مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

النقاش حول تـقـنـيـن الرعاية الصحية يُـطـلّ برأسه مجددا في سويسرا

هل هناك حد أقصى للحصول على العلاج؟ وكيف يمكن الوصول إلى معايير متفق عليها بين جميع الأطراف المعنية؟ أسئلة مطروحة بشدة اليوم في سويسرا. Keystone

مع ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية، وقلّة عدد الموظفين المؤهلين في الميدان الطبي، وهما أمران لا يُتوقّع أن يشهدا تحسنا قريبا، بدأ التساؤل في سويسرا عما إذا كان ينبغي اللجوء إلى تقنين عمليات إسناد الخدمات العلاجية للمرضى.

وقد يشكل نشر دراستيْن حول هذا الموضوع في وقت وجيز منطلقا للنقاش بشأن وضع معايير لتمكين الناس من الوصول إلى الخدمات العلاجية، استنادا إلى عاملي التكلفة والفائدة. ويواجه نظام الرعاية الصحية في سويسرا تحدييْن كبيريْن: الأوّل، ازدياد التكاليف بإضطراد حيث يحتاج حاليا حوالي ثلث عدد سكان سويسرا إلى مساعدات مالية لتسديد فواتين التأمين الصحي. وثانيا، قلّة عدد الموظّفين المدرّبين والمؤهلين في المجال الصحي. وتشير الإحصاءات الحالية إلى أن 22.1 طبيبا جديدا ينضافون سنويا إلى كل 1000 طبيب مباشر، ولكن للحفاظ على مستويات التوظيف الحالية لابد أن يرتفع هذا العدد بما يزيد عن 50%.

هذان العاملان من شانهما أن يشجعا النزوع إلى شكل من أشكال التقييد في الإستفادة من الخدمات الصحية. ولئن كان بعض الأطباء مستعدين لطرح الفكرة ومناقشتها، فإنهم يعترفون أن هذا “الترشيد” في تقديم الرعاية الصحية يمارس عمليا في الواقع بسبب النقص في الكادر الطبي.

كذلك يجد الأطباء أنفسهم  مُجبرين كل مرة على اتخاذ قرار بخصوص ما إذا كان بامكان المريض الإستفادة من العلاج، وبشأن ما إذا كانت الفائدة الحاصلة منه تعادل تكلفته، إلا أنهم يفتقدون – في الوقت نفسه – إلى مبادئ توجيهية واضحة في هذا المجال. ويبدو أن هذه الحالة “غير مُرضية”، وفقا لدانيال شايدغر، رئيس قسم التخدير بالمستشفى الجامعي ببازل (شمال).

وفي حديث إلى الإذاعة العمومية السويسرية، قال شايدغر: “بالنسبة لي هذه مشكلة اجتماعية وسياسية، ولا أؤمن بترك هذا القرار بأيدي عدد قليل من الأطباء. نحن، كمجتمع، مدعُــوّون إلى مناقشة هذا الموضوع”. وإلى حد الآن، يخشى رجال السياسة في الكنفدرالية من السير في ما يبدو وكأنه حقل ألغام. وفي الفترة الأخيرة، أي في عام 2010، أعربت الحكومة الفدرالية عن معارضتها لهذه الفكرة.

ومع ذلك أعاد حكم أصدرته المحكمة الفدرالية (أعلى هيئة قضائية في سويسرا) بداية عام 2012 يقضي بأن “العلاج الذي يُكلّف 600.000 فرنك في السنة يُعدّ علاجا مفرط التكاليف، وأن أي علاج لا يجب أن تتجاوز تكلفته السنوية 100.000 فرنك”، مسألة تقنين الرعاية الصحية إلى واجهة الأحداث والجدل.

هذا القرار تعرض لعدة انتقادات كما وُصف بأنه “تعسفي”، نظرا لأنه يضبط الحد الأقصى للكلفة بالنسبة لمعاناة شخص ما، لكن هذا الحكم القضائي أجبر خبراء الرعاية الصحية على النظر مليّا في أفضل السبل الكفيلة بإجراء تقييم موضوعي لفوائد العلاج.

تحديد عتبات القيمة

الخطوة الأولى تم إحرازها فعليا من خلال تقديم دراستيْن مؤخرا في العاصمة السويسرية برن من قبل الأكاديمية السويسرية للعلوم والفنون، والرابطة السويسرية لشركات الأدوية، وتركزا على النظر في المعايير المحتملة لتقييم تلك الفوائد.

الدراسة الأولى التي أشرف على إنجازها باحثون بجامعتيْ بازل وزيورخ تركزت حول ما يُطلق عليه “QALYs” أو جودة معدّل الحياة بحسب السنوات، واستخداماتها في النظم الطبية الأخرى. أما دراسة VIPS، والتي أشرفت على إنجازها مؤسسة Infras للبحوث التابعة لإحدى الشركات، فقد انصبت على استخدام نظام عتبات القيمة.

وبشيء من التبسيط، يفترض نظام QALYs أن سنة واحدة من الوضع الصحي الجيّد تُوازي نقطة واحدة في سلم القيم، وأن أيّ مشكل صحي يدفع هذه القيمة إلى التدحرج إلى أقلّ من واحد. كما يمكن أن يؤدي هذا النظام على سبيل المثال إلى (اتخاذ قرار بـ) رفض العلاج حتى لو افترضنا أنه يؤدي إلى زيادة معدّل العمر المتوقع، وذلك لأن نوعية الحياة تعتبر منخفضة.

ومن مزايا هذا النظام، أنه يأخذ بعين الإعتبار القيم الإجتماعية، لكن في مقابل ذلك، فإن هذه العناصر غير موضوعية إلى حـد ما. ولابد من النظر في ما تمثله، وكيف يمكن قياسها من طرف كل المعنيين للوصول إلى توافق في الآراء، بحسب المشرفين على هذه الدراسة.

نظام QALYs هذا هو أيضا نتيجة عمليات رياضية والتي تعني أن بيانات مختلفة يمكن أن تؤدي إلى نتائج متطابقة. وتستند عتبات القيمة إلى عُنصريْ المعادلة: تكلفة العلاجات وجدواها بالنسبة للمرضى، ولهذا أيضا علاقة كبيرة بمفهوم التقنين.

نظام تمييزي؟

وفي الوقت الذي تُستخدم فيه العوامل الإقتصادية كمعيار في بعض البلدان التي يتم فيها تمويل الرعاية الصحية الأساسية عن طريق الضرائب، فإن الدراسة التي أنجزتها الشركة الصيدلانية توضّح أنه لا يمكن لهذه العوامل وحدها أن تكون الأساس في تحديد مبادئ توجيهية عادلة.

في الأثناء، يحذر البعض من أن الخطر في هذه الحالة هو أن تتعرض بعض الفئات من المرضى (مثل كبار السن، أو المصابين بأمراض نادرة، أو أصحاب الإحتياجات الخاصة) إلى التمييز، وهو ما يتناقض تماما مع المطالبة في كثير من الأحيان بحصول جميع السكان على الرعاية الصحية من دون استثناء.

وفي هذا السياق، يشير شايدغر إلى غياب الوضوح فيمن يجب أن يتلقى العلاج، وفيمن من لا يحق له: فالشخص المسن الذي يمكن أن يؤدي العلاج إلى إنقاذ حياته أو تحسينها بشكل ملحوظ لديه فرصة أفضل من حالة شاب يمكن للعلاج في أقصى الحالات أن يُساعد على تأجيل وفاته لبعض الوقت.

من جهة أخرى، توصّل واضعو الدراستيْن إلى خلاصة مفادها أنه لا يوجد أي نظام جاهز يمكن تطبيقه في ميدان الرعاية الصحية في سويسرا، وأن قرار المحكمة الفدرالية لم يستند إلى حقائق علمية أو إلى فوائد قابلة للقياس. ومع ذلك، يمكن تطبيق نظام عتبات القيمة أو QALYs إذا ما تم تكييفه بحسب الواقع السويسري، بما في ذلك طرح الموضوع في مناقشات عامة ومفتوحة لجميع مكونات المجتمع للتوصل إلى ما هو مقبول، وما هو غير مقبول سواء تعلق الأمر بالعلاجات أو بالمعايير الإجتماعية والأخلاقية في ميدان الرعاية الصحية، التي لم يأخذ بها القرار الصادر عن المحكمة الفدرالية.

الحاجة إلى إطلاق حوار

بالرغم من أن إطلاق نقاش عام في سويسرا حول تقنين الرعاية الصحية لا زال بعيدا بعض الشيء حسبما يبدو، فإنه لا مفرّ من ذلك على المدى البعيد. وفي هذا الصدد، يقول طوماس زيلتنر: “يكفي أن تنطق كلمة “تقنين”، حتى تنطلق ردود الأفعال العاطفية القوية من عقالها”.

ويضيف زيلتنر: “قبل أن نتمكن من الحديث بأريحية في هذا الموضوع، علينا استكشاف كل السبل لتحسين أداء خدمات مؤسساتنا الصحية. ولا يزال هناك إمكانية لتحسين الأداء في هذا المجال”. أما بالنسبة لرولف إيتن من مؤسسة Infras البحثية فلا بد من إثبات الحاجة إلى تقنين عملية إسناد العلاجات، ولابد من توفير البيانات والمعطيات لشريحة كبيرة من المجتمع لضمان تأثير تدخل المجتمع في مناقشة هذه القضية.

وبالنسبة لماثياس شفانكلينكس، الخبير في الجوانب الإقتصادية المرتبطة بالمجال الصحي بكل من جامعة بازل وزيورخ، الذي أشرف على دراسة الأكاديمية السويسرية للفنون والعلوم، الخطوة الأولى في هذا المسعى يجب أن تكون إيجاد نظام تقييمي للتقنيات الصحية.

ويتمثل دور هذا النظام في تقييم العلاجات على أساس فائدتها وتكلفتها مع مُراعاة الجوانب الأخلاقية والإجتماعية والقانونية. ويجب أن يكون هذا النظام كذلك مستندا إلى معايير يوافق عليها المواطنون السويسريون وتحترم اختيارات أصحاب شركات التأمين وتضمن الرعاية الصحية الشاملة للجميع.

ومن الناحية العملية، قطعت الحكومة السويسرية خطوات نحو إنشاء وكالة لضبط معايير موضوعية تنظم مجال الرعاية الصحية. وفيما يُنتظر أن تظهر مقترحات ملموسة في الأسابيع المقبلة، يُنبّه زيلتنر إلى أن النتائج لن تتحقق بسرعة، وتابع قائلا: “لن تكون النقاشات ذات طابع تقني فقط، بل على درجة كبيرة من الأهمية السياسية، ولن يكون هناك أي معهد للجودة أو لسلامة المريض قبل عام 2017 على أقرب تقدير”.

كان الدافع لإنجاز دراسة QALYs الزيادة المضطردة لتكاليف الرعاية الصحية، ومحدودية الكادر الطبي.

في عام 2009، انفقت سويسرا على الخدمات الصحية 11.4% من إجمالي ناتجها المحلي، وهي نسبة تتجاوز معدل 9.6% في بلدان المنظمة الاقتصادية للتعاون والتنمية.

وفقا لأرقام أخرى تمت مقارنتها، نجد أن سويسرا تبقى أدنى بكثير من بقية بلدان تلك المنظمة في تدريب وتهيئة الكادر الطبي، وعلى سبيل المثال نجحت النمسا، البلد المجاور لسويسرا في تدريب ما يقابل مرتيْن ونصف عدد الاطباء الذين يتخرجون في سويسرا سنويا.

على راس هذه الإنشغالات، نجد المخاوف من شيخوخة السكان، والعدد المتزايد من الاشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة، وعدد اقل من الأطباء في المناطق الريفية، وترابط الخدمات التي تقدمها المستشفيات.

جاءت الدراسة التي انجزتها مؤسسة Infras للبحوث بشان تقنين مجال العلاجات في شكل رد فعل على الحكم الذي اصدرته المحكمة الفدرالية القاضي بوضع حد اقصى لتكلفة العلاج الممكن والعلاج غير الممكن.

وظلت الحكومة تبحث عن حل أمثل لخفض التكاليف عن طريق تشديد الرقابة على شركات التأمين وكذلك شركات الأدوية، وجعل المرضى يتحملون عبء اكبر من التكلفة المالية لعلاجاتهم.

يستخلص تقرير التنمية البشرية لعام 2009 مؤشرات الصحة والنظام الصحي من البيانات التي تنشرها وكالات الأمم المتحدة في المقام الأوّل، إلا أن دقة هذه البينات تحوم حولها شكوك في بعض الأحيان.

على الرغم من ذلك، ينبغي الإقرار بأن المنطقة العربية قد شهدت تحسنا كبيرا في المجال الصحي خلال العقود الاخيرة، ففي الفترة الممتدة بين ستينات القرن المنصرم وحتى مطلع الألفية الجديدة، تفوقت المنطقة العربية على مختلف البلدان الأخرى في مجال تأخير الوفاة وإطالة العمر.

يمكن ملاحظة ذلك في زيادة 23 سنة على العمر المتوقع عند الولادة، وانقاص معدل وفيات الأطفال من 152 إلى 39 وفاة من كل 1000 ولادة حية.

ومع ان حصيلة المؤشرات الكلية ايجابية، فإن التحديات مازالت قائمة، ومازال في وسع هذه البلدان أن تحسّن التغطية الصحية للمواطنين بما يتناسب والثروات الطائلة المتوفرة لديها.

من أبرز التحديات المطروحة الآن: تعديل التباين الملحوظ بين مختلف البلدان العربية، والتصدي لأوجه الغبن الموجودة في داخلها.

(المصدر: تقرير التنمية الإنسانية العربي لعامة 2009)

(نقله من الإنجليزية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية