مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

فلسفة لوكوربوزيي وفنّه المعماري تأثرا بالعالم العربي

باستثناء الخبراء والمتخصصين، لا يذكر كثيرون أن ملعب العاصمة العراقية بغداد (الصورة) صمّمه وأشرف على تشييده المهندس المعماري السويسري الشهير لوكوربوزيي في عام 1956. fondationlecorbusier.fr

زار لوكوربوزيي، الفنان والمهندس المعماري، السويسري الأصل والفرنسي الجنسية، عددا من بلدان المشرق والمغرب العربي، وتأثر بالفن المعماري الإسلامي هناك، وهو ما انعكس في بعض أعماله المنجزة في أوروبا.

إضافة إلى ذلك، ترك السويسري الشهير نموذجين من معالمه المعمارية شاهدين على هذا الإرتباط بالعالم العربي في كل من بغداد وقرطاج، كما خلف العديد من المخطوطات عن الجزائر العاصمة.

لم يكن الفنان والفيلسوف والمهندس المعماري شارل إدوارد جانري الملقب بـ “لوكوربوزيي” صاحب شهرة عالمية طبقت الآفاق فحسب، بل كانت له علاقة متميزة أيضا مع شرق العالم العربي وغربه، مثلما يُـوضـح السيد ريمي بودوي، الأستاذ في جامعة جنيف والخبير لدى مؤسسة لوكوربوزيي والمتخصّص في علاقات المُبدع السويسري مع العالم العربي في هذا الحديث الخاص مع swissinfo.ch.

swissinfo.ch: كيف نشأت هذه العلاقة بين لوكوربوزيي والعالم العربي، وما هي المراحل الهامة في تردده على المنطقة؟

ريمي بودوي: من أجل فهم هذه العلاقة مع العالم العربي، يجب الرجوع إلى الرحلة التي قام بها الى منطقة المشرق خلال عامي 1910 و 1911. وهذه الرحلة تدخل في إطار ما كان يطلق عليه آنذاك “رحلة إلى مشرق رومانسي وراقي”، والتي شرع كبار المفكرين في القيام بها للمنطقة منذ عام 1840 من أمثال أرتور رامبو وغوغان والتي كانت تجمع ما بين الرغبة في معرفة ما هو غريب والمغامرة.

والأكيد أن لوكوربيزي قد اطلع على كتابات تيوفيل غوتيي، وبيار لوتي، وكلود فارير، التي كانت تبرز المعالم المشوقة لمشرق غني بالإكتشافات وبالأخص في معالمه الفكرية والمعمارية. فقد توجه في عام 1911 الى ألمانيا للتكوين، قبل الذهاب إلى تركيا. وقد زار كل المعالم الأثرية الهامة وبالأخص المساجد المهمة التي اكتشف فيها بالإضافة الى البعد الديني، جودة الفن المعماري وكيفية استغلال المجال الأمر الذي يعزز الجانب القدسي.

وقد سمحت هذه الرحلة له باكتشاف حقيقة البعد الديني حتى ولو أنه لم تكن له أية علاقة بالدين الإسلامي، بحيث استطاع معرفة العلاقة بين البعد الروحي وخصوصيات الفن المعماري. ومن خلال هذه الرحلة تبلورت أهم معالم فكر لوكوربوزيي خصوصا فيما أطلق عليه “عظمة الطلاء الأبيض” التي تظهر عظمة مكان متواضع، مبني من تجميع مواد خام، وبدون زخارف. وهذا ما تحول الى عنصر أساسي في أساليبه المعمارية ابتداء من عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.

وماذا عن علاقته بدول شمال افريقيا؟  

ريمي بودوي: إتصالاته بشمال افريقيا تمت في وقت متأخر، حيث وجدنا بعض المؤشرات عن كونه كان يرغب ابتداء من عام 1912 في التوجه الى مصر. لكن اتصالاته بشمال إفريقيا بدأت في عام 1930 عندما اتصل به أعضاء جمعية “أصدقاء الجزائر العاصمة ” واقترحوا عليه القيام برحلة إلى الجزائر. ولما وصل إلى الجزائر شعر بإعجاب بهذه المدينة التي قال عنها إنها تمثل إمكانيات معمارية هائلة، حيث لا زالت بها بعض المعالم المعمارية القديمة الهامة رغم الإندثار الجزئي لجانب من حيّ القصبة القديم على أيدي الفرنسيين.

ماذا بقي من هذا الإعجاب الذي أبداه لوكوربوزيي بمدينة الجزائر العاصمة؟

ريمي بودوي: لم يبق الكثير باستثناء بعض الرسومات التي تركها عن حي القصبة لما زارها والتي كانت قد تأثرت كثيرا بسبب الإحتلال الفرنسي. و كان يأمل في تقديم نموذج عصري لمدينة الجزائر بنفس الطريقة التي كان يتصورها للمدن الفرنسية. لذلك اتخذت تصوراته في الجزائر نماذج وتصاميم معمارية لتحديث ميناء الجزائر، ولتطوير النمط السكني بإقامة عمارات سكنية جماعية متكاملة. لكن هذه المشاريع لم يُكتب لها الإنجاز في يوم من الأيام، مما أدى به إلى التخلي نهائيا عن أي أمل في إقامة أي مشروع معماري في الجزائر، رغم تردده المتواصل عليها ما بين عامي 1930 و 1952. لذلك لم يبق له أي أثر في مدينة الجزائر باستثناء الآثار الفكرية، وبالأخص من خلال جون دو ميزنسول الذي كان أحد المقربين من الكاتب البير كامو، ومدير متحف الفنون الجميلة في الجزائر.

هل لديكم معرفة بالأسباب التي حالت دون أن تبصر هذه المشاريع النور؟

ريمي بودوي: مشاريع لوكوربوزيي في الجزائر لم يُكتب لها التجسيم لأنها كانت تسير في عكس اتجاه المخططات الكبرى التي كانت تحددها الإدارة الفرنسية لمدينة الجزائر الكبرى في الفترة الفاصلة ما بين عامي 1930 و 1950. فقد تم إبعاد مشاريعه لأنها كانت تبدو متقدمة جدا على عصرها. وهذه من صفات لوكوربوزيي حيث أنه كلما تدخل في نقاش قُـوبل بالرفض. وهذه المسألة ليست حصرا على الجزائر، بل حدثت في مناطق أخرى من العالم.

ألم يفكر أحد في استئناف أعماله ويُحاول تطبيقها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟

ريمي بودوي: هناك مجموعة من المعماريين الشباب الذين تكونوا على يده (من أمثال بيار إيمري) سهروا لاحقا على بناء العمارات السكنية في الجزائر، وهي عمارات تدخل كلية في إطار الخط المعماري الذي طوّره لوكوربوزيي.

لدى قيامه بزيارة مدينة غرداية وضواحيها، أبدى لوكوربوزيي إعجابه بالفن المعماري فيها. فهل تأثر بخصوصيات المعمار الذي تتميز به قبائل هذه المنطقة؟

ريمي بودوي: ما تبقى من هذه الزيارة هو أيضا فكري حيث أنه تأثر بالفن المعماري لمنطقة المزاب الذي حافظ على معالمه الثقافية وعلى العادات والتقاليد الإجتماعية العريقة وهو ما كان يؤثر في التصور المعماري لأماكن السكن. وهذا ما وجد بحاثة مختلفون أن لوكوربوزيي تأثر بذلك وحاول عكسه في طريقة تصوره المعماري. ومن المحتمل أن التأثر الكبير حصُل لدى زيارته لمسجد سيدي ابراهيم في العاطف، والذي أصبح يُطلق عليه اسم “مسجد  كوربي”. فهذا المسجد بحكم المنعطفات التي يحتوي عليها في تصميمه، وبحكم استخدام طلاء الجير الأبيض، والمنافذ الضوئية، قد أثر في لوكوربوزيي حيث سنجد ذلك منعكسا في إحدى إنجازاته الهامة وهي كاتدرائية رونشون التي جمع فيها بين فنيات البناء لمنطقة المزاب المفعمة بالجانب الديني والروحي، وبين الفن المعماري المعاصر الذي يتميز به لوكوربوزيي.

كما نجد أن تأثيرات الفن المعماري لمنطقة المزاب على لوكوربيزي، انعكست في تصميمه لمبنى دير لاكوريت في فرنسا، والسُّلّم الحلزوني الشكل المأخوذ من منطقة المزاب، أما أهم خاصية استفاد منها فهي المنافذ الضوئية التي نجدها في كل أعماله المتعلقة بتشييد أبنية دينية كاثوليكية.  

إذا كانت مشاريع الجزائر لم تر النور، يبدو أن لوكوربوزيي تمكن من إنجاز مشروعين في العالم العربي في كل من تونس والعراق..

ريمي بودوي: بالفعل من أعماله فيلا قرطاج ذات المعالم العصرية والتي اشتملت على كل العناصر التي تميز بها الفن المعماري للوكوربوزيي في عشرينيات القرن الماضي، مثل النوافذ الممتدة والسقف المسطح. ويمكن القول أن “فيلا بيزو” في قرطاج هي بمثابة النموذج الذي يُجسّد بحق بداية تطبيق الفن المعماري المعاصر في تونس.

أما المشروع الثاني الذي تم إنجازه في العالم العربي من أعمال لوكوربيزيي، فأنتم محقون في التذكير به لأنه كثيرا ما يتم تناسيه وهو مشروع ملعب كرة القدم في مدينة بغداد، الذي اندرج في إطار مشاريع تحديث العاصمة العراقية ما بين عامي 1950 و 1960، وقد شارك فيها عدد من المعماريين المشهورين من أمثال غروبيس.

فقد تم تكليف لوكوربيزي ببناء الملعب والثانوية. وتكتسي بناية الثانوية أهمية خاصة نظرا لأنها جمعت كل مقومات الفن المعماري الخاص بلوكوربيزي والتي لم يتسنّ له تطبيقها في أماكن أخرى، كما أن بناء الملعب جاء بعد فشل تحقيق بناء ملعب في باريس.

في المناطق العربية التي مرّ بها لوكوربوزيي، هل لا زال من يُحاول الإبقاء على إرثه حيا من خلال مواصلة تدريس أعماله وأسلوبه؟

ريمي بودوي: هناك تقليد في الجزائر في مدرسة الفن المعماري بالجزائر العاصمة التي تمسكت بطريقة تفكير نشطة لتصور الحداثة والعصرنة والتي تنطلق من مبدإ أن كل ما هو معاصر ليس بالضرورة غربي بل هو عصارة لقاء بين ثقافات مختلفة، كما يمكن أن تكون هناك حداثة عربية. لذلك، يمكن القول أن مختلف الرسائل التي روج لها لوكوربوزيي مازالت تُدرّس بشكل مستمر. أما بخصوص العراق، فمن الواضح أن الظروف التي شهدها جعلته يمر بمرحلة كارثة ثقافية، وبالإمكان القول أن تأثيرات لوكروبوزيي فيه قد غمرها النسيان.

6 أكتوبر 1887، ولد شارل إيدوارد جانري الملقب بلوكوربوزيي Le Corbusier، في مدينة لاشو دفون شمال غرب سويسرا.

1900، أنهى تكوينا مهنيا في ميدان النقش الفني وحصل في عام 1902 على جائزة فخرية بالمعرض الدولي للفنون في مدينة تورينو الإيطالية.

1904، التحق بالمدرسة العليا للديكور، لكن تم توجيهه إلى قسم الفن المعماري.

1905، تحصل على أول عرض لبناء فيلا فاليه  في مدينة لاشو دفون.

1907، قام برحلة إلى إيطاليا استمرت أكثر من شهرين.

1909، قام برحلة إلى فرنسا مرورا بالعاصمة النمساوية فيينا ومدينة نورمبرغ الألمانية، وأجرى مقابلات مع عدد من الفنانين والمعماريين.

1910، تأسيس “ورشة الفنون المجتمعة من أجل تحسين الإبداع الفني”.

1911، القيام برحلة إلى المشرق وبالأخص إلى تركيا.

1912، بناء “فيلا جانري” في مدينة لاشودفون، و”فيلا فافر” في مدينة لولوكل المجاورة لها غرب سويسرا.

1917، مغادرة نهائية لمدينة لاشودفون للإستقرار في باريس والعمل كمستشار لدى شركة متخصصة في تطبيقات الخرسانة المسلحة.

1918، مقابلة الفنان التشكيلي أميدي أوزنفانت وتأسيس “الروح الجديدة”.

1920، اتخذ رسميا إسم لوكوربوزيي.

1922، بداية التعاون مع ابن عمه بيار جانري ولقاؤه مع غيفون غاليس، عارضة الأزياء من إمارة موناكو التي أصبحت لاحقا زوجته.

1923، نشر كتاب “نحو فن معماري”.

1925، نشر كتاب ” فن الديكور اليوم”.

1929، رحلة الى بلدان أمريكا اللاتينية.

1930، الحصول على الجنسية الفرنسية، وزيارة موسكو والجزائر ثم تقديم مخططات معمارية مستقبلية لمدينة الجزائر.

1931، رحلة عبر إسبانيا والمغرب ثم الجزائر  وزيارة إلى منطقة وادي مزاب جنوبي الجزائر.

1932، التعرض لحادث بعد إصابته من طرف مروحة باخرة أثناء السباحة.

1951، أول زيارة إلى الهند وإلى مدينتي شانديغار وأحمد آباد وبداية العمل كمستشار لدى سلطات إقليم البنجاب من أجل بناء عاصمة جديدة.

1965، توفي غرقا أثناء جولة سباحة في البحر الأبيض المتوسط يوم 27 أغسطس.

ترك لوكوربوزيي 78 بناية من تصميمه في مختلف بلدان القارات الخمس من بينها “فيلا بيزو” في قرطاج وملعب بغداد في العالم العربي.

إضافة إلى ذلك، خلف أكثر من 227 تصميم ومخطط عمراني لم يتسن تحويلها إلى إنجازات، من بينها 6 مخططات متعلقة بتصوره لإعادة بناء مدينة الجزائر العاصمة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية