مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الثقافة وتحولات الفترات الإنتقالية.. قراءة سويسرية

بعد ثورة 25 يناير 2011، انتشرت في مصر أنماط ثقافية وتعبيرية فنية جديدة من بينها موسيقى "المهرجانات" ذات الوتيرة السريعة والإيقاع الشبابي. في الصورة، "دي جي سادات"، أحد رموز هذه الموجة يُغني خلال حفل زفاف أقيم يوم 5 مارس 2015 بمدينة السلام بضواحي القاهرة. swissinfo.ch

في إطار حرصها على إعادة النظر فى مشروعات التبادل الثقافي التى تدعمها سويسرا فى مصر، فى ضوء التحولات والمتغيرات الجديدة، التي أحدثتها ثورة 25 يناير 2011؛ نظمت المؤسسة الثقافية السويسرية “بروهيلفتسيا”رابط خارجي القاهرة، ندوة ثقافية، يومي الأربعاء والخميس 11 و12 مارس الجاري، بمكتبة القاهرة الكبرى، بالزمالك، لمناقشة كتاب “الثقافة أثناء الفترات الإنتقالية: مصر بعد ثورة 25 يناير”.

الكتاب الذي يتناول المشهد الثقافي الحالي بمصر، ومنذ الثورة، هو إنتاجٌ مشترك، بين “بروهيلفتسيا” القاهرة، ومركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرامرابط خارجي، ويتضمن عشر مقالات، وحوارًا واحدًا، فضلاً عن مقدمة، وشارك في إنتاج موضوعاته، كاتبان سويسريَّان، وآخران بولنديَّان، إضافة إلى سبعة كُتَّاب مصريين. وفيما حضر الندوة بعضُ مؤلفي الكتاب، ونخبةٌ من المثقفين، لم يتمكن من الحضور أيٌ من المشاركين السويسرييّن والبولندييّن.

وفي مقدمة الكتاب، أوضحت الدكتورة هبة شريف، المديرة الإقليمية لـ”بروهيلفتسيا” بالقاهرة، أن هناك تحولات ثقافية جذرية طرأت على المجتمع المصرى منذ ثورة 25 يناير 2011، إذ أن الثورة “فرضت واقعا على جميع قطاعات المجتمع المصرى، من بينها المجال الثقافي”.

معلومات أساسية عن الكتاب والندوة

تضمن الكتاب عشر مقالات، وحوارًا واحدًا، فضلاً عن مقدمة تمهيدية كتبتها الدكتورة هبة شريف، المديرة الإقليمية لـ”بروهيلفتسيا” بالقاهرة، وشارك فيه إنتاج موضوعاته: كاتبان سويسريَّان، وآخران بولنديَّان، إضافة إلى سبعة كُتَّاب مصريين، من المهتمين بالملف الثقافي. وتولى تحريره مجدي صبحي، الخبير الإقتصادي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.

ناقش الكتاب، من خلال موضوعاته، المشهد الثقافي الحالي في مصر، ومنذ ثورة 25 يناير 2011، بالمفهوم الأوسع للثقافة، في محاولة للتعرف على ملامحه، مع النظر للثقافة بإطارها العام الذي يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع.
تناولت المقالات، وضع الصناعات الثقافية التراثية المصرية، وطرحت أسئلة مثل الحداثة في المجتمع، والثقافة المصرية، والسينما المصرية، وأسئلة أخرى تتعلق بالواقع الثقافي المصري والتحول الذى شهده مع الثورة.

حاول الكتاب فهم السياق الثقافي لثلاث تجارب أساسية، هي المصرية، والبولندية، والسويسرية، بهدف التعرف على نماذج من التجارب الثقافية المختلفة، والاستفادة منها فى تطوير المشهد الثقافي المصري بعد ثورة 25 يناير 2011.

عرض للتجربة السويسرية في إدارة القطاع الثقافي، وكيفية توزيع الدعم الذى تقدمه الدولة للمنتجات الثقافية والفاعلين الثقافيين فى دولة ديمقراطية، واستراتيجياتها مثل: اللامركزية فى توزيع الميزانية المخصصة للثقافة، والتشريعات المكملة للدستور الخاصة بالثقافة والتى تحمى المبدعين، والشفافية، وانتخاب لجان مستقلة، وحماية ثقافة الأقليات.

كما عرض الكتاب أيضًا، تجربة بولندا في تحويل وإدارة المشهد الثقافي، أثناء التحول الديمقراطي الذي حدث هناك، بعد ربيع أوروبا الشرقية، وحرص الكتاب على ألا يفرض نموذجًا بعينه، وإنما اكتفى بمناقشة المشهد الثقافي في هذه الدول، من أجل الوصول إلى رؤية ثاقبة، وفهم واعٍ، لكل سياق ثقافي.

ساهم الجانب السويسري بموضوعين، أولهما: مقال بعنوان: “الثقافة فى أوقات التحول”، كتبه “بيوس كنوزيل”، الرئيس السابق للمؤسسة الثقافية السويسرية “بروهيلفتسيا”. أما الموضوع السويسري الثاني، فهو حوار أجرته منحة البطراوي، مع الحقوقي والصحفي السويسري، “أندريا راشيه”، حول السياسات الثقافية في سويسرا، وقد نُشر تحت عنوان: “لا ثقافة بدون تعليم”.

مقالٌ وحوار.. غاب صاحباهما!

ساهم الجانبُ السويسري في الكتاب بموضوعين، تولت عرضهما، الدكتورة هبة شريف، أستاذة الأدب المقارن بجامعة القاهرة، والمديرة الإقليمية لـ”بروهيلفتسيا” القاهرة، فيما قامت بالتعليق عليهما الدكتورة نادية أبو غازي، أستاذة العلوم السياسية، بجامعة القاهرة. أولهما: مقال بعنوان: “الثقافة فى أوقات التحول”، كتبه المحاضر والرئيس السابق لـ”بروهيلفتسيا”، “بيوس كنوزيل”، الباحث في السياسات الثقافية والتمويل الثقافي، والناشر المستقل، والذي يعمل حاليًا مديرًا لمؤسسة التعليم المفتوح للكبار.

أما الموضوع الثاني، والذي نُشر بالكتاب تحت عنوان: “لا ثقافة بدون تعليم”، فهو عبارة عن حوار حول السياسات الثقافية في سويسرا، أجرته الممثلة والصحفية المصرية، منحة البطراوي، المهتمة بالمسرح، مع الحقوقي والصحفي السويسري، “أندريا راشيه”، الحاصل على الدكتوراة في الحقوق، عن حقوق الملكية الفكرية في الإخراج المسرحي، وصاحب العديد من الإصدارات عن الملكية الفكرية، والتشريعات الثقافية.

الفن أحد أعمدة الثقافة

في البداية؛ تحدث ” بيوس كنوزيل” عن “متاهة المفاهيم في تحديد معنى الثقافة، وهل بها الفن أم السياسة أم الآدب، فأكد على دور التعليم فى تشكيل الوعي، وأن هناك سياسات ثقافية مختلفة لكل ثورة بالعالم، وتناول النخب وكيفية تشكيلها، والدور الذي تلعبه، فضلاً عن التحديات التي تواجه السياسة الثقافية؛ والتي يقع عليها عبء التوتر بين التطلعات الثقافية المعيارية للنخبة، والتنوع المتنامي لنماذج الحياة الثقافية، أو التباين الإجتماعي.

ثم تحدث عن دور الفن؛ من حيث كونه أحد أعمدة الثقافة، وكوسيلة للتمايز الإجتماعي وتحديث النخب، وأوضح أن من يمول الفن يجعله في خدمة مفهومه الإجتماعي الخاص، وأن الثقافة الجماهيرية لها القدرة الإجتماعية على التغيير بالمعنى الحديث، وطرح عددًا من الأسئلة، التي أجاب عنها؛ مثل: هل يحتاج الفن إلى مساندة الدولة؟ وهل الفن قادر على تغيير المجتمع؟ وهل يمكن للفن أن يكون ناقداً للنظام الحاكم؟ وهل لا يزال الفن بحاجة للدعم الحكومى؟.

“كنوزيل” اختتم مقاله، بالإشارة إلى البديهيات الأكثر أهمية، التى يرتكز عليها النظام السويسري، وتشمل الفدرالية الإدارية، والبعد عن السياسة، والتداول، والثقة؛ وفيما اعتبر أن النظام السويسري “ناجح بوجهٍ عام”، ذكّر بأن العلاقة بين الفن والثقافة والرأي العام “حية ومتجددة باستمرار”.

“لا ثقافة بدون تعليم”

أما “أندريا راشيه”؛ فعقد مقارنة بين أوضاع سويسرا فى القرن التاسع عشر، وأحوال مصر فى القرن الواحد والعشرين، ثم طرح مجموعة من الأسئلة حول المشهد التاريخى لسويسرا، وعن الحرب التى قامت فيها، والأسباب التى أدت إلى إيقاف تلك الحرب، وتعرض بالحديث إلى السياسة الثقافية في سويسرا، وعلاقة التعليم بالثقافة، والتعددية الثقافية.

بعدها انتقل إلى إشكالية الأقليات، وموقعهم من الثقافة، وأجاب على بعض التساؤلات، منها سؤال عن الدعم الذى تقدمه المؤسسة الثقافية بسويسرا، ومعايير تقديمه، وعرض لكيفية إدارة المؤسسات الثقافية السويسرية، موضحا أنها تقوم على اللامركزية، فتعطي لكل مقاطعة حرية التنوع الثقافي، كما تهتم بالشباب، مشيرًا إلى القوانين التي تحمي الإنتاج الفنى والمبدع بالأساس.

وقد مَثَّل الحوارُ عرضًا لتجربة ناجحة يمكن الإستفادة منها، فضلاً عن توضيحه لمدى إدراك الدول المتقدمة للدور الذي تلعبه الثقافة في حياة الفرد، وكيف أن الثقافة يمكن أن تُستخدم كوسيلة لفرض معتقد سياسي، على نحو ما فعلت ألمانيا النازية، وعلى نحو ما تسعى جماعات العنف اليوم لتوظيف التراث لفرض معتقدات معينة.

غلاف الكتاب الذي اشتركت مؤسسة “بروهيلفيتسيا” القاهرة ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية في إعداده ونشره. swissinfo.ch

الديمقراطية والسياسة الثقافية

من جانبها؛ أوضحت “أبو غازي”، أن النموذج السويسري في الثقافة نشأ عبر آليات ديمقراطية، وظل ينمو منذ نشأة الكنفدرالية السويسرية الحديثة في عام 1848 وحتى اليوم، وقد وجدت علامات فارقة، تمثلت فى قوانين منظمة للعمل الثقافي، أو ممارسات، أو تأسيس منظمات رسمية وأهلية، للنشاط الثقافى؛ مشيرة إلى أن النظام السويسري يرتكز على: التنوع الثقافي، والديمقراطية.

وقالت “أبو غازي”، لـ”swissinfo.ch”: بدون الديمقراطية لا يمكن تشكيل سياسة ثقافية، تضمن وجود أنواع عديدة من الفن، يعبر عنها ويبتكرها فنانون ومثقفون، ينتمون إلى أجناس وهويات وخلفيات ثقافية متنوعة، لا يفصل بينها اعتبارات أيديولوجية أو عرقية، وإنما فقط مستواها الفني وأصالتها”، رافضة النظر إلى سوق التجارة العالمية على أنه مقياس لجودة هذه الصناعات الثقافية.

وأضافت أن “احترام الأقلية وحمايتها، لعب دورًا مهمًا فى استقرار سويسرا وتطورها، وبفضل أحد بنود دستورها، والخاص بحرية العقيدة واحترام جميع الأديان، هدأت الأمور التى كانت مشتعلة في سويسرا، بسبب الحرب الدينية عام 1848، مشيرة إلى أن الخيار كان بين الإستمرار فى الحرب أو التوقف عنها، مع احترام الآخر، لإيجاد حالة من التوازن تسمح بالعيش معًا في أمن وأمان”.

الدولة اللامركزية والتنوع الثقافي

“أبو غازي” شرحت أيضا إن السياسة الثقافية في سويسرا وُلدت من رحم سياسة التربية والتعليم، ووضعت الدولة الاتحادية نظاما يجعل الكونتونات الأكثر ثراء تدفع، ليس لمساحتها الجغرافية فحسب، بل لحماية موروث سويسرا بالكامل، وهو ما أكد على تماسك والتحام الدولة، وخلق التوازن بين أطرافها، وحماية اللغات المتعددة حتى الأقل انتشارًا مثل الرومانش (لا يتحدث بها أكثر من 40 ألف شخص – التحرير)؛ موضحة أن النظام السويسري لدعم الثقافة “لا يعرف أي توجيهٍ مركزي”.

وعلى الرغم من أن سويسرا تتكون من 26 كانتونًا، إلا أنها دولة صغيرة، احتفظت باستقلاليتها التامة، في كثير من المجالات، وهى تصيغ سياستها الثقافية، الخاصة بما يتناسب مع هذا الوضع، وهو ما يطلق عليه “الفيدرالية الثقافية”؛ معتبرة أن الفكرة الرائدة لمؤسسي الدولة السويسرية كانت “التنوع الثقافي”، وأن الكانتونات هى الضامن الوحيد للحفاظ على التنوع.

وأكدت أن العلاقة بين الفن والثقافة والرأي العام، علاقة حية، تتجدد باستمرار، من خلال تصويت البرلمان والاستفتاء الشعبي، وأن التوجيه السياسي المحدود، وعدم تدخل الدولة في المشهد الثقافي، يُنتِجُ مصداقية عالية فى النظام الثقافي لدى المواطنين، مشيرة إلى أن الوضع في سويسرا يشبه الفسيفساء؛ حيث توجد في سويسرا 40 سياسة ثقافية؛ واحدة للدولة الإتحادية، و26 للكونتونات، و13 تابعة للمدن الأربع عشرة الكبيرة”.

المؤسسات الثقافية والقائمون عليها

 الدكتورة نادية أبو غازي، أستاذة العلوم السياسية، بجامعة القاهرة أكدت أيضا على تبايُن توجهات السياسة الثقافية بسويسرا تبعًا لتحولات الواقع السياسي في البلد، فالثقافة البرجوازية ظلت سائدة لفترة طويلة، كما أن الدولة حتى الآن، لا زالت تُوجّه نسبة كبيرة من الأموال الداعمة للثقافة، إلى مؤسسات نخبوية، كالمتاحف والأوركسترا والأوبرا والمسارح الكلاسيكية؛ ولفتت إلى أن مؤسسة “بروهلفتسيا” تقدم الدعم للمؤسسات والمشروعات والفنانين، مستندة إلى معايير موضوعية، فى مقدمتها الإبتكار والتجديد، التفرد والأصالة، البصمة الذاتية، والشخصية المميزة.

في السياق، لفتت أبوغازي إلى أن التغير الذي حدث في سويسرا، مسّ مضمون الفن، وأشكال التعبير الفني وأساليبه، وأسلوب إدارة العمل الثقافي، وأداء المؤسسات الثقافية، فضلاً عن تركيبة وتكوين المؤسسات الثقافية ونمط القائمين عليها، مع الإهتمام بالشباب والتعليم؛ وأعلنت عن اتفاقها مع راشيه، في مقولته أنه “لا ثقافة بدون تعليم”، مع التأكيد على أهمية التعليم وضرورته، من أجل تنشئة جيل قادر على فهم الإنتاج الفني.

الأستاذة الجامعية نوهت أيضا إلى أن “راشيه” أكد مرة أخرى على أهمية التعليم لإعداد نقاد متخصصين، نحصل عليها منذ التنشئة فى المدرسة، ثم الجامعة، التى تساعد المرء على اكتساب الفكر النقدى، مشيرة إلى أن للمراكز الثقافية “دور أساسي يمكن أن تلعبه فى هذا الصدد، إذ أن المعايير النقدية أهمّ من القوانين الفنية المجردة”، على حد قولها.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية