مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تجارب ميدانية ناجحة واعتراف مُـستحق

swissinfo.ch

من عتمة الأحياء الفقيرة، ومن رُكام الضواحي الباريسية، مسرح العنف والفشل والبُـؤس، بدأ مشوار مهدي المسعدي، الذي بدأ من مرسيليا ليصل إلى سويسرا مرورا بباريس ويقيم الدليل على أن الشبان الأجانب قادرون على الخروج من دوامة الجنوح وجحيم الانحراف.

وعندما عُـيّن مهدي المسعدي خبيرا ومستشارا لشؤون شباب الضواحي، لدى المجلس الأوروبي سنة 2005، علّـق على ذلك قائلا: “إن هذه التسمية تُـثبت أننا لا نُـولد منحرفين، لكن المجتمع هو الذي يضطرنا لذلك”.

تعود بدايات تجربة هذا الرجل، الذي يدخل هذه السنة في العقد الخامس من العمر، إلى الثمانينات حينما فتح عيناه على واقع صعب يعيشه المهاجرون، لم تنفع معه وُعود الساسة المُـتاجرين بقضاياه، ولا حُـلم الآباء في غدٍ أفضل يصنعه جِـيل متعلِّـم.

فقرّر هذا الشاب، ذوي الأصول الجزائرية، وبعض أقرانه أخذ زِمام المبادرة وشاركوا في تنظيم مسيرة وطنية، انطلقت من مرسيليا جنوبا وليون شرقا، ليلتحِـم الجميع في تظاهرة عامة في باريس سنة 1983، رافعين شِـعارا واحدا، مطالبين فيه بالمساواة والعدالة، ومحذّرين من انفجار الأوضاع، ما لم تتدارك الحكومة الفرنسية ما فات.

ويرفض حامل الجنسيتين، الفرنسية والسويسرية، القبول بوضع الضحية. فالأبواب، مهما كانت مُـوصدة، لابدّ أن تنفتح يوما ما، ويفضّل الشخصية العنيدة على المسْـتسلمة، العِـناد الذي يدعو إلى مقارعة الصعاب لا إلى الاستسلام أو الالتجاء إلى الحلول السهلة غير المشروعة.

الاعتراف بالكفاءة

ومن رحِـم هذه المعاناة، نما حبّ خاص لدى المسعدي للثقافة والموسيقى، وأوّل مرة زار فيها سويسرا سنة 1992، كانت بمناسبة مهرجان موسيقى الجاز الذي ينتظم سنويا في مدينة مونترو.

وعن تلك الزيارة، يقول: “حصل لدي انطباع أن سويسرا بلد نظيف ومنظّم وآمن، تمنّـيت لو أنني قضيت طفولتي هنا، وبدا لي في البداية، أن السويسريين لا ينظرون إلى الإنسان من حيث أصله أو جنسه أو لونه، بل إلى كفاءته وماذا بإمكانه أن يقدم للمجتمع”.

لكن الزمن، يستدرك مهدي المسعدي: “كان كفيلا باكتشاف الوجه الآخر لهذا المجتمع، هذه المعاناة المشتركة بين الفئات الفقيرة، وخاصة من الأجانب والشباب، فالوضع في سويسرا لا يختلف عن واقع الضواحي في فرنسا كثيرا”.

وفي موطِـنه الجديد، كان عليه أن يتخطّـى بنجاح ما يعبـّر عنه بلهجة جزائرية “الغُـربة والحُقرة”. “ففي سويسرا، كما في غيرها من البلدان الأوروبية، من الصعب الفوز بثقة الآخرين، وكان عليّ أن أنتظر، إلى أن تلقّـيت يوما مكالمة هاتفية، كانت بمثابة المفتاح الذي سمح لي بالولوج إلى المستقبل”.

بداية المشوار كانت عملا ميدانيا ومواجهة يومية مباشرة مع الشباب المُـنحرف في المدن السويسرية الناطقة بالفرنسية، وبسرعة، بلغ صدى النجاح الذي حقّـقه هذا المُـربي، آذان المشتغلين في ميدان الشباب وأصبح الذي كان مُـنذ عهد قريب يبحث عن الاعتراف، خبيرا مستشارا ومدرّبا مؤهلا لإلقاء المحاضرات في الجامعات والمدارس العليا للشرطة وأمام الأطباء النفسانيين.

وحيثما عجزت آلة الدولة عن التعامل مع وضع اجتماعي صعب، كان التوجّـه إلى مهدي المسعدي في المدارس وفي دور السينما وفي وسائل النقل، وعلى مستوى الجماعات المحلية في العديد من الكانتونات.

تجارب ميدانية ثرية

ومن هذه التجارب الناجحة، بعثه لمفهوم “الأشقاء الكبار”، وهو عمل وِقائي يهدِف إلى الحدّ من الأعمال التخريبية، وتقوم به مجموعة من الشباب المدربين تحت إشراف مباشر لهذا المربّـي، ومن ذلك تأطيرهم الحفلات الفنية، التي كانت تُـنظَّـم في العديد من المُـدن في كانتون فو، وكانوا يرافقون الشباب خلال الحفلات، وبعدها للوقاية من أعمال العنف.

وكذلك، إستعان المسؤول بثانوية غروندسون Grandson بكانتون فو بهذا الفريق، على ضبط الطلبة الجانحين خِـلال تنقلهم في الحافلات المدرسية الخاصة، وامتدّت العملية الوقائية طيلة ستِّ سنوات كاملة، ولقد بارك باسكال مايلان، مدير هذه المؤسسة، الجهود التي قام بها المسعدي ورِفاقه، وتمنّـى استمرار التعاون المُـثمر، الذي بدأ منذ سنة 2000.

وبفضل الجهود التي بذلها “الأشقّـاء الكبار”، تراجعت الأعمال التخريبية كذلك على متن قاطرات السِّـكك الحديدية في كانتونات عديدة إلى 30%، وبفضل تلك الجهود أيضا، تقلّـصت خسائر الشركة من 6 مليون فرنك سنة 2004 إلى 3 مليون سنة 2007، وحصل كل ذلك من دون اللجوء إلى العنف أو الإكراه.

وفي رسالة، اطَّـلعت سويس انفو على نسخة منها، هنّـأ بينيديكت فايبل، رئيس مجلس إدارة شركة سكك الحديد مهدي المسعدي بالنتائج الهامة، التي حققها تدخله للوقاية من الأعمال التخريبية.

وتمكّـن هذا المربِّـي والفريق العامل معه، من معالجة وضع صعب مرّت به دار غريتلي للثقافة بجنيف، حيث ولمدة سنة، عجزت الأجهزة المعنية عن ضمان أمن الأنشطة الثقافية بسبب تصرفات شباب متهوّر، وكانت ثلاث أسابيع كافية لإعادة الأمور إلى نِـصابها.

واعترافا بنجاح هذا العمل، وجّـه باتريس موني، عُـمدة مدينة جنيف، رسالة شكر إليه جاء فيها: “لقد كُـلّـل تدخّـلكم الميداني بالنجاح، ولقد أثبت قدرة كبيرة على محاورة الشباب، وتقدمت باقتراحات عملية ومثمرة، وهو ما يجعلنا ممْـتنِّـين لكم على العمل الذي قمتم به”.

العين الناقدة

لا ينكر هذا المربِّـي المتمرس، أن الأوضاع في سويسرا لم تبلغ ما بلغته في بلدان أخرى، إذ لا يزال الوضع تحت السيطرة ولا يزال الشارع آمنا، لكنه يقول: “لا يجب أن نغفل أن الأوضاع الاجتماعية تردّت كثيرا، فاليوم 50% من المستفيدين من المساعدات الاجتماعية من الشباب، ونصف مليون مُـقيم يعدّون ضمن فئة الفقراء و5% من العاملين لا يكفي دخلهم لتغطية احتياجاتهم الحيوية”.

وعن العنف المستشري في العديد من المدن السويسرية، يقول المهدي: “ليس لهذه المشكلة أي أبعاد ثقافية، فهؤلاء الشباب ولِـدوا في سويسرا وتربوا في مدارسها، لكنهم يرفضون أن يلقوا المصير الذي رضي به آباؤهم، إنهم يعبِّـرون بأشكال مختلفة عن رفضهم للحيف الاجتماعي وعدم تكافؤ الفرص بين فئات المجتمع، ويبحثون عما يعطيهم أملا في تحسين أوضاعهم”.

وبالنسبة له، “معاقبة هؤلاء الشباب بالسِّـجن والطرد من البلاد أو طرد عائلاتهم، شكل من أشكال العقاب المضاعف ويخالف مبدأ المساواة أمام القانون”.

ويتساءل لماذا معاقبة العائلة، إذا كانت هذه المؤسسة نفسها في حاجة إلى المساعدة، ولماذا التركيز على فشل العائلة وعدم الالتفات إلى التقصير على مستوى مؤسسات المجتمع الأخرى؟

وبدلا من الخِـطابات السياسية المزايدة والمبادرات الشعبية، التي تريد أن تحقّـق مكاسب سياسية بطُـرق ملتوية، يدعو مهدي المسعدي إلى “معالجة الأسباب الحقيقية لظاهرة العنف، وذلك بتوفير الإمكانات لهؤلاء الشباب للخروج من الأوضاع الصَّـعبة التي يعيشون فيها، وفتح حوار مباشر معهم، ولا يجب الخوف من مُـواجهتهم، وبالطبع، في احترام كامل للقانون، فمَـن ارتكب جُـرما، لابد أن يُـعاقب عليه”.

مؤسسة اجتماعية متكاملة

هذا النجاح الكبير الذي تكلّـلت به أعمال هذا المربّـي، يجعله يتطلع إلى يوم يستطيع فيه إنشاء مؤسسة تربوية واجتماعية متكاملة، تشكِّـل مرجعا للشباب الذي يواجه مصاعب، وللعائلات التي تعاني من مشكلة في التواصل مع أبنائها، إطار يُـيسر الحوار ويحفظ أسرار العائلة ويساعد على ردّ الأمور إلى نصابها.

وبالإضافة إلى ذلك، يتصور محاورنا أن تشمل هذه المؤسسة قسما لعلاج الشباب المدمنين على المخدرات وآخر لإعادة إدماجهم في المجتمع من خلال العمل مع القطاعين، العام والخاص، فضلا عن تقديم أنشطة ثقافية هادِفة، تساعد على توجيه قُـدرات هؤلاء الشباب وجهودهم بشكل إيجابي.

لكن إنجاز مشروع مثل هذا يتطلب قُـدرات بشرية وخِـبرة طويلة ومعرفة واسعة بالواقع وإمكانات مالية هامة، وإذا كان العاملان الأولان متوفران، فإن ما ينقص إلى حدّ الآن، هو التمويل اللازم، ويبدو مهدي المسعدي يائِـسا من الحصول عليه من جهة حكومية.

وُلِـد في فرنسا سنة 1959، حاصل على دبلوم جامعي كوسيط مفاوض من الفدرالية السويسرية لجمعيات الوسطاء.

أب لولدين، ومن أصول جزائرية ولِـد وعاش طفولته في فرنسا، ويُـقيم منذ 14 سنة بكانتون فو بسويسرا.

عُُـيّن مستشارا لدى المجلس الأوروبي لشؤون شباب الضواحي بالبلدان الأوروبية سنة 2005.

مختص، يُـشرف على دورات تدريبية في الوقاية الحضرية لصالح نقابات الشرطة بالمجلس الأوروبي منذ سنة 2005.

مستشار ومحاضر في قضايا الوقاية من الانحراف بالعديد من المؤسسات الجامعية، كجامعة جنيف وجامعة فريبورغ.

محاضر بالمدرسة العليا للشؤون الأمنية بلوزان في قضايا السكان والسلوكيات الاجتماعية.

شارك في تأليف كِـتاب حول قضايا الشباب والانحراف، صدر سنة 2006 عن المجلس الأوروبي.

عضو مؤسس لجمعية الأنشطة الثقافية والشبابية من أجل الاندماج الاجتماعي.

أشرف على العديد من الدورات التدريبية في مدرسة الشرطة بجنيف ومدرسة العلوم الاجتماعية بكانتونات فالي ولوزان وفريبورغ، وبقسم القانون الجنائي بجامعة فريبورغ.

يعمل مستشارا بالعديد من الجماعات المحلية بالكانتونات الناطقة بالفرنسية، كبلدية إيفيردون وغرونسون وفوفي، وفوفري.

مؤسس خدمة “les Grands frères” أو الأشقاء الكبار، العاملة على خطوط السِّـكك الحديدية السويسرية.

حصل على العديد من شهادات التقديرات على الدورات التدريبية والخدمات التي قدمها للعديد من المؤسسات، ومنها شهادة تقدير من شركة سكك الحديد السويسرية، ومن مدينة جنيف ومن محكمة القاصرين بكانتون الفالي، ومن عمدة بلدية فوفري، ومن مدرسة الشرطة بكانتون جنيف، ومن رئيس جامعة جنيف.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية