مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“صُـنـع في الـجـنّـة”…من تجربة إنسانية إلى تظاهرة فنية

في كل مرة يقدّم فيها المشهد الذي يشرح كيفية أداء الصلاة من مسرحية "صنع في الجنة"، يؤكد المصري عمر غايات أن الغرض منه ليس دينيا بل من أجل فتح باب الحوار والتواصل Yan Duyvendak

"الإرهابيون يسكنون مدننا.. والغزاة يطرقون أبوابنا.. وهويتنا المسيحية مهددة بالضياع..". هذا غيض من فيض مما يُتداول ويُنشر في العديد من وسائل الإعلام الغربية منذ 11 سبتمبر 2001، حيث أصبح الإسلام، من دون كل الأديان، مصدر خوف وقلق وتوجس لدى الإنسان الغربي عموما.

هذا القلق الذي استحوذ على الوجدان والعقل في العديد من بلدان العالم، وما نتج عنه من أفكار مسبقة وقوالب جاهزة، كان محور مسرحية “صُنع في الجنة”، من إنتاج وأداء السويسري – الهولندي يان ديفينداك، والمسرحي المصري عمر غايات.

وقد ساعد على ظهور هذا العمل الفني وجود رغبة مشتركة لدى الفنّانيْن في تفكيك الكليشيهات السائدة لدى هذا الطرف أو ذاك، ومن هناك الوصول إلى تقريب صورة الآخر، وإيصالها إلى الجمهور، بعيدا عن انتقائية وسائل الإعلام.

ويشرح المسرحي السويسري الدافع الشخصي الكامن وراء انخراطه في هذه التجربة الفنية والشخصية: “مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بدأت أفكّر في الطريقة التي تقدم بها صورة المسلم في الغرب، وكنت أودّ معرفة كيف تقدّم صورة الغربي في العالم الإسلامي، وقادني ذلك إلى رحلة استكشاف إلى مصر”.

أما عمر غايات، الذي يقيم في سويسرا منذ ثلاث سنوات في إطار عملية تبادل ثقافي بين سويسرا ومصر برعاية فرعي مؤسسة بروهيلفيسيا المعنية بالترويج للثقافة السويسرية في كل من القاهرة، وزيورخ، لم يتردد هو الآخر في خوض غمار هذه التجربة: “لأن هذا الموضوع يهمّني شخصيا، أنا أعاني منه كل يوم، عندما احمل حقيبة وادخل مقهي، تتوجّه إليّ كل الأنظار، وتحيط بي الريبة من كل جهة”.

لكن هذه الرغبة المشتركة لا تعني بأي حال غض الطرف عن المشكلات الحقيقية، التي لا بد من تحليلها وفهمها، وإدراك أسبابها، كما أن هذا العمل لم يكن هدفه إملاء أفكار أو وجهات نظر، أو جسر الهوة بين الإسلام والغرب، بل يترك للمشاهد اختيار السلوك الذي يريد، وتشكيل القناعات التي تعجبه.

..رغم التوجّس والخوف

ربما لهذا السبب وجدت مسرحية “صُنع في الجنة”، إقبالا شديدا ولا تزال، داخل سويسرا وخارجها فهي أقرب إلى التجربة المعاشة منها إلى العمل الفني. وقبل ظهور فكرة المشروع من الأساس، بدأت التجربة بتبادل ثقافي بين شخصين، بين سويسري اختار الذهاب على مصر، ومصري اختار القدوم إلى سويسرا، وأدى تبادل المكان إلى تبادل الثقافة أيضا، بل وحتى الأصدقاء وشبكة التواصل الشخصية، مما يسّر الالتقاء بين الفنانيْن لاحقا.

ومن المفارقات الملفتة للنظر هنا أن هذا العمل الذي نشأ من البداية لمحاربة الأكليشيهات، لم يستطع هو نفسه الإنفكاك منها. ولقد كشف لنا عمر غايات التوجسات والمخاوف التي راودته عندما طلب منه المشاركة في هذا العمل المسرحي: “كنت متخوّفا لانه من العادة عندما يدعى فنان عربي للمشاركة مع غربيين في عمل فني، فهو إما لكي يستخدم كمريونات، أو من اجل ان يلعب دور الإرهابي المتطرّف، أو الثريّ الغبي والسفيه، تماما كما نشاهد في الأفلام الأمريكية”.

ويقول السيد غايات مواصلا الحديث عن بدايات هذه التجربة: “في الأشهر الثلاثة الأولى كانت الثقة منعدمة بيننا، وكنت احاول فهم ما يقصدون من هذا العمل، وأظنّ أن الطرف السويسري كان أيضا متخوّفا من أن لا أكون صادقا معهم”.

ويكشف هذا الوضع إلى أي حد الأفكار المسبقة حاضرة في أي عملية تواصل بين العالميْن الإسلامي والغربي: “فمن جهة كان السويسريون يحكمهم تصوّر أن العربي غير صادق، وكذّاب، ونصّاب، وأما أنا فكان مسيطرا عليّ شعور المؤامرة، وإحساس الضحية”.

ورغم ثبات هذه التجربة وقطعها لأشواط على طريق الشهرة والنجاح، يعترف عمر قائلا: “حتى اليوم، وفي كثير من الأحيان تظهر الأكليشيهات برأسها، ونشعر بأننا لم نقدر على التخلص منها نهائيا”.

اقبال الجمهور الغربي

من الحقائق التي تتجلى كذلك من خلال الحديث مع المنتجيْن أن أسباب نجاح هذا العمل لا تكمن في الإخراج المتقن ، او كثرة الألوان، وقاعات العرض الفارهة، بل في تطرقه إلى موضوع يشغل اليوم شريحة واسعة جدا من الجمهور الغربي.

وفي تواضع كبير، يعترف السيد غايات أن “نجاح هذا العمل يعود لكونه يتكلّم عن الإسلام، والجمهور الغربي يطالب اليوم بهذا الصنف من الأعمال. وقد عرضت المسرحية حتى اليوم ثلاثين مرة، وفي العديد من البلدان الغربية، وحجزت العديد من المواعيد في أفق السنتيْن القادمتيْن”.

ورغم أن العرض يقتصر على تقنية الحوار والكلام بين شخصيْن يقفان امام الجمهور، فإن الحضور يجد ذلك كافيا جدا، ويبدي اهتماما وعانية كبيريْن لكل كلمة ينطقان بها. ولا يقتصر هذا الأمر على الجمهور الغربي، بل حتى المسلمين الذين حضروا تلك العروض، يقول السيد غايات: “عقب كل عرض يأتون شاكرين، وهذا الأمر يسعدني جدا، ويثبت لي أنني لست على خطأ”.

هذا الامر لمسته سويس إنفو من خلال الاتصال بإحدى المشاهدات التي حضرت العرض الذي قُدّم في شهر مارس الماضي في لوزان، وتقول السيدة صفوى عيسى: “أعجبتني المسرحية، لأنها تتميّز بجرأة غير عادية، في العادة هذا الصنف من الأعمال يشوّه صورة المسلمين، ويتهمهم بكل ما هو سيئ. لكن هذه المسرحية تفعل العكس، إذ تقدّم المسلمين بالصورة الصحيحة، وتنفي عنهم الأفكار الشائعة، كالإرهاب، وظلم المرأة، وتظهر طقوسهم كالصلاة وغيرها على غير ما تظهره وسائل الإعلام في الغرب”.

بدوره يبدو يان ديفينداك راضيا جدا على حصيلة هذه العمل حتى الآن، ويقول: “ما نفخر به هو التأثير الإيجابي الذي تتركه العروض على الجمهور، فبعد انتهاء العرض، يتمسّك الجمهور بالبقاء على عين المكان يحتسون القهوة والشاي في سعادة غامرة، وينخرطون في مناقشات وحوارات للقضايا التي تثيرها المسرحية، ويتحوّل مكان العرض إلى حلبة للجدل السياسي “.

تغيّر أم لا تغيّر!

خلف هذا العمل الفني البسيط في شكله، والهام في دلالاته، تقف إرادة إنسانية واعية، تريد إنجاح التواصل بين الشعوب، وتحطيم القوالب الجاهزة التي تسد سبل ذلك التواصل، وتسمم العلاقات بين البشر، وردا عن سؤال لسويس إنفو حول الجدوى التي يتوقعها يان ديفنداك من عمله هذا، وإن كان سيغيّر من الواقع شيئا، أجاب: “هذا ما أتمناه، وإلا لما انخرطت في هذا العمل من الأصل، لكن انا واقعي، ولا اعتقد ان عمل فنّي يمكن أن يغيّر بشكل جذري أفكارا وقناعات ترسخت عبر العصور المتوالية”.

وبالنسبة لهذا المسرحي ذي الأصول الهولاندية والسويسري بالتبني: “الأمر المهم هو أنّي أنا يان ديفينداك، لدى رغبة في التواصل مع الآخر، والتعرّف إليه عن قرب، بعيدا عن انتقائية وسائل الإعلام”.

فعمل فني مثل هذا لا تتجاوز مهمته دعوة الآخرين لكي يعيشوا هذه التجربة الإنسانية. هذه التجربة الحية التي يتحدث عنها الفنان قائلا: “من خلال هذا العمل، تعلمت الكثير والكثير جدا عن الإسلام، وعندما حللت بالقاهرة في البداية، أدركت عمق جهلي بالشرق، وبالثقافة الإسلامية، ووجدت ان كل ما كان يعشش في ذهني مجرد تفاصيل وجزيئات استقيتها من هنا وهناك في وسائل الإعلام، لكن من خلال التعايش مع المصريين، أدركت أنهم هم أيضا لا يعرفون شيئا عن الغرب، وبالنسبة إليهم الغرب، لا يساوي شيئا”.

جهل المسلمين بالعالم الغربي، لا يضاهي ولا يعادله سوى جهل الغربيين بحقيقة العالم الإسلامي. وبالنسبة لعمر غايات: “وسائل الإعلام العربية أيضا، وخاصة القنوات الدينية، التي لا تحتكم إلى مرجعيات إسلامية وسطية واضحة، صورت هي الأخرى الغرب بشكل خاطئ. هذه القنوات تصوّر الغرب على انه كيان منحل، منهار اخلاقيا وقيميا، وعلى انه عالم تنعدم فيه العفة، وأن الفتاة لما تبلغ الرشد، يطردها أبوها من البيت”. ويختم هذا المصري بالقول: “مثلما إنهم يجهلون الثقافة الإسلامية، نجهل نحن أيضا الواقع الغربي”.

يصف يان ديفينداك هذه التجربة المسرحية والحياتية بالمهمة جدا في حياته الشخصية، ويقول: “من خلال تعرفي على عمر غايات، تعرفت على صديق عزيز، بل أنه أكثر من صديق، وانا ادعوه بأخي منذ عرفته”.

اما على المستوى الفني، يضيف المسرحي السويسري: “غايتي تقديم هذه التجربة الإنسانية الناجحة جدا إلى الآخرين لعلهم يجدون فيها ما يشجّعهم على الإنفتاح على الآخر، واتمنى ان يستطيع كل من يشاهد هذه المسرحية أن يخرج عن منطق التعميم،وان يقتنع بأن ما يحمله من أفكار عن الإسلام، إما انها خاطئة او غير كافية”.

عبد الحفيظ العبدلي – برن – swissinfo.ch

صنع في الجنة” « Made in Paradise » عمل فني ناجح وهو حصيلة تعاون بين فنانيْن لكل منهما تجربته المتميّزة.

من جهة عمر غايات، فنان مسرحي وتشكيلي درس الفنون التشكيلية في القاهرة والسينوغرافيا في زيورخ، وقدم العديد من الأعمال في ما يعرف بالمسرح البصري.

يقيم عمر في سويسرا منذ ثلاث سنوات متزوّج من سيدة سويسرية، وينهي الشهر الجاري إعداده لدبلوم الماجستير في السينوغرافيا. كان قدومه إلى سويسرا في إطار برنامج تبادل الفنانين بين سويسرا ومصر الذي تشرف عليه وتديره المؤسسة الثقافية السويسرية بروهيلفيسيا. ولقد تبادل عمر غايات مكانه في إطار هذا البرنامج مع شريكة في مسرحية “صنع في الجنة”، الهولندي يان ديفينداك.

لهذا الأخير ايضا مسيرة فنية حافلة. فقد ولد يان في هولندا، وهو يعيش متنقلا بين جنيف وبرشلونة. تلقى دراسته الفنية في المدرسة العليا للفنون البصرية بجنيف، وبدأ ينشط في المجال المسرحي سنة 1995. يعرض اعماله الفنية عادة في مقر مؤسسة “كارتيي” بباريس، وفي إطار مهرجانات فنية سويسرية ودولية متعددة.

توجد اعماله على شاكلة فيديوهات ضمن العديد من الاعمال الفنية المنشورة من طرف مؤسسات عامة او خاصة، كمتحف الفنون الجميلة بليون، أو متحف الإتصالات ببرن.

يان ديفينداك، حصد خلال مسيرته الفنية المتواصلة العديد من الجوائز الهامة، منها على سبيل المثال جائزة الفنون السويسرية ثلاث مرات متتالية (2002، 2003، 2004)، وجائزة Network Kulturpries لسنة 2006. أقام يان ديفينداك لأغراض فنية في العديد من الأماكن المختلفة، في مدينة الثقافة، باريس، وفي برلين، وفي القاهرة بمصر (2007، 2008).

هذا هو العنوان الذي اقترحه احد الاصدقاء على المنتجيْن المصري والسويسري لهذه المسرحية، ومنذ الوهلة الاولى لقي لديهما القبول واستحسناه، لكن لكل واحد منهما تبريره لذلك.

من جهة، يعتقد يان ديفنداك، ان هذا العنوان يعبّر بشكل جيد عن مضمون المسرحية، إذ هو يتركب من عبارتيْن من طبيعتيْن مختلفتيْن، يصلان إلى حد التعارض: من جهة“صُنع في” Made” in”، وهو شعار الراسمالية الغربية، ومن جهة اخرى “الجنة” “Paradise”، وهي الفكرة المركزية في التفكير الديني الشرقي. ويرى يان أن الجمع بين هذيْن الكلمتيْن مختلفتيْ الدلالة، يخلق مساحة للتعارض، يتموضع داخلهاالطرفان.

ويقول أن هذه التعارض، وهذه الثنائية هو ما تتداوله وسائل الإعلام يوميا، وتنفخ فيه، اما ما نريده من هذه المسرحية ومن الجمهور الذي يشاهدها هو تحطيم قبضة هذه الثنائية، والإلتقاء على قاعدة القيم الإنسانية المشتركة.

اما عمر غايات، فيبدو ان له تبريرا آخر في قبوله بهذا العنوان، ويشدد على انه موافق عليه تماما لان كل الإكليشيهات التي نعاني منها بحسب رأيه صنعت في مطبخ وسائل الإعلام، ولذلك يعتبر أن الجنة التي يتحدث عنها العنوان هي وسائل الإعلام، وليس الجنة التي هي في التصور الديني الإسلامي. ويضيف عمر: “كل المشاكل الناتجة عن هذا الصدام صنعها الإعلام سواء في العالم الغربي او في العالم الإسلامي”.

من المنتظر أن تعرض مسرحية “صنع في الجنة” في نسختها الفرنسية في إطار المهرجان الثقافي السنوي لمدينة جنيف الذي ينظم من 29 أغسطس إلى 3 سبتمبر 2009.

وكذلك ستعرض النسخة الألمانية من المسرحية في إطار مهرجان المسرح في الهواء الطلق بمدينة زيورخ الذي ينظّم خلال يومي 26 و27 أغسطس 2009.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية