مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العلاقة الملتبسة بين حرية التعبير والمشاركة المواطنية

رجل يسحب نباتات بلاستيكية عبر الشارع
يبذل بعض النشطاء جهودًا كبيرة لجذب الانتباه إلى مبادراتهم الشعبية. دعا اقتراح في كانتون جنيف، تم إطلاقه في أبريل، إلى مزيد من غراسة الأشجار وتحسين خدمات وسائل النقل العام. Keystone/Martial Trezzini

كيف تساهم المشاركة الشعبية في تعزيز حرية التعبير؟ وما هو الدور الذي تلعبه الديمقراطية المباشرة الحديثة في ضمان سماع أصوات المواطنين؟ تقدم التجربة السويسرية دروسا عديدة في هذا المجال.

في تاريخها الحديث، نظمت سويسرا حوالي 700 اقتراع على المستوى الوطني كان الهدف منها إما وضع القوانين النافذة على المحك أو اقتراح تعديلات على دستور البلاد.

وتحصي السجلات الرسمية 455 مبادرة اقتراح قوانين تقدّم بها مواطنون ونحو 240 استفتاءًا شعبيا، عادت فيه كلمة الحسم إلى المواطنين من خلال صناديق الأقتراع. ناهيك عن المبادرات التي لم يتمكّن المؤيدون لها جمع التوقيعات القانونية اللازمة لعرضها على أصحاب القرار الحقيقي في اقتراع عام. وهذه المحاولات يكاد يكون لا حصر لها.

قد يجعلك هذا العدد الهائل من المبادرات والاستفتاءات الشعبية تعتقد بأن سويسرا تستحق باقتدار لقب ملاذ حرية التعبير، ورافعة لواء مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات وسن القوانين العامة. وقد لا تكون مخطاً في ذلك.

إن جدول أعمال التصويت في سويسرا غني ومتنوّع، فهو من ناحية يشتمل على قضايا ذات تأثير كبير على المجتمع والسياسة والاقتصاد، ولكن في نفس الوقت يمكن أن يُطلب رأي المواطنين بالنسبة لبعض القضايا التي تبدو أقلّ إلحاحا، مثل التوقيت الصيفي والدخل الأساسي غير المشروط، وقرون البقر.

وبعد استفتائهم في 13 يونيو الماضي، أصبح المواطنون السويسريون أول ناخبين في جميع أنحاء العالم يدلون بآرائهم بشأن قانون يحدد الدعم المالي للشركات والمؤسسات والأفراد لتعويض الأثر السلبي للقيود الحكومية المتعلّقة بجائحة كوفيد-19.

سلسلة SWI swissinfo.ch الخاصة بحرية التعبير #freedomofexpression

من حيث المبدأ، يجب أن يكون كل شيء واضحًا تمامًا. تنص المادة 19 من كل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) وميثاق الأمم المتحدة الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) على أن “لكل فرد الحق في حرية التعبير. يشمل هذا الحق حرية البحث عن المعلومات والأفكار بجميع أنواعها وتلقيها ونقلها، بغض النظر عن الحدود، سواء شفهيًا أو كتابيًا أو مطبوعًا أو في شكل فني أو من خلال أي وسائط أخرى يختارها”. في أوروبا، تؤكد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (1950) على حرية التعبير كحق مُلزم قانونًا (المادة 10). أما سويسرا فتكرس هذه الحرية الأساسية في المادة 16 من دستورها لعام 1999.

لكن في الممارسة العملية، لا يزال هناك الكثير من الجدل ومن الأمور المُتنازع عليها. فالعديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم لا تحمي الحق في حرية التعبير ولكنها تقوضه بشكل متزايد. وفي أجزاء أخرى من العالم، يُلوّح أفرادٌ وجماعات بمصطلح “حرية التعبير” لتبرير خطاب الكراهية والتمييز. ولكن بالرغم من كونها حقًا كونيا، إلا أن حرية التعبير ليست حقًا مطلقًا. لذلك فإن التأكد من ذلك وتطبيقه يظل دائما أشبه شيء بالسّير على حبل مشدود.

في سلسلة SWI swissinfo.ch الجديدة، نتناول هذه الجوانب المختلفة، والتحديات، والآراء، والتطورات المتعلقة بحرية التعبير، في كلّ من سويسرا وحول العالم. نحن نوفر منصة للمواطنين للتعبير عن أنفسهم بشأن هذه القضية، وتقديم التحليلات من قبل علماء مشهورين وإبراز التطورات محليًا وعالميًا. وبطبيعة الحال، فإن القراء مدعُوّون للانضمام إلى المحاورة في وقت لاحق من هذا الربيع لإبلاغ آرائهم وإسماع أصواتهم.

لقد كان التصويت غير عادي لأنه من المقرر أن ينتهي سريان مفعول القانون المعني بتحديد هذا الدعم المالي في نهاية هذا العام في كل الأحوال. لكن العديد من المعارضين للحكومة وجدوا في ذلك فرصة للتعبير عن رفضهم للإجراءات التي اعتمدتها الحكومة لمكافحة جائحة كوفيد بشكل عام، بما في ذلك سياسات التطعيم والسلطات الاستثنائية التي أستأثرت بها الحكومة في أوج انتشار الجائحة. وفي النهاية، وافق 62% من المقترعين على القانون المقترح.

صراحة وضمناً

على مدار 173 عاماً الماضية، صوتت سويسرا مرتين فقط لتحدّد صراحةً “حدود” حرية التعبير: في عام 1994، عندما صادق المواطنون على تشريعات مناهضة للعنصرية؛ وفي عام 2020، عندما أعلنوا موافقتهم على حظر التمييز على أساس الميول الجنسية.

لكن إجمالا، كانت القيود المفروضة على حرية التعبير تطرح مشكلة في قائمة تتضمّن العديد من عمليات التصويت الأخرى عبر التاريخ السويسري. وتتضمن هذه القائمة، على سبيل المثال لا الحصر، إجراء الاقتراع حول حقوق الأقليات الدينية – سواء حديثاً أو في القرن التاسع عشر – كما تتضمّن ممارسة الرقابة في الثلاثينيات والقيود المفروضة على مذيعي الخدمة العامة.

ويعتبر مارك بولمان أستاذ العلوم السياسية بجامعة برن ومدير منصة “السنة السياسية السويسرية”رابط خارجي (Année Politique Suisse) التي تُعنى بشؤون السياسة السويسرية، أنّ موضوع حرية التعبير يطفو على السطح من خلال عشرات الحالات.

ويقول بولمان: “قد لا تكون حرية التعبير صراحة المحور الرئيسي للتصويت، بل ربما جزءاً من مناقشة أوسع نطاقاً بشأن الحقوق الأساسية للمواطنين”.

وفي هذا الصدد، يذكُر المناقشات التي تدور حول القيود المفروضة على اللجان غير البرلمانية ودور الحكومة في الحملات الانتخابية، ومحتوى كتيب معلومات التصويت الرسمي.

وفي سبتمبر القادم، ستعود للناخبين الكلمة الفصل بشأن قانون يقضي بتشريع زواج المثليين في سويسرا، بعد أن نجحت لجنة من السياسيين اليمينيين والمحافظين في الطعن في قرار برلماني بهذا الشأن وإجراء استفتاء على المستوى الوطني.

النظام الأساسي وإعداد جدول الأعمال

الجوانب الأخرى التي يجب مراعاتها أيضا في علاقة بالمبادرات المطروحة للاستفتاء والحجج المستخدمة في حملات الاقتراع. هل يمكن للمبادرات اقتراح قوانين حول أي موضوع مهما كان؟ وهل يمكن طرح أي قضية للتصويت العام بدون استثناء؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فمن الذي يضع أٌطر وحدود هذه العملية برمتها؟

يشير بولمان إلى أن الحقوق الشخصية وحماية الخصوصية هي في الأساس المجالات الوحيدة التي لا تخضع لأي أُطر ويحظر انتهاكها.

ويؤكد جورج لوتزرابط خارجي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة لوزان ومدير المركز السويسري للخبرة في العلوم الاجتماعية، على أن “سويسرا متسامحة للغاية عندما يتعلق الأمر بمبادرات المواطنين”.

ويقول: “باستثناء القيود المستندة إلى معايير مناهَضَة العنصرية، يُسمح بطرح كل المسائل تقريباً”، مضيفاً أن هناك “منطقة رمادية” واسعة – لا يكون فيها واضحاً ما إذا كان شعار محدد لحملة استفتاء ما، أو المطالب المطروحة مطابقة أو غير مطابقة للمعايير.

“باستثناء القيود المستندة إلى معايير مناهَضَة العنصرية، يُسمح بطرح كل المسائل تقريباً” جورج لوتز

ويلاحظ لوتز أن بعض القوى السياسية، ولا سيما تلك التي هي في خندق اليمين السياسي، قد استنفدت إمكانيات هذه الممارسة الليبرالية. وفي هذا الصدد، يذكر مبادرتين مثيرتين للجدل تم طرحهما للتصويت خلال العقد الماضي حيث ناشد القيّمون عليهما علانيةً معاداة الإسلام: المبادرة الأولى كانت بشأن ما يسمى “حظر المآذن” والثانية بشأن “حظر النقاب”.

ويشدد لوتز أيضاً على أن الاستفتاءات الشعبية تحوّلت إلى حد كبير بالنسبة للقوى السياسية إلى “منصات انطلاق” لوضع أجنداتها السياسية والدفع باتجاه قضاياها الأساسية.


سيارة متوقفة مغطاة بسجاد أحمر رسمت عليه دراجة
سجاد أحمر من نوع خاص: أطلق نشطاء في مدينة زيورخ مبادرة محلية لتوفير المزيد من ممرات الدراجات في أبريل الماضي. Keystone/Ennio Leanza

الواقع، والأسلوب السويسري

لكن النظام السياسي السويسري للديمقراطية المباشرة الحديثة يبرز أيضاً، من بين غيره من الأنظمة السائدة، لأنه يسمح للجماعات التي لا تنتمي إلى النخبة السياسية بمحاولة طرح قضاياها على الساحة العامة.

يقول بولمان: “إنها أداة لجعل كل الآراء المتنوّعة ظاهرة في المجتمع – على الأقل من الناحية النظرية”.

إنّ الواقع على الأرض يظهر صورة مغايرة لما هو نظري؛ فقدرة المجموعة على إمكانية إسماع صوتها تعتمد على عدد من العوامل، بما في ذلك النفوذ السياسي والمهارات التنظيمية والموارد (المالية).

ويقول لوتز إن مثل هذه العوامل لا تقتصر فقط على سويسرا. كما أنه سيكون من الخطأ حُكماً “تمجيد الاستفتاءات الشعبية باعتبارها رأس حرْبة سياسية في ضمان حرية التعبير”.

ولكن التصويت يبقى مرحلة يمكن فيها سماع آراء متنوّعة حول مسألة ما. وبالرغم من ذلك، هناك محاذير مهمّة، وفقاً لبولمان – أبرزها عدم تبيان الباقة الكاملة للحجج المقدمة من قِبَل مختلف الأطياف، والكامنة وراء تأييدها أو رفضها لمسألة ما، أو تغييب بعض المسائل والموضوعات؛ ففي كثير من الأحيان لا توضع أبداً كل المعطيات أمام الرأي العام.

يقول بولمان: “هذه كلها فرص ضائعة ويجب القيام بالمزيد من الجهد من أجل منح المواطنين العاديين منتدى لنقاش القضايا المطروحة”. هناك استثناء واحد للقاعدة العامة حصل مع المزارع الذي استطاع أن يعرب عن إرادته في زيادة عدد الأبقار ذات القرون منذ ثلاث سنوات.

لكن في معظم الحالات، يفشل النشطاء في مرحلة مبكرة، في إيصال قضاياهم إلى المعنيين لأنهم يفتقرون إلى الموارد اللازمة والحلفاء السياسيين.

نشطاء مؤيدون لمبادرة جبال الألب مع الماعز والألفورن خارج البرلمان (صورة بالأبيض والأسود)
رغم إقرارها من خلال صناديق الاقتراع في عام 1994، لم تجد مبادرة جبال الألب، الساعية إلى الحد من حركة المرور عبر جبال الألب، طريقها إلى التنفيذ بشكل كامل حتى يومنا هذا. Keystone / Rolf Schertenleib

على سبيل المقارنة

للوهلة الأولى، لا تبدو مكانة سويسرا في جميع أنحاء العالم فريدة من نوعها، عندما يتعلق الأمر بحق المواطنين في إجراء استفتاءات وطنية. ولكن هناك اختلافات كبيرة بين أكثر من 40 دولة حيث تتوفر هذه الأدوات السياسية ولكن على مستويات عديدة، كما يتضح من منصة “متصفّح الديموقراطية المباشرة” Navigator to Direct Democracy، وهي منصة معلومات وأبحاث عبر الإنترنت يستضيفها معهد ليختنشتاينرابط خارجي.

محتويات خارجية

تقدم الخريطة الثانية التي تحتوي على بيانات من “متصفّح الديموقراطية المباشرة”   Navigator to Direct Democracyرابط خارجي  نظرة عامة على ما يقرب من 50 دولة حول العالم حيث يتوقع النظام السياسي تصويتاً شعبياً على القضايا التي تكون نتائج فرز الأصوات فيها ملزمة.

محتويات خارجية

فقدان الثقة في الحكومة

أخيراً، نتطرّق إلى عيوب النظام الذي يفشل في منح كل المواطنين فرصة التعبير عن آرائهم في عملية صنع القرار السياسي.

تحذّر كل من كوردولا ريمان وأندريا هوبر، الخبيرتان في المشاركة والحواررابط خارجي، من أن جائحة كوفيد -19 الحالي وتداعياتها على السياسة والمجتمع لم تتسبّب في خلق استقطاب سياسي لهذه الجهة أو لتلك فحسب، بل وتسبّبت أيضاً في تأجيج المشاعر المناهضة للحكومة وظهور حركات احتجاجية لمجموعات مستجدّة.

وسرعان ما أصبحت واحدة من هذه المجموعات، والمسماة بأصدقاء الدستور، لاعباً مهماً لا سيما في التصويت على القانون المتعلّق بجائحة كوفيد. وتجادل الخبيرتان بأن مثل هذه المجموعات غير الرسمية التي تعبر عن مخاوف خفية يجب ألا يتم تجاهلها ولكن يتوجب استيعابها والعمل على معالجتها في مرحلة مبكرة وقبل أن تصل إلى مرحلة وضعها على جدول أعمال التصويت.

وتقول هوبر إن نتائج الاقتراع المتعلق بجائحة كوفيد، والذي جرى في 13 يونيو، كانت رائعة: حوالي 40% من الناخبين رفضوا القانون في صناديق الاقتراع، وتعهد المعارضون بمواصلة محاربة الإجراءات الحكومية بهذا الشأن وبمحاربة وسائل الإعلام العامة أيضاً.

“لا ينبغي الاستهانة بهذا الأمر، كما تقول هوبر: ” فهذا التعهّد من قِبَل المعارضين يظهر عدم الثقة في الحكومة”.

مجموعات التركيز والحوار عبر الإنترنت

وتتوقع هوبر أن تتخذ السلطات خطوات لتفادي المزيد من تعزيز القوى المناهضة للديمقراطية التي تقوّض حرية التعبير من خلال نشر مزاعم لا أساس لها من الصحة.

“يتوجّب على الحكومة السويسرية النظر في أشكال جديدة من المشاركة وإقامة حوار مع الحركات الاجتماعية باعتبارها حلّا ًجذرياً مهماً ضد الاستقطاب”. يشعر الكثير من الناس بعدم الاستقرار بسبب الأزمة، التي تُعد أرضاً خصبة للأفكار المناهضة للديمقراطية، والتي تنتشر بشكل ملحوظ على وسائل التواصل الاجتماعي، وفقاً لهوبر.

كما تقترح هوبر إنشاء منصات حوار عبر الإنترنت لبناء أسس حوار منتظم مع المجتمع المدني، فضلاً عن إنشاء مجموعات تتولّى إدارة النقاش. وتنتقد السلطات لتفويت فرصة للقيام بذلك في المرحلة الأولى من الوباء العام الماضي. وبالنسبة لهوبر، قامت الحكومة، وإلى حد كبير، باستشارة الجماعات والمؤسسات السياسية التقليدية، لكنها استبعدت المجموعات ذات الاحتياجات والاهتمامات الخاصة، ولا سيما المعاقين، والأشخاص في دور الرعاية، والأطفال أو اللاجئين.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

اكتب تعليقا

يجب أن تُراعي المُساهمات شروط الاستخدام لدينا إذا كان لديكم أي أسئلة أو ترغبون في اقتراح موضوعات أخرى للنقاش، تفضلوا بالتواصل معنا

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية