الأرض بمجرفة في جِـهة أخرى. وبينما تصنع إمرأة ثانية الخُـبز التُّـركي في فُـرن حجَـري، يقوم رجُـل أسْـود بِـجنْـيِ مَـحصول الفاصوليا. وتتغلّـب ألحان الموسيقى البلقانية الصّـادرة من آلة الأكورديون والتي يُـرافقها الغِـناء وضحكات الحُـضور، على الطّـشيش الصادر عن عملية شِـواء قطع اللحم أو النقانق.

ويقول شخص كرُواتي يضَـع نظّـارات شمسية، وهو مُـمدّد باسترخاء على أريكة شاطئ تحت مِـظلّـة شمسية: “أفضَـلُ حياة في سويسرا، هي هنا في حديقة منزِلي!”، حيث يستطيع، حسب قوله، أن ينْـسى هُـموم العمل وأن يجلِـس ليحتفِـل جنْـباً إلى جنْـب مع أصحابه.

أكثر من 20 دولة في حديقة واحدة

وفي “بوتيغنموس”، تعيشُ مجْـموعة من الأشخاص الذين ينتمُون إلى أكثر من 20 دولة مختلفة، جنباً إلى جنبٍ في مكانٍ ضيِّـق. ومِـن مجمُـوع 148 قِـطعة أرض وُزِّعَـت على العوائل، كانت هناك 89 قِـطعة سُـلِّمَت إلى أجانب. وتُدير كلّ عائلة قِـطعة من الأرض، تبلُـغ مساحتها حوالي 150 مترا مربعا.

وباستخدام الألْـواح الخشبية والصفيح المُموَّج، قام كلّ مؤجِّـر أرض بِـبناء سقيفة في حديقته، لتكون مَـلاذَه الصغير وعالمه الخاصّ، الذي يهْـرب إليه من شقّـته الضيِّـقة في العِـمارات السكنية العالية.

كما رفْـع كلّ واحدٍ منهم عَـلَـم بلده على “أرضه”، حيْث يُـمكن لزائر الحديقة رُؤية الأعْـلام الصِّـربية والبُـوسنية والتُّـركية والكُـردية والبرتغالية والإيطالية، وهي تُـرفْـرِف جَـنباً إلى جنْـب مِـن مجموع الأعْـلام العِـشرين، التي تُـرفرف فوق “حدائِـق شريبر”.

هذا التعاون والتعايش السِّـلمي بين هؤلاء الأشخاص الذين ينتَـمون إلى جِـنسيات وأعراق وثقافات مُختلفة، هي التي فَـتَنَت المُـخرج الكُـردي مانو خليل – الذي اضطُـرّ للهَـرب من سوريا إلى سويسرا في عام 1993 – والذي يملِـك هو أيضاً “جنّـته الخاصة” في حدائق شريبر و دفعته لإخراج فيلم حوْل هذا الموضوع.

ويُعلِّـق المُـخرج خليل قائِلاً: “لو كان هؤلاء في بلادِهم، لَـما ألقَـوا التحية على بعضهم البعض، أمّا هُـنا، فيقوم الصِّـرب مع البوسنيين، والأكراد مع الأتراك بالشّـواء وشُـرب البيرة سَـويّـة. وبالنسبة لي، فهذا يُـمثِّـل تطبيقا للحياة الديمقراطية السويسرية”.

منْـح صوْت للأجانب

ويُـعطي مانو خليل في فيلمه الوثائقي “حديقتنا في جنّـة عَـدن.. حكايات من حديقة شريبر”، صوتاً مسموعاً لجِـيرانه الذين اضطرّوا لتَـرك أوطانهم وبدْء حياتهم مجددا من نُـقطة الصِّـفر في سويسرا.

ومن بين هؤلاء، نجِـد محمد بَـركَـة، ذو الأصل الجزائري، الذي نشأ في فرنسا والذي كان أحد أوائل الأشْـخاص من ذَوي البَـشرة السّـوداء، الذين جاؤوا إلى العاصمة السويسرية، وهو متزوِّج منذ 46 عاما من امرأة سويسرية من كانتون برن تُـدعى مارغَـريت، له منها إبن وثلاث بنات وأربعة أحفاد.

وتقول مارغريت ضاحِـكة، بأنها لم تَـر بشْـرة محمد السَّـوداء حين تعرّفَت عليه، بل إنها كانت مبْـهورة به بكلّ بساطة. وتضيف: “أنا بروتستانتية وزوجي مُـسلِـم، ولم تكُـن هذه مُـشكلة أبداً”. ولا يتحدّث الزوجان بِمَـرارة عن التصريحات التميِـيزية أو العَـدائية، التي كان عليهم سماعُـها، بل يُـواجِـهانها برُوحٍ مَرِحة. وبالنسبة لهما، فإن حياتهما الزّوجية هي ببَـساطة أكثر شيء طبيعي في هذا العالم.

وهناك دومينيكو، الذي جاء قبْـل نحو 45 عاماً من “كالابريا” في أقصى جنوب شِـبه الجزيرة الإيطالية، كعامل مَـوسِـمي، والذي كان يحلُـم بأن يكون صيَّـاداً، فتَـقاذفته الأمْـواج إلى سويسرا. ولم يتعلّـم دومنيكو الألمانية أبداً، لاعتقاده الدّائم بعوْدته الوشيكة إلى إيطاليا.

واليوم، يقف دومينيكو، الذي عمِـل في بناء مئات الكيلومترات من الطُّـرق والأنفاق، وهو أكثر فقْـراً ممّـا كان عليه عند وصوله إلى سويسرا، حسب قوله. وقد بات الأمر واضِـحاً بالنسبة له، حيث يقول: “لو عاد بِـي العُـمر ثانية إلى سِـنّ العشرين، لاخترت البَـقاء في إيطاليا، حتى لو لم يكُـن عندي سِـوى قطعة خُـبزٍ واحدة”.

أحلام ضائِعة

ويقول المُـخرج خليل: “هذه هي مأْسَـاة الأجانب الذين يعتقِـدون أنهم سيعُـودون إلى أوطانهم، كما يعود طائِـر السَّـنَوْنَـو إلى عِـشِّـه”، ويضيف: “إنهم أشخاص لا يملِـكون النيّـة في البقاء هنا وحقائِبهم جاهِـزة دائِماً إلى جانب أسِـرَّتهم لسنوات”. ويرى خليل في الأعلام العديدة التي رفَـعها كلٌّ في حديقته الصغيرة، رمْـزاً “لأحلام ضائِعة”.

ومن وجهة نظر خليل، فإن هذا جزءٌ من كذبة يكذبها هؤلاء على أنفُـسهم بتصوُّرهم – في مُـحاولة للاحتفاظ بالوَهْـم – بأن الأرض التي تركُـوها، لا تزال كما هي. ويقول: “لكنهم ينْـسون بأن كلاّ منهم ومن أوطانِـهم قد تغيّـر مُـنذ مُـغادرتهم إيّـاها.

“الرئيس” القَـوي

وبالنسبة لمانو خليل، فإن هذه الحديقة هي صورة مُصغَّـرة من سويسرا تُطَبَّـق فيها نفس القَـوانين الصّـارمة. ويُشرف “الرئيس” جيوزيبِّـي، الذي لا يَظهَـر إلا وهو يرتَـدي حُلّـته الكامِـلة مع ربطة العُـنق، على إمتثال مؤجِّـري الحدائق للقانون واحترامهم للعديد من لَـوحات الحَظْـر.

ويُدير الحلاّق، القادِم من إيطاليا “صَـوْلَـجَـانه” في بوتيغنموس، كما لو كان “رئيس” بلَـدٍ بأكمله، والويْـل لِـمَـن يجْـرُؤ على العمل يوم الأحد أو لمَـن يرفعِ سقِـيفته أو كومة حطَـبه بِـبضعة سنتمترات أو لِـمَـن يقوم بتَـقديم المَطالِـب.

ولا تحضى “طريقة قِـيادة” جيوزيبّـي بالمُـوافقة دائماً، بل عليه أن يَسمَـع كلمات تُشَبِّـهه ببِـرلوسكوني أو موسّـوليني مِـن أحد مؤجِّـري الحدائق في اجتماع الجَـمعية العامة. وعلى هذه الملاحظات، يُعَلّق “رئيس” حدائق شريبر قائلاً: “الرئيس بوش يملِـك المَـدافِـع، أمّا أنا فلا أملك سوى أعصابِـي، ويجِـب عليّ أن أتأكّـد من عدَم فِـقداني لها”.

لحم الضّـان والخِـنزير

ولكي يكون الوضْـع لائقاً وكما يجب في حديقةٍ مثل “جنّـة عَـدن”، تُحَلّ المشاكل هنا كلَّـما كان ذلك مُمْـكناً. ويقول مانو خليل: “الشيء الأهَـم، هو وُجود لُـغة حِـوار مُـشتركة. فقط عندما نتكلّـم معاً، نجِـد حلاًّ للمشاكِـل”.

وكمِـثال على هذه الحلول، يُبـرِز المُـخرج خليل في فِيلمه، مشكِـلة بناء شَوّاية كبيرة لشِـواء لحم الخنزير والمسمّـاة “Säulitempel”، التي طالَـب كلّ من الصِّـرب والكروات وكذلك السويسريين بإنشائها، بسبب شَـكْـواهم من “مُـمارسات شواءٍ غير صحية”، و بعد عامٍ من المراسلات مع مفتِّـشي البناء حول القواعِـد والأنظِـمة المُتعلِّـقة، تمّ بناؤها أخيراً.

غير أنّ ذلك لمْ يَرُقْ لبقِـية مؤجِّـري الحدائق من المُـسلمين، بسبب رفْـضهم لشواء لحْـم الغَـنَـم على نفْـس السِّـيخ المُستعمَـل لشِـواء لحْـم الخنزير. وبعد نِـقاش غير تقليدي، عادت المناقشات التي دارَت في مسألة حظْـر بناء المآذن إلى الأذهان، أُعيد بناء الشوّاية بطريقة تُرْضي الطَـرفيْـن.

وفي حفلة كبيرة أقيمت في “حديقة شريبَر” في نهاية الفيلم، نرى لحْـم الخنزير ولحم الخروف يَـدُوران على شِـيشيْـن مُختلفيْـن للشّـواء في شَوّاية واحدة وفوق نفس النار.

كورين بوخسر – swissinfo.ch

هو مُـخرج كُـردي، ولِـد في سوريا عام 1964.

في الأعوام من 1981 وإلى 1986، دَرَس خليل التاريخ والقانون في جامعة دِمشق.

وفي الأعوام من 1987 إلى 1994، دَرَس في صفٍّ مُتخَصِّـص في الإخراج السينمائي في أكاديمية السينما والتلفزيون في تشيكوسلوفاكيا السابقة.

من عام 1990 إلى عام 1995، عمِـل كمُـخرجٍ في التلفزيون التشيكوسلوفاكي، وفي وقت لاحق في التلفزيون السلوفاكي.

من عام 1990 وإلى عام 1995، قام بتمثيل أدْوار ثانوية في العديد من الأفلام الرِّوائية المُـختلفة في تشيكوسلوفاكيا السابقة.

منذ عام 1995، يعمَـل خليل كمُـخرج ومُـنتج ومصوِّر في سويسرا.

2009: حديقتنا في جنّـة عدن.
2006: ديفيد Tolhildan.
2005: الأنفال – “باسم الله، والبعث وصدّام”.
1998: انتصارٌ مِـن حديد.

أفلام قصيرة :

2003: أحلام مُـلوَّنة
1995: عين السينما Kinoeye
1993: المكان الذي ينام فيه الله
1992: يا إلهي
1991: يا أبي
1990: السفارة
1989: ألمي وأملي
1988: أيها العالَـم

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية