مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

جودت خدري: “حماية آثار غزة.. وجه من أوجه المقاومة”

swissinfo.ch

اختار المقاول الفلسطيني جودت خدري توظيف ثروته لإنقاذ التحف الأثرية لقطاع غزة، فأقام متحفا يتمنى أن يكون باعث أمل للجيل الصاعد، ووسيلة لتغيير نظرة الغرب لفلسطينيي غزة الذين لهم حضارة وتاريخ. وتكريما لجهوده، خصصت له الصحفية السويسرية بياتريس غيلبا كتابا تحت عنوان "غزة واقفة في مواجهة البحر".

تحول المقاول الفلسطيني جودة خدري، بمحض الصدفة وبحكم الأوضاع التي يمر بها شعبه، إلى محافظ لآثار غزة، ومُشيـِّد وراعي متحف في القطاع. وقد تجسدتّ قصته، بجوانبها الحلوة والمرة، من خلال كتاب الصحفية السويسرية بياتريس غيلبا “غزة واقفة في مواجهة البحر”، من إصدار دار النشر السويسرية “زووي” (Zoe).

قصة هذا المقاول الفلسطيني تحوّلـت إلى أسطورة تناولتها غالبيةُ وسائل الإعلام الدولية، ورواها لنا جودت خدري على هامش حفل تكريمه من قبل مدينة جنيف بهذه المناسبة: “هذا مشوار طويل يتجاوز عمره 22 سنة؛ بدأ بعثوري في ورشة بناء إحدى المنشآت الاقتصادية على قطعة زجاجية إسلامية (تعود للقرن السابع) كُتبت عليها “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، فاعتبرت هذا رمز تفاؤل ورمز حظ حسن، فأخذتها واستخدمتها كقلادة لي. وصارت بالنسبة رسالة أنه يجب أن نحافظ على أية قطعة نجدها في غزة والانتباه لها وحفظها في مكان آمن”.

هذه القلادة لم تكن فأل خير فقط على أعمال جودت خدري الذي استطاع أن يتحول إلى مقاول مهم في قطاع غزة، بل غيــّرت مجرى حياته ليتولى طواعية مهمة حامي وراعي تراث غزة الأثري الذي شاهد أكثر من 22 ألف من سكان جنيف قسما منه في “غزة على مفترق طرق الحضارة”، وهو معرض احتضنه متحف الفن والتاريخ في جنيف وافتتحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيسة الكنفدرالية (آنذاك) ووزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي-ري في 26 أبريل 2007.

“المتحف” وسيلة مقاومة لإثبات الجذور!

مغامرة جودت خدري لم تتوقف في تجميع أكثر من قطعة أثرية، أو في المناورة لتفادي سقوطها بين أيدي الاحتلال الإسرائيلي، أو ضحية لقصف عشوائي أو مستهدف، بل في تحدي تشييد “المتحف” في قطاع غزة رغم الحصار ورغم صرامة حظر مرور وسائل البناء.

فبدل انتظار أن ترى فكرة إقامة متحف غزة النور بجهود مشتركة لعدة دول، من بينها سويسرا، مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو”، فضـّل جودت خدري رفع تحدي “إقامة متحف وبجانبه مطعم كتعبير عن القوة وكوجه من أوجه المقاومة، وكصرخة تقول إن غزة ما زالت على قيد الحياة، وإن أهالي غزة لن يستسلموا رغم الحصار”، كما كتبت بياتريس غيلبا.

أراد جودت خدري أن يكون متحفه بيداغوجيا يسمح بسهولة لأبناء غزة بفهم مختلف الحقب التاريخية التي تتكون منها حضارتهم؛ إذ يقول، كما ورد في الكتاب “إن الحاضر مظلم ومعقد، ولكنني أريد أن أمنح أبناء غزة الأمل. أودّ أن أبرهن لـهم أن البؤس والجهل والحرب ما هي إلا مراحل مؤقتة. أريد أن أذكرهم بالماضي لأمنحهم مستقبلا. وبهذا المتحف أوضح لهم بأنهم ثمار حضارات عظيمة تعاقبت على هذه الأرض. وأنا متيقـِّن من أنهم لو يصبحوا واعين بـغنى وثراء تاريخهم، سيدركون بأنه بالإمكان معرفة غد أفضل حتى ولو كنا نعيش في سجن”.

ولم تذهب جهوده هباءا بحيث كان أول المسارعين لمشاهدة “المتحف” أطفال مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، بحيث زاره في غضون شهرين من افتتاحه أكثر من 10 الآف طالب وطالبة.

وهذا ما يعتبره جودت خدري وسيلة من وسائل إثبات الجذور وطريقة من طرق الصمود ولئن كان يعبر عن ذلك بكلمات أخرى إذ يقول: “الفكرة بدأت من الإيمان المطلق بأهمية جذور الإنسان في أرضه، وللأسف نحن نحارب بالموضوع هذا، جذورنا تعود لمن؟ وهذه الأرض تعود لمن؟ فكان عندي يقين أن أهم شيء هو إثبات أن هذه الجذور جذورنا وهذه الحضارة حضارتنا وذلك ليس فقط بالكلام بل بإثباتات واقعية، وبهذه الآثار التي يكتشف العالم كله أنها تعود لفلسطين وللشعب الفلسطيني”.

وترى الصحفية بياتريس غيلبا التي ألفت الكتاب عن تجربة جودت خدري “أن مغامرة إقامة متحف في غضون خمسة أشهر رغم الحصار في قطاع غزة تعتبر بمثابة أسطورة وشكلا من أشكال المقاومة، خصوصا وأن الحصار كان يمنع دخول أيّ من مواد البناء”.

ولئن كان من الصـّعب معرفة ما يدور بخاطر أطفال مخيمات اللاجئين الذين سارعوا لرؤية أول متحف في حياتهم، تقول بياتريس غيلبا “إن الوقت الذي قضـّوه في داخل هذا المتحف سمح لـهم بقضاء وقت في مكان يختلف عن باقي الأماكن التي تشكل واقعهم اليومي. ومكان يعتبر همزة وصل تربطهم بالعالم الخارجي وبذلك يكون جودت خدري قد فتح لهم نافذة، ومكنهم من وسيلة مقاومة غير اعتيادية”.

وبينما تحفـّظ جودت خدري في الرد على بعض الأسئلة السياسية لعدم إغضاب أيّ كان، لخصت بياتريس غيلبا فحوى رسالة جودت خدري في “أنه تحد للإسرائيليين يقول لهم إن حصاركم لن يمنعنا من مواصلة العيش والتشييد، ويقول لسياسيي رام الله (السلطة الفلسطينية) نعم يمكننا مواصلة العيش في غزة، ويقول لسلطة حماس، هذه الطريقة التي يجب أن تكون عليها غزة، أي غزة منفتحة على العالم وهذه رسالة مقاومة خارقة للعادة”.

“غزة واقفة في مواجهة البحر”

لتخليد هذه المغامرة لجودة خدري ودفعه إلى تقاسم هذه التجربة مع القراء، ألفت الصحفية والكاتبة السويسرية بياتريس غيلبا كتابا تولت دار النشر السويسرية “زووي” طبعه، تحت عنوان “غزة واقفة في مواجهة البحر” (Gaza debout face à la mer).

عن دوافع تأليف هذا الكتاب، تقول بياتريس غيلبا: “الفكرة كانت لباتريس مونيي بعد المعرض الذي احتضنه متحف الفن والتاريخ في جنيف بمشاركة قطع من مجموعة جودت خدري تحت شعار “غزة في مفترق الطرق”.

وحتى هذه الصحفية التي سبق لها أن غطت أحداث غزة عدة مرات، ترى أن “العودة لغزة هذه المرة للتحاور مع جودت خدري سمحت باكتشاف وجه آخر لغزة عبر هذا الرجل المنحدر من عائلة غزاوية تعود جذورها إلى أكثر من 200 عام”.

وتتابع الكاتبة قائلة: “إننا تعودنا على رؤية الناس في غزة على أنهم عبارة عن أمواج من البشر لا نفرق ملامحهم، ولكن هذه المرة، وعبر مراحل حياة جودت خدري، اكتشفت مختلف المراحل التاريخية لقطاع غزة والممتدة من عام 1948، مرورا بحرب حزيران عام 1967، ثم الانتفاضة الأولى في عام 1987 ثم الثانية في عام 2000″، قبل أن تضيف “إننا كـُنـّا ندخل التاريخ الكبير من خلال مراحل حياة هذا الرجل وهو ما سمح لنا بالتعـُّرف على واقع غزة بطريقة مغايرة، وعدم تقليص نظرتنا لسكان غزة لتنحصر في صورة الإرهابي”.

وعن انطباع جودت خدري للتكريم الذي لقيه في جنيف بمناسبة صدور هذا الكتاب، قال في حديثه لسويس إنفو “بصراحة، أشعر بفرح وسعادة غامرة خصوصا في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها غزة والتي، كما يعرف العالم، تأزمت أكثر بسبب الحرب الأخيرة. أتمنى أن يكون هذا الكتاب بداية تغيـُّر في الرأي العام الدولي والعالمي للانتباه أكثر لغزة والنظر لغزة برؤية مختلفة عن رؤية الدمار، بل برؤية الحضارة والازدهار والاستقرار”.

وعن القطع الأثرية من مجموعته التي عادت للصـَّناديق في المنطقة الحرة في جنيف، بعد انتهاء عرضها في متحف الفن والتاريخ في جنيف، قال جودت خدري: “لحسن الحظ أنها كانت موجودة هنا أثناء القصف الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة”. وقد تعهدت جنيف بالاستمرار في حمايتها وضمان عودتها لجنيف في حال مشاركتها في معارض يتفق على تنظيمها في مدن أوروبية.

وإذا كانت الصحفية بياتريس غيلبا قد استطاعت دفع جودت خدري إلى العودة لتفاصيل حلوة ومرة من حياته ومن حياه شعبه في قطاع غزة، واستطاعت أن تترجم تلك القصص والحكايات والشهادات بصدق وبأسلوب قصصي سلس وسهل الهضم، فإن فضول ورغبة جودت خدري في التعرف عن الصورة التي يعطيها هذا الكتاب عنه سيظل قائما ما لم تتم ترجمته للعربية. وهذا ما تتمنى بياتريس غيلبا أن يتحقق في المستقبل القريب إذ تقول إنها تتمنى أيضا ذلك “ولو فقط لإشباع رغبة جودت خدري الذي وضع ثقته في، وفتح لي اسرار ماضيه ولو أنه ليس من الناس الذين يحكون عن أنفسهم بسهوله أو يحاولون وضع أنفسهم في الواجهة”.

سويس إنفو – محمد شريف – جنيف

…”بعد أيام من ذلك، وأثناء تواجدنا في مقهى بالقدس، قرر جودت “الحديث عن كل شيء”، ولئن كان الخوض في تفاصيل الماضي ليس دوما بالشيء الجميل، بل قد يكون حتى مؤلما، فهو لم يتعود على إنجاز الأشياء بشكل غير كامل. وفي انتظار الأسئلة التي أطرحها عليه أضاف قائلا: “إضافة إلى ذلك، ليس لدي شيء أخفيه” وكأنه يستعد لعملية استنطاق.

فقد عرف جودت في نهاية الثمانينات نشاطا مـُكثفا كرجل أعمال، واستطاع أن يجمع من مختلف ورش البناء التي تولاها، العديد من القطع الأثرية. وبما أنه رجل أعمال من نوع غير اعتيادي، فقد أعطى أوامر محددة لعماله: أن يديروا آلات الحفر بحذر عند حفر أرض غزة حتى لا يتسبب ذلك في إتلاف كل شيء. وطلب من سائقي آلات الحفر وضع القطع الجميلة التي يتم العثور عليها على جانب. وهكذا بدأ العمال يجمعون يوما بعد يوم في مكان مفتوح بالقرب من “الشطه” هذه الكنوز الأثرية. “وكانوا ينظرون لي باستغراب غير مستوعبين لماذا أطلب منهم ذلك. وهكذا بدأت في تجميع مجموعة التحف التي لدي اليوم”.

وكان جودت يسكن حينها في البيت الذي ترعرع فيه في وسط المدينة. ولكن سرعان ما أصبح المكان غير قادر على استيعاب كل هذه القطع. وبدأ التساؤل أين يمكن وضع القطع الجميلة. ولم يكن هناك حل آخر غير تخزينه في المنزل. وهكذا وجد والده نفسه أمام أعمدة أثرية منصبة في حديقة المنزل. وبغضب وقلق كبيرين، حاول إقناع ابنه بأن هذه القطع تجلب انتباه الجيش الإسرائيلي “إذ كان يقول لي إن الاحتفاظ بكل هذه الأشياء أمر غير قانوني، وأن أي عسكري إسرائيلي بإمكانه أن يدخل للبيت في أي وقت ويأخذ ما يشاء”.

فقد كان الوالد لا يرى في تلك القطع إلا مصدر مشاكل محتملة. ولم يكن الجنرال الإسرائيلي موشي دايان حالة خاصة ممن يستنزفون التراث الأثري الفلسطيني لإثراء مجموعاتهم الفنية.

وكان جودت يدرك بأن مخاوف والده مبررة. ويتذكر كيف أن المعلمين الأثريين الضخمين اللذين كانا في طريق المدرسة، اختفيا في يوم من الأيام بعد أن نقلهما الجنود إلى داخل إسرائيل. فقد شاهد طوال طفولته كيف كانت قوافل شاحنات الجيش الإسرائيلي المحملة بالأعمدة الأثرية تتجه نحو إسرائيل في الشمال. وعندها أدرك بنوع من الغموض بأن كل ما له علاقة بالذاكرة هنا يشكل ورقة رهان. وبدأ يتكون لديه وعي بأن التاريخ، مثل العقيدة، يوظفه السياسيون من أجل تحقيق أهدافهم.

وفي رده على والده القلق والمتخوف، لفظ جودت هذا الجواب البسيط :”لهذه الأسباب بالذات، يجب أن نحتفظ بأكبر قدر من القطع الممكنة، لأنهم سرقوا منا الأرض، وهم الآن يسرقون منا التاريخ” (…)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية