مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

ما هو أنسب مكان لحياة التقاعد.. المهجر أم الوطن ؟

مسن
يعد التقاعد فترة حصاد الإنجازات في فترة الشباب سواء على المستوى الصحي أو المادي أو الاجتماعي والهجرة لها تأثيراتها السلبية والإيجابية على هذه المرحلة الحياتية أيضاً. Keystone / Jens Meyer

الهجرة إلى بلد أجنبي، تتطلب التخطيط للكثير من المراحل الحياتية ولا سيما لمرحلة التقاعد ونهاياتها المحتملة. العديد من المهاجرين العرب يفضلون العودة إلى الجذور والبقاء في أوطانهم بعد وصول سن المعاش. لكن قرار البقاء أو الهجرة في الاتجاه المعاكس يبقى رهيناً لحسابات كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية وحتى سياسية في بلد المنشأ وفي دولة الهجرة. swissinfo.ch تحدثت في حوار صريح مع عدد من المهاجرين العرب في سويسرا وسألتهم عن خططهم و آمالهم ومخاوفهم في مرحلة التقاعد. 

وفق دراسة بحثية صادرة عن المركز السويسري لأبحاث الهجرة والسكانرابط خارجي والتابع لجامعة نوشاتيلرابط خارجي فإن الكثير من المهاجرين، خاصة من طالبي اللجوء، لا يرفضون العودة إلى بلدانهم الأصلية. ومع ذلك، فإن الوضع في وطنهم غالبا ما يمنع مثل هذه العودة. قرار العودة يرتبط وفق القائمين على الدراسة بالعديد من العوامل، خاصة تلك الموجودة في بلد المنشأ: الأوضاع السياسية والاستقرار الاقتصادي والأمن. وعادة ما تقل الرغبة والاستعداد للعودة مع مرور الوقت ولا سيما مع تراجع التواصل تدريجياً في البلد الأم وصب الاهتمام على الحياة في سويسرا وتراجع العلاقات والاتصالات مع الأهل بسبب البعد.

معظم من تحدثت إليهم swissinfo.ch، لم يتخذوا أيضاً قراراً قطعياً بالعودة إلى البلد الأصلي أو البقاء في سويسرا وقرروا التنقل بين البلدين وترك باب المستقبل موارباً، لأن مفاتيح الغيب ليست بيدهم .

جمال المنحدر من تونس والبالغ من العمر 62 عاماً، والمقيم في سويسرا مع أسرته منذ 28 عاماً.. يشرح أسباب التردد في اتخاذ أي قرار بعد بشأن التقاعد بالقول “هناك حسابات كثيرة يعتمد عليها هذا القرار وأولها الوضع الصحي، فالحاجة إلى المتابعة الطبية قد تحتم البقاء في سويسرا. من لا يملك محل إقامة في سويسرا، فلا يمكنه التمتع بالتأمين الصحي. بعض المهاجرين يسجلون محل إقامتهم مع أبنائهم ويعيشون في البلد الأم ويأتون للعلاج من فترة لأخرى”. يعيش جمال مع زوجته وأبنائه، الذين نشأوا وتعلموا وبدأوا حياتهم المهنية بالفعل في سويسرا وارتباط أبنائه بهذا البلد يلعب بلا شك دوراً في قراره بالإبقاء على كل الأبواب مواربة، كما يقول. 

استقرار الأوضاع السياسية عامل مهم

عموماً، تجعل الأوضاع السياسية المستقرة في تونس العودة أو التنقل بين البلدين خياراً ممكناً لأبناء الجالية التونسية، ممن استقروا في سويسرا منذ عقود وطوروا علاقات اجتماعية قوية، لكن الحنين إلى الوطن ما يزال يداعب مخيلتهم وأحلامهم.

محمود عز الدين تونسي مزدوج الجنسية، لكن رغم طول بقائه هنا فإنه مصمم على العودة إلى الجذور في سن التقاعد ” رغم أنى مواطن سويسري وأبنائي مستقرون ومتزوجون هنا، إلا أن لدي رغبة شخصية في قضاء بقية عمري في مدينتي أو على أقل قضاء أكثر وقت في مدينتي بين أهلي و أحبابي في قابس  في تونس. لا أستطيع النسيان والتخلي على إخوتي و أصهاري في تونس بعد وفاة الوالد و الوالدة. و أنا في الغربة لا أريد أن افقد المزيد من أفراد عائلتي دون معايشة المأتم ومشاركتهم الحزن و الأفراح”.

“هذا أصعب سؤال تطرحوه. إذا في شي يقض مضجعنا بها البلاد..فهو الموت والدفن”  محمد ريان 

قرار زيارة الوطن الأم في سن التقاعد والإبقاء على موطئ قدم في سويسرا، يميل إليه غالبية المستطلعة آراءهم في سياق هذا المقال. لا توجد أرقام رسمية حول ظاهرة الهجرة العكسية لأبناء الجالية العربية في سن التقاعد.  أمانة الدولة للهجرة أوضحت لـ swissinfo.ch أنه لا يوجد حتى الآن أي إحصائيات رسمية حول كبار السن من أبناء الجالية العربية خصوصاً، لكن الأبحاث المتوفرة حول المهاجرين عموماً تشير إلى أن  النظام الصحي كان العامل الذي دفع كبار السن إلى اتخاذ قرار البقاء في البلاد.   

كما أن بقاء الأبناء والأسرة في سويسرا سببًا أساسيًا يحول دون العودة الكلية. في الوقت نفسه، يبدو أن الآباء والأمهات يلعيون دوراً هاما في تردد الأبناء على البلد الأم،  حيث أظهرت دراسةرابط خارجي علمية أن الزيارات إلى بلد المنشأ تنخفض عادة بشكل ملحوظ  بعد وفاة الوالدين. كما تلعب الشبكات الاجتماعية والعلاقات الشخصية دائمًا دورًا حيوياً للغاية في قرار العودة، فتواجد الآباء والأمهات والأسرة في بلد المنشأ قد يدفع البعض للعودة. وفي حال كانت الأسرة والأطفال في سويسرا، فإن الأشخاص يبقون هنا.

“رفاهية الحياة والموت على أرض الوطن”

لكن خيار العودة أو التردد على الوطن من وقت لآخر قد تصبح رفاهية لا يملكها البعض بسبب تردي الأوضاع السياسية وخطورة الظروف الأمنية في بعض الدول العربية، كما هو الحال بالنسبة للمواطنة مزدوجة الجنسية أسيل علي والتي تجاوزت في العمر، الـ 60 عاماً. أسيل ليس أمامها خيار إلا مواصلة العمل، لأنها هاجرت في وقت متأخر إلى سويسرا ولم تعمل إلا 15 عاماً وبالتالي ليس لديها معاش كافٍ، كما أن الأوضاع في وطنها الأم العراق، لا تحفز على العودة. 

قرار مصيري يشاركه فيها هيثم قاسم المنحدر من قرية فلسطينية صغيرة في الضفة الغربية، فرغم اختلاف الأوطان إلا أن المصائر قد تبدو متشابهة في عدد من الدول العربية. قدم هيثم إلى أوروبا بعد 1967 ودرس في إيطاليا وانتقل بعدها إلى سويسرا، التي يعيش فيها مع أبنائه وزوجته. رغم طول مدة اغترابه إلا أن فلسطين وأهله “يشكلون ذاكرته وواقعه”،فهو على تواصل دائم مع الأهل والأصدقاء هناك. لكن “خيار العودة والإقامة في الأراضي ليس متاحاً أمامه أصلا، لأن إسرائيل لا تسمح لي بالإقامة هناك”.

منذ حصوله على الجنسية السويسرية وهيثم يواظب على زيارة قريته وأهله ويسافر الآن على الأقل مرتين في العام ويتمنى أن يحافظ على هذه الوتيرة، مشيراً إلى صعوبة التنبؤ بالمستقبل السياسي في البلاد في ظل الحديث عن صفقة القرن.

مسن ، التقاعد، الهجرة
“أخشى أن أصبح عالة وثقل على أبنائي في الشيخوخة”، هاجس يقلق العديد من أبناء الجالية العربية في ظل تغير المفاهيم الثقافية والقيم الأسرية ولا سيما في الغرب. Keystone / Emilio Morenatti

“على من تعوّل في شيخوختك؟”

قضية التمتع بصحة جيدة كانت الأكثر حضورا في حديثي مع جميع الأشخاص، الذين أشاروا إلى طبيعة الحياة العصرية هنا وتراجع قيمة التكافل الأسري وضرورة الاعتماد على منظومة الرعاية الصحية للدولة، لأن الأبناء لن يكون لديهم الوقت للاعتناء بهم مع تقدم العمر. يوضح هيثم ” أنظر إلى هذا الجانب بواقعية. من يأتي إلى الغرب، يتأقلم على واقعه. الأبناء نشأوا وتعلموا وشقوا طريقهم في الحياة العملية و انسلخوا منا. ومع انتقالهم لمدينة أخرى للدراسة بدأوا في زيارتنا مرة في الأسبوع ومع الوقت أصبحوا يزورنا كل أسبوعين ومع انتهاء الدراسة انتقل ابن إلى دولة أخرى والثاني إلى مدينة أخرى وقلّت الزيارات بطبيعة الحال. كل واحد أصبح لديه مشاغل. هذه مطالب الحياة العصرية وخصوصياتها ويتعين علي تغليب منطق الواقعية. أتمنى الصحة والقدرة على العمل حتى بعد تقاعدي”.

اللافت أن تغير المفاهيم الثقافية  لأبناء الجالية العربية  والقيم الأسرية  لا تؤرق فقط المتقدمين في العمر، بل أيضاَ الشباب الذين هم بصدد بناء حياتهم الجديدة في سويسرا المهجر. 

ميساء، سورية انتقلت مؤخراً إلى سويسرا مع زوجها وأطفالها وعايشت تجربة دفعتها إلى التفكير في مرحلة التقاعد، رغم أنها ما زالت في بداية حياتها  “كانت لي جارة تقترب من السبعين في العمر، تتمتع بقوام رشيق وتضج بالحياة والحركة وكنت أنظر لها وأتمنى في خاطري أن أتمتع بصحة جيدة عندما أكون في عمرها. مع الوقت أُصيبت بمرض الزهايمر ولم يعد بإمكانها حتى التعرف على بناتها وزوجها وتم نقلها إلى مركز رعاية كبار السن المصابين بالزهايمر. زرتها وشعرت بها تائهة ومتحيرة والقلق قد أسرها وجعلها غير قادرة على الجلوس لمدة 5 دقائق متواصلة.. آلمني رؤيتها .. وحينها هيمن على ذهني هاجس “أخشى  من الوحدة أو أن أصبح عالة وثقل على أبنائي في الشيخوخة”،وسألت نفسي، ماذا لو صرت في مكانها وأين أود قضاء أيامي الأخيرة وانتظار المنية.. هل في  دولة توفر أفضل الخدمات الرعاية الصحية دون أهل أم في بلد يعاني من ضعف النظام الصحي ولكن فيه نعمة قوة العلاقات الاجتماعية و الأواصر الأسرية.. وأين لي بالخيار وأبنائي هنا وسوف ينشغلون ببناء مستقبلهم عن قضاء وقتهم في رعايتي في أيامي الأخيرة”؟ 

“سؤال صعب”

في سؤال لقراءنا على مواقع التواصل الاجتماعي حول قضية الموت كتب محمد ريان “هذا أصعب سؤال تطرحوه. إذا في شي يقض مضجعنا بها البلاد هو الموت والدفن وخصوصا الي وصلوا لمرحلة متأخرة من العمر وهم لاجئين لا عندهم بلد يرجعوا الو وما حابين يندفنوا ببلد غريب وحلها اذا بتنحل
لكن نرجع ونقول ولا تدري نفس بأي أرض تموت”.

وكتب مبروك ريان: “أفضل أن أُدفن في البلد الذي منحني كل ما لم يمنحني بلدي الأصلي وهو البلد الذي ازداد به أبنائي وهم من سيزورن قبري ويترحمون علي”.

أما أحمد فهمي فقال “معظم المسلمين يفضلون الدفن في موطنهم وذلك يعود لأسباب مثل الهوية، الدفن مع العائله من باب التبرك بزيارة الأهل لينالوا من دعاء الزائر، علاوه علي أن المدفون لا يظل في مدفنه أكثر من عشرين عاماً في سويسرا ثم يفرغون القبر من الرفات، وليس لدي فكرة عن ما هو المتبع بمقابر المسلمين في تلك الحالات”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية