مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

علاقات سويسرا الحذرة مع الفاتيكان

سائحان يتنزهان في ساحة القديس بطرس المبللة بالأمطار في الفاتيكان
هل سنرى قريبًا افتتاح سفارة سويسرية في حاضرة الفاتيكان ؟ Copyright 2021 The Associated Press. All Rights Reserved.

عيّنَت سويسرا أول ممثل دبلوماسي لها لدى الكرسي الرسولي قبل ثلاثين عامًا فقط، والآن تريد الحكومة الفدرالية افتتاح سفارة لها لدى الفاتيكان، فيما شاب العلاقات بين الدولتين في الماضي الكثير من الخلافات السياسية والطائفية.

يبدو وكأن “قضية هاس”، التي اندلعت في بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت ضرورية لتحريك المياه الراكدة للعلاقات بين برن والفاتيكان. فقد ساهم ما أثير من خلافات ونقاشات حول تعيين فولفغانغ هاس المحافظ المتشدد على رأس أبرشية خور (عاصمة كانتون غراوبوندن جنوب شرق سويسرا) في لفت نظر السلطات الفدرالية إلى أهمية وجود ممثل دبلوماسي لها في حاضرة الفاتيكان.

نسبة إلى فولفغانغ هاس المولود في 7 سبتمبر 1948 في فادوز عاصمة إمارة ليختنشتاين المجاورة، وفي 7 أبريل 1974 رُسّم كاهنًا في مدينة خور، ثم عُيّن في 25 مارس 1988، بناء على تزكية أسقف المدينة يوهانس فونديراخ، مساعدًا، وفي عام 1990، عينّه البابا يوحنا بولس الثاني أسقفًا لمدينة خور وأوكل إليه رئاسة أبرشيتها. 

إثر ذلك، دخلت الأبرشية في فترة عصيبة من الصراع والتأزم بسبب القناعات الفكرية المحافظة والمتشددة للأسقف الجديد، والتي لم تكن موضع قبول لا سيما من قبل الجناح الليبرالي للأبرشية (وخاصة من الكاثوليك في كانتون زيورخ).

في عام 1997، وعلى الرغم من محاولات الوساطة العديدة، وفي مواجهة موجة السخط من العديد من أعضاء الكنيسة، تنازل البابا لمطالب الاحتجاجات وأقال هاس، وأنشأ له أبرشية خاصة به في فادوز عاصمة ليختنشتاين وعيّن أميدي غراب أسقفًا جديدًا لخور. 

“تُظهر تجارب الماضي القريب، من ناحية، أن المواقف السويسرية لا تصل إلى روما إلا من وجهة نظر السفير البابوي”، وفقًا لما ورد في القراررابط خارجي الصادر في 30 أكتوبر 1991 بخصوص تعيين سفير في مهمة خاصة لدى الكرسي الرسولي، “ومن ناحية أخرى، لا تستطيع سويسرا، عبر الاتصالات المحلية، الحصول على معلومات كافية حول بعض الأحداث المهمة (كزيارات الأساقفة السويسريين إلى روما) أو عن خلفية المواقف السياسة البابوية تجاه سويسرا”.

استمر الممثل الدبلوماسي المعيّن آنذاك، جينو ستايلين، في منصبه حتى عام 1993، ولم يحدث تطبيع للعلاقات السويسرية مع الفاتيكان إلا في نهاية مايو 2004 حين عيّنت سويسرا، قبيل الزيارة الثانية للبابا يوحنا بولس الثاني إلى برن، سفيرًا مفوضًا فوق العادة.

أصداء الصراع

وفي غرة أكتوبر من عام 2021، كانت الخطوة الأخيرة في عملية توطيد العلاقات الدبلوماسية، حيث أقرّت الحكومة السويسرية افتتاح سفارة رسمية لها لدى الكرسي الرسولي.

عموما، “لا تزال حتى اليوم العلاقات الدبلوماسية بين برن والفاتيكان موضع تساؤل ويكتنفها التوجّس”، على حدّ قول المؤرخ ساشا زالا، مُدير الوثائق الدبلوماسية السويسريةرابط خارجي، وعللّ ذلك بالقول: “إنه إرث من الصراع التاريخي بين الدولة الفدرالية الليبرالية والهيمنة من خلف الجبال، ويُقصد بها تدخل البابوية في سياسات الدول القومية”.

كما يُمكن سماع صدى هذا الصراع في بيان وزارة الخارجية الذي أعلنت فيه رسميًا عن نيّة فتح ممثلية دبلوماسية في الفاتيكان، والذي نصّ مجدّدًا على أن القرار “لا يُغيّر العلاقات بين الكنفدرالية والكنيستين الكاثوليكية والإصلاحية (البروتستانتية)، وأنه يكفل الاحترام الكامل للسلطتين الفدرالية والكانتونية”، أي الفصل بين الدولة والكنيسة.

تاريخٌ من العلاقات الصعبة

العلاقات الدبلوماسية بين الكنفدرالية السويسرية ودولة الفاتيكان لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ. فبعد فرنسا، كان الكرسي الرسولي هو ثاني دولة أجنبية تنشئ بعثة دبلوماسية دائمة فوق أراضي الاتحاد الكنفدرالي. ومنذ عام 1586، لعب وجود سفير رسولي في مدينة لوتسيرن دورًا مهمًا في تعزيز الكاثوليكية في سويسرا إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر.

وباستثناء الانقطاع المؤقت للعلاقات الدبلوماسية في فترة الاحتلال الفرنسي لسويسرا وقيام الجمهورية الهلفيتية بين عامي 1798 و 1803، واصلت السفارة نشاطها الدبلوماسي في سويسرا حتى بعد الثورة الفرنسية، ولكن، كانت للقرار الأخير دلالة خاصة حيث تم اعتماد سفير لدى سويسرا على المستوى الوطني وليس على مستوى الكانتونات الكاثوليكية فقط.

ومما زاد من فرص إذكاء الصراع، ظهور التيارات الليبرالية الراديكالية في سويسرا، التي سعت إلى إخضاع الكنيسة الكاثوليكية للسلطة العامة للدولة، ورغم استمرار بعض الاضطرابات، إلا أن العلاقات بين برن والفاتيكان استطاعت التغلّب على عقبات الحرب الأهلية “الشهيرة بـ سوندربوندرابط خارجي” بين الكانتونات الليبرالية (البروتستانتية) والمحافظة (الكاثوليكية) وما تمخض عنها من إنشاء الدولة الفدرالية الحديثة في عام 1848.

ثم ما لبثت أن تفاقمت الفتن والنزاعات الداخلية في سياق ما يُعرف بمرحلة “الصراع الثقافي” أو “حرب الثقافات” Kulturkampfرابط خارجي“، وساق احتدام التوتر بين أطروحة عقيدة العصمة البابوية (1870) من جهة، ومناهضة العديد من النخب الليبرالية الراديكالية الأرثوذوكسية السويسرية لمبادئ الإكليروس أو النظام الكهنوتي للكنيسة الكاثوليكية، من جهة أخرى، الأوضاع إلى شفير الانهيار. وعلى إثر صدور النشرة الدورية للكرسي الرسولي “Etsi multa luctuosaرابط خارجي” التي انتقدت بشدة سياسات الكانتونات والكنفدرالية تجاه الكنيسة الكاثوليكية ولا سيما طرد الممثل الرسولي من جنيف، قطعت الحكومة السويسرية، في ديسمبر 1873، العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان، وغادر السفير البابوي سويسرا.

رأب الصدع ببطء

مع ذلك، لم تنقطع الاتصالات مع الكرسي الرسولي تمامًا، فقد كانت القضايا المتعلقة بإدارة الكنائس الأسقفية في سويسرا تقتضي مرارًا وتكرارًا إجراء مُحادثات بين ممثلي الجانبين.

أضف إلى ذلك، أن تقاربًا ظهر خلال الحرب العالمية الأولى عبر التقاء المصالح بين سويسرا والفاتيكان في مجال السياسة الإنسانية تجسّدرابط خارجي من خلال احتجاز المرضى والجرحى من أسرى الحرب في سويسرا بدعم من الفاتيكان.

ساهم التعاون في المجال الإنساني في تعزيز التقارب السياسي بين الطرفين. ففي يونيو 1920، قررترابط خارجي الحكومة السويسرية استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الكرسي الرسولي، ومنذ ذلك الحين، أصبح للفاتيكان سفير رسولي في برن يُمثله رسميًا لدى سويسرا من جديد.

لكن على شرطرابط خارجي أن يبقى التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين من جانب واحد، فكما أن سويسرا “لم تتعامل بالمثل في الماضي، فلن تمارسه في المستقبل”، كما طلبت الحكومة السويسرية من السفير البابوي “التزام أقصى درجات الاعتدال وتجنب القضايا التي يمكن أن تثير خلافات بين الكاثوليك والبروتستانت أو بين الكاثوليك أنفسهم”. (انظر التفاصيل في الرابط التالي على موقع “الوثائق الدبلوماسية السويسرية”: dodis.ch/44598رابط خارجي).

نحو المعاملة بالمثل

ظلّت العلاقات الدبلوماسية أحادية الجانب في غاية الاحترام حتى أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أنه تمّ تمثيل الحكومة السويسرية رسميًا لأول مرة في عام 1939 في حفل تتويج البابا بيوس الثاني عشر.

وفي الفترة التيتلت الحرب مباشرة، كان من غير الواردرابط خارجي مطلقًا تعيين ممثل دبلوماسي في الفاتيكان، تجنبًا لإذكاء “الفتنة الطائفية في بعض مناطق البلاد”، فضلاً عن كونه “سيعقّد العلاقات مع الاتحاد السوفياتي”، ثم إن برن كانت ترى أن التمييز الواقع على الأقليات البروتستانتية في عدد من البلدان الكاثوليكية، مثل إسبانيا وإيطاليا، لا يشجّعرابط خارجي على التخلي عن مبدإ المعاملة بالمثل.

ولكن، في أوائل ستينيات القرن الماضي، ومع أجواء الانفتاح المسكوني التي استهلّها مجلس الفاتيكان الثاني، أو بالأحرى المجلس المسكوني الحادي والعشرين للكنيسة الكاثوليكية، بدأت سويسرا تُعيد النظررابط خارجي في موقفها.

في عام 1968، اعتبرت الحكومة السويسرية أن التمثيل الدبلوماسي أحادي الجانب غير سويرابط خارجي وأعربت عن أملها في تطبيع العلاقات مع الفاتيكان، ولكن ليس قبل مراجعة الدستور الفدرالي وتخليصه من المواد الاستثنائيةرابط خارجي التي تحدّ من الحرية الدينية، وقد كان واضحا بالنسبة للسلطات الفدرالية، منذ فترة طويلة، أن بإمكانها تجاوز الأحادية الدبلوماسية لكونها مجرد مصلحة وليست مبدأ.

وفي عام 1973، ونتيجة الاستفتاء الشعبي الذي أجري حينها، تم استبعاد المواد الدستورية التي كانت تقف حجر عثرة، وبالأخص تلك التي تحظر النظام اليسوعي وإنشاء أديرة جديدة، ودفعت حملة الانفتاح الدبلوماسي الشاملة، التي قادها البابا يوحنا بولس الثاني، سويسرا في نهاية المطاف، ومنذ عام 1987 تحديدا، إلى إعادة التفكيررابط خارجي وبشكل جدّي وملموس في المسألة، ومن ثمّ اتخاذ خطوات عملية على طريق “التطبيع التدريجي” مع الفاتيكان، إلى أن جاءت “قضية هاس” بالزخم الحاسم.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

اكتب تعليقا

يجب أن تُراعي المُساهمات شروط الاستخدام لدينا إذا كان لديكم أي أسئلة أو ترغبون في اقتراح موضوعات أخرى للنقاش، تفضلوا بالتواصل معنا

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية