مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عُـزوف شعبي عن المشاركة السياسية في الجزائر

لا زالت عناوين الصحف تثير بعض الإهتمام لدى فئة من الجزائريين وخاصة بالتزامن مع أحداث خطيرة (مثل عملية الهجوم على محطة أميناس في يناير 2013 - الصورة)، لكن يبدو أن الأغلبية الساحقة من السكان ليست مهتمة بمتابعة الشأن السياسي العام في البلاد. Keystone

لا يمر يوم دون أن تنشر الصحافة الجزائرية موضوعا يرتبط بالحالة الجزائرية المحيرة، المتمثلة في عزوف شعبي شِبه تام عن المشاركة في الشأن السياسي والتنافس فيه. فلا رئاسة الجمهورية وأحزابها الحليفة، ولا المعارضة بأطيافها الواسعة، قد تمكَّـنتا من حشد التأييد لِما تقترحانه، والسبب - باتِّفاق الجميع - أثَـر فريد من نوعه لِما سُمي بثورات الربيع العربي.

عندما يدلف المرء إلى مقهى الشهاب بحي حسن بادي بالحراش (10 كلم شرق العاصمة)، فسيهاله لعب المرتادين بالدومينو وانتقادهم للوضع الإجتماعي وحديثهم عن غلاء الأسعار، التي عرفت منحى تصاعديا مجنونا، لينبري أحدهم متّهما التضخّم الهائل الذي تعرفه الجزائر، والذي تناقضت بسببه تصريحات الحكومة والمعارضة.

ففيما قالت الحكومة إنه لا يتجاوز الأربعة في المائة، عارضتها أرقام صادرة عن وزارة التجارة، تؤكّد أن التضخّم قد زاد بنِسبة ثلاثين في المائة، وهو ما لم يحدث منذ استقلال الجزائر عن فرنسا في عام 1962 من القرن الماضي.

كما يسترعي اهتمام المُراقب لحديث رُواد “مقهى الشهاب”، بل والعديد من المقاهي المماثلة في الجزائر، خفوت إسم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الألسُن، فلا يذكر إلا لشُكره على منحِ سكن أو لانتقاده وربما لشتمه، بسبب ضياع فرصة عمل أو طرد من المصنع، فيما لم يعد لعلي بن فليس، خصم بوتفليقة اللدود ومؤسس حزب تجمع الحريات، أي ذكر على الألسن، عدا ألسُن مَن ساندوه أو إذا ما ذكرته صحيفة ما بسبب تصريح بثّه أو رأيٍ أدلى به.

وسبق أن قال علي بن فليس لـ swissinfo.ch في حوار غير مسجل: “لم أنشُط في حياتي السياسية منذ أن تركت الحكومة، مثل نشاطي بعد الإنتخابات الرئاسية التي أجريت في شهر أبريل من العام الماضي. فقد جُبت البلاد وتحدثت إلى الكثير من الجزائريين وأبديت مواقِف كثيرة، ولم أتوقّف عن التصريح للصحافة”.

لكن، هل حصل علي بن فليس على اهتمام شعبي يعكِس حجم التحرّكات التي قام بها؟ يردّ المحلل السياسي غمراسة عبد الحمديد في تصريح لـ swissinfo.ch: “لا أعتقد ذلك، لأن الجزائريين – ولو أنهم تابعوا السياسة ورجالها من قريب وراقبوها بشكل جيِّـد – إلا أنهم لا يُريدون الخوْض في صِراع سياسي يلهب البلد أمنيا”. ولكن متى كان الحوار الديمقراطي سببا لاندلاع عنف اجتماعي؟ يُجيب غمراسة عبد الحميد: “أعتقد أن الشعب الجزائري، وبعد فترة التسعينات الدموية، فوجِئ بمدى العنف الحاصل في سوريا والعراق ومصر والجارة ليبيا، والشعب يعرف أن عليه المشاركة في العمل السياسي بشكل أو بآخر، لكنه يخشى من نتيجة يعتبِرها مجهولة، وهذه حالة شعور عام قد يستغربها كثيرون، لأنها عمّت شعبا بأسْره، لكنها واقع الجزائر اليوم”.

احتجاجات.. لكنها اجتماعية

في مقابل هذا العزوف، هناك ما يُقارب من عشرة آلاف احتِجاج شعبي وفردي في الجزائر سنويا، والأسباب في غالبيتها الساحقة، مادية معيشية، وليست سياسية أو مرتبطة بحرية التعبير، إلا ما ندر، لدرجة أن سِجن صحفي أو التعدّي الجسدي على مُعارض سياسي، لا يؤدّي إلى نفس الغضب الشعبي بسبب سوء توزيع السّكنات (المساكن) الإجتماعية أو توفير فرص العمل. ففي الأولى، يهتم أهل المِهنة أو الناشطون في مجال حقوق الإنسان، بالشخصية ذات العلاقة بالإعتداء لا غيْر. أما في حالة السكن والعمل، فيعُم الإهتمام، بل ويحرق البعض نفسه، وقد يشتبِك مع قوات الأمن، ووصل الحدّ في بعض الأحيان إلى احتجاز رُؤساء بلديات ودوائر في مكاتبهم، حتى لُـبِّيَت مطالِب الكثير من المحتجّين، بل وظهر قلق حكومي غير مسبوق من خطر تدهْور الوضع الأمني، بسبب الإحتجاجات الإجتماعية لا السياسية، ويتحرّك رئيس الحكومة ووزراءه والولاة إلى مواقع الإحتجاج شخصيا..

في الأثناء، تم وبشكل غير مسبوق، وبعد رفض طلب لقاء لأحزاب المعارضة، تنظيم يوم دراسي حول الإنتخابات في الجزائر وتجمع ثمانِ قيادات معارضة “من الوزن الثقيل”، في وسط مدينة زرالدة، 30 كالم غرب العاصمة، حول الدوار الرئيسي لمدينة زرالدة ولم يجلب تجمعهم وصراخهم، سوى بعْضا من قوات الأمن لمُراقبة الوضع، وقليلا من الفضوليين، فيما استمرّت حركة سير العباد ووسائل النقل، كأن شيئا لم يحدُث. ولو حدث هذا قبل عام 2010، لاندَلعت اشتباكات وأحداث عنف، إلا أن الفعل السياسي أصبح يُخيف ولا يأتي بالأمل.

لكن، لماذا يُخيف تدهْور الوضع الإجتماعي؟ يقول بن يوسف محمود، وهو مُربٍّ اجتماعي من مدينة البليدة، الواقعة على بُعد 50 كلم غرب العاصمة: “يريد الشعب الجزائري أن يعيش بسلام ورخاء، ولا يريد المزيد من الدِّماء والتناحر الأيديولوجي”. ولكن الدماء تسيل أحيانا، وهناك تناحُر واضح بسبب مسكَن ووظيفة، أليس هذا سببا يؤدّي للخوْف من تطوّر سلبي للوضع بشكلٍ عام؟ يُجيب بن يوسف محمود: “الكرة الآن في مرمى السلطة والمعارضة، إذ عليهما أن لا يستغِلاّ مشاكل الجزائريين الاجتماعية والشعب الذي يبدو أنه لا يأبَه لهُما أصلا، لكن الأوضاع قد تتفاقم، إذا لم يتم التحكّم في غلاء الأسعار والتضخّم، التي طالت حتى التَّمْر، هل تُصدِّق يا أخي أن الجزائر مِن أهم البلدان المُنتجة للتمور في العالم، لم يعُد التمر فيها من مكوِّنات طعام الفقراء، بل صار فاكِهة يتلذّذ بها الأغنياء، بسبب الإرتفاع الهائل في أسعارها وسطوة المحتكرين وبائعي الجملة المتنفذين”.

هناك تقدّم إلى الأمام وأثر إيجابي للربيع العربي بشكل عام، فلم يعد هناك تغوُّل للجِهاز التنفيذي على المواطنين، وهناك حرية حديث أكبر من السابق عبد القادر البرهومي، مدير إذاعة باتنة السابق

الربيع العربي “أثّـــر” في الجزائريين…

في السياق، يبدو أن لويزة حنون، زعيمة حزب العمّال قد شعُرت بالخطر الذي يتهدّد المشهد السياسي الرّاكد، فهي تُدرك كما يُدرك الجميع، أن العزوف الشعبي عن السياسة وأهلها وصانعيها، خطير على مستقبل البلاد، بسبب الفراغ الذي تُـرك لمَن تصِفهم بأصحاب المال، الذين “استغلّوا عدم وضوح المشهد كي يفرضوا رُؤيتهم على برنامج الحكومة وعملها”، على حدّ تأكيدها.

ومن جهته، يرى مدير إذاعة باتنة السابق عبد القادر البرهومي، أن الربيع العربي قد أثَّـر يقينا في الجزائريين وحَـوَّلهم إلى سلبيِّين، رغم طبيعتهم المِقدامة. ويضيف البرهومي لـ swissinfo.ch: “إن حوار الطرشان السائد في مصر وسوريا، ما بين علويِّين وسُنة، وعسكر وإخوان، وحوار الطرشان في العراق ما بين سُنة وشيعة وأكراد، قد أخاف الجزائريين من تحوُّل حِوار الطرشان ما بين السياسيين، إلى عُنفٍ لا تُحمَد عُقباه”.

ويضيف البرهومي: “في المقابل، هناك تقدّم إلى الأمام وأثر إيجابي للربيع العربي بشكل عام، فلم يعد هناك تغوُّل للجِهاز التنفيذي على المواطنين، وهناك حرية حديث أكبر من السابق، ولكن إذا أردنا أن ينتبِه الشعب إلى السياسيين، فلابد أن يتوفّر أهل المعارضة والسلطة على شخصيات جامِعة وخطاب سياسي جامِع، يقترح أكثر ممّا ينتقِد، لأن النَّقد سهْل وسوءات الوضع يعرفها الجميع، والجميع يريد حلولا سريعة وجدية”.

وبعد أربع سنوات من اندِلاع أولى شرارات الربيع العربي في تونس المجاورة، اتّضح بشكلٍ لا لُبس فيه، أن الشعوب العربية كما نظيرتها الأوروبية، تتأثَّـر ببعضها بعضا، وتتعلم من بعضها بعضا، كما تبيَّن أن آثار العُنف قد تكون عُنفا وقد تكون هدوءً، بل ويبدو أن ما يحدُث في الجزائر والبلاد العربية الآن، سيكون محلّ دراسة وبحث اجتماعي أدقّ و أعمَق، بسبب المُتغيِّرات الهائلة والمتباينة، التي تسبَّبت فيها أحداث كان من المفروض أن تؤدّي إلى نفس النتيجة…

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية