مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نقابات سويسرا تُطالب بأجـر أدنى يضمن حياة كريمة لجميع العاملين

في سويسرا، يحصل العاملون في المطاعم والفنادق والتجارة التفصيلية وشركات التنظيف عموما على أجور متدنية. Keystone

رغم أوضاعها الإقتصادية الجيدة، لا تسلم سويسرا من الظاهرة المتمثلة في معاناة العديد من الأشخاص من الفقر، رغم أنهم يعملون بوقت كامل. ومن خلال إطلاق مبادرة شعبية جديدة، تسعى النقابات إلى إقرار أجر أدنى يشمل الجميع بدون استثناء.

ومع أن المقترح يُقابل بمعارضة قوية من طرف أرباب العمل، إلا أن خطوات مماثلة بدأت في الإنتشار شيئا فشيئا في كافة أرجاء أوروبا.

في غضون عشريات قليلة، شهدت الفوارق القائمة بين الأجور تصاعدا كبيرا في سويسرا أيضا. فقبل 30 عاما خلت، كانت مداخيل المدراء والمسيرين، لا تزيد في أقصى الحالات عن ثلاثين ضعفا، مقارنة بمؤجريهم في أدنى السلّـم الوظيفي. أما اليوم، فإن مرتبات بعض كبار المسيرين تزيد أحيانا عن ألف ضعف، مقارنة بأدنى الأجور في نفس المؤسسة.

فهل يتعلق الأمر بتوجهات حتمية ناجمة عن التنافس الشديد القائم بين الساحات الإقتصادية الدولية أم برغبة جامحة في تحقيق مزيد من الأرباح؟ هذا النقاش ليس جديدا، بل هو محتدم منذ فترة طويلة. ومن الواضح أن الإستياء يتنامى في صفوف الرأي العام من الأجور والعلاوات المرتفعة جدا، التي تُـحتسب بملايين الفرنكات، في الوقت الذي يعيش فيه عشرات الآلاف من الأشخاص تحت حافة الفقر، رغم ممارستهم لنشاط مهني بوقت كامل.

في هذا السياق، لم يكن مستغربا أن تتمكن ثلاث مبادرات شعبية، ترمي جميعها إلى مكافحة الفوارق الجسيمة في الأجور، من الظفر بثقة قطاع لا بأس به من الجمهور السويسري في غضون سنوات قليلة.

وفيما اقترحت المبادرتان الأوليان (أنظر الفقرة التوضيحية المصاحبة على الشمال)، وضع سقف أعلى لأجور المُدراء والمسيرين، تهدف المبادرة الجديدة التي تحمل عنوان “من أجل حماية أجور عادلة”، وأودعت يوم 16 يناير 2012 لدى المستشارية الفدرالية من طرف اتحاد النقابات السويسرية، إلى الترفيع في الأجور الدنيا. وحسب نص المبادرة، يُـفترض أن يتم تطبيق أجر أدنى موحد في كافة أنحاء سويسرا، لا يقل عن 22 فرنك للساعة الواحدة أو ما يقارب 4000 فرنك في الشهر.

سلاحٌ ناجـع

في السياق نفسه، يوضح دانيال لامبارت، كبير الخبراء الإقتصاديين في اتحاد النقابات السويسرية، أنه “من خلال هذه المبادرة، نريد أن يحصُـل الجميع على مرتب محترم في سويسرا. فاليوم، يتلقى حوالي 10% من الذين يعملون بوقت كامل مرتبا شهريا يقل عن 4000 فرنك، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية ويُضطرون في معظم الأحيان للجوء إلى خدمات المساعدة الاجتماعية”.

ويضيف لامبارت أن “مقترحاتنا تهدف أيضا إلى سد ثغرة مهمة، تتمثل في أن أكثر من نصف العاملين لا يتمتعون بحماية عقود عمل جماعية، وبالتالي، فإن أجورهم غير محمية أيضا”.

على صعيد آخر، يوضح النقابي أن الأجر الأدنى “يُـشكّـل سلاحا ناجعا لمكافحة ظاهرة الإغراق في الأجور، كما يؤدي – وهذا هو الأهم – إلى الحد من تفاقم البطالة. ففي الوقت الحاضر، يُـضطر العديد من العاملين إلى ممارسة وظيفة ثانية، لضمان تلبية حاجياتهم الأساسية”.

حـلّ سيّىء جـدا

على الضفة المقابلة، تعتزم المنظمات الممثلة لأرباب العمل التصدي للأجر الأدنى بكل قوة. وتقول روت ديرير بالادور من اتحاد أرباب العمل السويسريين: “إن تعميم الأجر الأدنى، حل سيّئ جدا، خصوصا وأنه توجد ظروف واحتياجات مختلفة في شتى القطاعات الإقتصادية، إضافة إلى ذلك، لا زالت هناك أيضا فوارق مهمة فيما يتعلق بمستوى الأجور وتكلفة المعيشة في مختلف مناطق البلاد”.

الأعراف السويسريون يتمسكون بالرأي القائل أنه، بالإمكان تحديد أجر أدنى في إطار عقود العمل الجماعية، لكن لا مجال لأن يُـصبح إجباريا من خلال القانون. ومن المبررات الأخرى، أن “أجرا أدنى يهدد باستبعاد أشخاص لدينهم قدرات تشغيلية محدودة عن سوق العمل”، مثلما تقول روت ديرير بالادور.

ولكن، ألا يُـفترض أن يُـتيح الأجر الممنوح للعاملين التمتّـع بحياة كريمة؟ تُـجيب ممثلة اتحاد أرباب العمل “يحتاج الأمر إلى تحديد ما هو المقصود بالحياة الكريمة؟”، وتضيف “في بعض مناطق سويسرا، يُـمكن أن يكفي مبلغ يقل عن 4000 فرنك للتمتع بحياة كريمة، لكن في زيورخ، لا تكفي أحيانا حتى 5000 فرنك. إضافة إلى ذلك، تعتمد النقابات على أنموذج العائلات التي يشتغل فيها شخص واحد، في حين أنها تتوفر في عديد الأحيان على مرتبين”.

توجّـه أوروبي

رغم هذه المبررات، يتعارض موقف أرباب العمل مع توجّـه تشهده معظم البلدان الأوروبية في السنوات الأخيرة، حيث يلاحظ ثورستن شولتن، الباحث في معهد العلوم الإقتصادية والإجتماعية في دوسلدورف بألمانيا أنه “لا يوجد بعدُ أجر أدنى وطني في ألمانيا والنمسا وسويسرا والبلدان الإسكندنافية فقط، لكن عقود العمل الجماعية في البلدان الإسكندنافية تضمن أجرا أدنى لجميع العاملين تقريبا، في حين أنها لا تضمن ذلك في سويسرا وألمانيا، إلا لنصف العاملين”.

على صعيد آخر، أدى إقرار حرية تنقل الأشخاص في الفضاء الأوروبي، إلى تيسير اعتماد الأجور الدنيا. فمن خلال هذا الإجراء، أرادت العديد من البلدان حماية اليد العاملة الوطنية من مخاطر الإغراق على مستوى الأجور. وفي الشهور الأخيرة تحديدا، تتهيأ ألمانيا لإقرار أجر أدنى. ويحظى المقترح بتأييد المستشارة أنجيلا ميركل، التي تنتمي إلى الحزب المسيحي الديمقراطي (وسط يمين).

في هذا السياق، يشير الخبير الألماني في سياسات الأجور إلى أن “مشروع أنجيلا ميركل، لاقى مقاومة، وخاصة داخل حزبها، لكن يبدو الآن واضحا أن الأمور تتجه إلى إقرار أجر أدنى، حتى وإن كان ذلك في صيغة (مخففة). فعلى سبيل المثال، يُـتوقّـع إقرار فوارق بين المناطق الشرقية والغربية من البلاد”.

تساؤلات حول التشغيل

إجمالا، يعتبر ثورستن شولتن أن التجارب التي أجرِيت حتى الآن في البلدان التي اعتُـمد فيها الأجر الأدنى منذ فترة طويلة، مثل فرنسا، إيجابية. ويقول “أعتقد أنه بدون أجر أدنى، فإن الفوارق الإجتماعية والفقر في فرنسا، كانت ستكون أكبر مما هي عليه الآن. مع ذلك، لا زالت العديد من التساؤلات قائمة فيما يتعلق بانعكاسات الأجر الأدنى على التشغيل، إذ تفضّل بعض الشركات تقليص عدد العاملين لديها كي تتجنب تحمّـل تكاليف الأجـر الأدنى والتأمينات الإجتماعية المرتبطة به”.

ويُـذكّـر الباحث الألماني أن العلاقة القائمة بين الأجر الأدنى ونسبة التشغيل، كانت محور دراسات عديدة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، توصلت إلى نتائج متضاربة. ويضيف “حسب رأيي، لا يعتبِـر أغلبية خبراء الإقتصاد الدوليين أن تأثيرات (الأجر الأدنى) على التشغيل سلبية في الوقت الحاضر، شريطة أن يتم تحديد الأجر الأدنى في مستوى مناسب، أي أن لا يكون مرتفعا جدا”.

أودعت المبادرة المعنونة “من أجل حماية أجور عادلة” يوم 16 يناير 2012 من طرف اتحاد النقابات السويسرية، وهي تقترح إقرار أجر أدنى بـ 22 فرنك للساعة الواحدة أو ما يوازي حوالي 4000 فرنك شهريا.

يجب أن تتم ملاءمة الأجر الأدنى دوريا مع نسبة الغلاء، على غرار ما يجري حاليا في مجال التأمينات على الشيخوخة والباقين على قيد الحياة.

إضافة إلى ذلك، يجب على الكنفدرالية والكانتونات أن تعمل على إدراج أجور دنيا متلائمة مع موقع العمل والحرفة والقطاع الاقتصادي في عقود العمل الجماعية (التي يتم التفاوض عليها دوريا بين النقابات وأرباب العمل).

طبقا لمعطيات المكتب الفدرالي للإحصاء، يبلغ عدد العاملين الفقراء في سويسرا حوالي 120000 شخص، أي أهم مضطرون للعيش في ظروف الفقر، رغم ممارستهم لعمل كامل الوقت.

تجدر الإشارة إلى أن كانتون نوشاتيل ينفرد إلى حد الآن بإقدامه على اعتماد أجر أدنى، وكان المقترح قد حظي في شهر نوفمبر 2011 بموافقة أغلبية الناخبين.

في الأعوام القادمة، سيُـدعى الشعب السويسري إلى التعبير عن رأيه بخصوص مبادرتين شعبيتين تهدفان إلى تقليص الفواق في مجال الأجور.

المبادرة المعنونة “ضد المكافآت المبالغ فيها” تم إيداعها في عام 2008 من طرف طوماس ميندر، عضو مجلس الشيوخ الحالي، وهي تطالب بالخصوص بطرح المكافآت النقدية، التي يتحصل عليها المسيرون وأعضاء مجلس الإدارة في الشركات الخفية الاسم، على تصويت الجمعيات العمومية.

تهدف هذه المبادرة أيضا إلى ضمان تسيير مستدام للشركات وإلى حماية مصالح الاقتصاد والمساهمين تجاه “المكافآت المبالغ فيها” المتحصل عليها من طرف بعض مسيري ومدراء الشركات.

مبادرة أخرى تحمل عنوان “1: 12 – من أجل أجور عادلة” أودعت لدى المستشارية الفدرالية في عام 2011 من طرف الشبان الاشتراكيين، وهي تطالب بأن لا يزيد الأجر الأقصى داخل أي مؤسسة أو شركة عن 12 ضعفا مقارنة بالأجر الأدنى.

طبقا لدراسة قامت بها نقابة Travail.Suisse بلغت المكافآت والأجور التي تحصل عليها في عام 2010 بريدي دوغان، المدير التنفيذي لمصرف كريدي سويس 1812 ضعفا عن الأجر الأدنى المدفوع في نفس تلك السنة من طرف المصرف الكبير.

(نقله إلى العربية وعالجه: كمال الضيف)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية