مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عندما يهدّد الإحتراق النفسي كبار المسؤولين.. من يدق جرس الإنذار؟

اتضح أن الإجهاد الناجم عن ضغوطات العمل تحول إلى حالة مزمنة تُرافق العديد من المسيّرين. Reuters

سلَّط إقدام أثنين من كبار المسؤولين التنفيذين في شركات سويسرية بارزة خلال عام 2013 الضوء على حالات الإجهاد التي يُعاني منها هذا الصنف من المسيرين، ليُحيلها الى قضية أجّجت العديد من الأحاديث الساخنة. ومع الزيادة الملحوظة في أعداد المدراء المُرهقين على مر السنين، تحولت الأنشطة الرامية إلى مساعدة المهنيين على التوقي من الإجهاد ومعالجته إلى صناعة مُتنامية.

أصبحت مسألة الإجهاد المهني أمرا مُعترفاً به لأول مرة في ستينيات القرن الماضي، لكن المسألة استغرقت بعض الوقت لكي تتحول إلى أمر سائد. ويقول نوربرت سيمّير الأستاذ في معهد علم النفس في جامعة برن: “اليوم، تأتي إلينا الشركات لتسألنا عن إمكانية إبداء النصح والمشورة”، مضيفاً أنه “قبل 30 عاماً كان التطرق لمثل هذا الموضوع مستحيلاً تقريباً”.

في شهر يوليو المنصرم، عثرت الشرطة على كارستن شلوتر، الرئيس التنفيذي لـشركة سويسكوم للإتصالات منتحراً في منزله بالقرب من فريبورغ. وكان شلوتر (49 عاما) قد وصف نفسه في مقابلة أجريت معه قبل إقدامه على الإنتحار بـ “ضحية الإتصالات الحديثة”. وبعد انقضاء شهر على هذه الواقعة، عثرت الشرطة على جثة بيير فاوتير (53 عاماً)، المدير المالي لشركة زيورخ للتأمين في منزله في حادثة إنتحار مماثلة. وحسب صحيفتي “هاندلسبلات” الألمانية المختصة بالشؤون المالية، و”فوكوس” الأسبوعية، يبدو أن فاوتير اشتكى في رسائل حررها قبل انتحاره من ثقافة الحوار “الرهيبة” السائدة في أكبر مجموعة للتأمينات في سويسرا، بالإضافة الى الضغط الذي قد يكون مُورس عليه من قِبل رئيس المجلس التنفيذي السابق للشركة.

في واقع الأمر، تتنوع العوامل التي تساهم في إجهاد المدراء والمسيّرين، إبتداءاً من عولمة الإقتصاد والجاهزية على مدار الساعة، والإنفصال عن الأسرة وصولاً الى فضائح القطاع الصناعي، والصراعات الشخصية وتوقعات المساهمين.

التعاطي مع الأعراض

في هذا السياق، يقول نوربرت سيمّير: “يعجز الأشخاص في بعض الأحيان – والرجال بالأخص – عن رؤية العلامات المبكرة لتفاقم الإجهاد، مثل إضطراب النوم (الأرق)، الذي يعتبر مؤشراً هاماً جدا”، ويضيف أن “إحدى النصائح التي أبديها للمُسيّرين بشكل متكرر هي الإنصات الى إشاراتهم الشخصية”. في الوقت نفسه، “كنت ألتقي بزبائن يؤكدون لي بأنهم ‘غير مُجهدين البتة’. وبعد عشر دقائق يخبرني نفس الأشخاص عن إستيقاظهم ليلاً وهم يتصببون عرقاً ويجترّون المشاكل المرتبطة بعملهم”.

ووفقاً للأستاذ في معهد علم النفس في جامعة برن، يمكن أن يؤدي إختلال التوازن بين الجهد المبذول والمردود [أو المكافأة] إلى حدوث ما يسمّى بـ “متلازمة الإحتراق النفسي”. وبرأي سيمّير، فإن أهم الموارد التي تساعد الموظفين في التعامل مع الإجهاد هو التحكم الوظيفي – أي إمتلاكهم لرأي بشأن الأنشطة التي يمارسونها والظروف التي يعملون في ظلها – والدعم الإجتماعي.

مع ذلك، يلاحظ سيمّير أن الحديث عن الإجهاد ليس بالأمر اليسير دائما، كما قد يُترجم تلقي الدعم الإجتماعي “كدليل على ‘أنك لست كفؤاً بما فيه الكفاية’. فضلاً عن ذلك، “يشكل الجانب الإيجابي – إمتلاك كل هذا الكم من النجاح – حافزاً مهماً جداً يدفع بالأشخاص إلى تجاهل أعراضهم”، على حد قوله.

تحقيق التحول

أحد الذين عانوا من الإجهاد بشكل شخصي هو رودولف فوتسيل. فقد تعرض هذا المصرفي السابق في قطاع الإستثمار الذي أشرف على صفقة بيع الخطوط الجوية السويسرية إلى شركة لوفتهانزا الألمانية، إلى أزمة عنيفة وهو في أوائل العقد الخامس من العمر.

وكانت نوبات الهلع والخفقان الشديد تتسبب بإيقاظ فوتسيل ليلاً، كما انهار جهازه المناعي بالنتيجة. وترافقت هذه الأعراض بمشاكل خطيرة في الظهر. وعلى مدى أربعة أعوام، كان يدور في حلقات مفرغة، مُخفياً عن المقربين منه حقيقة أنه لم يكن على ما يرام.

يقول فوتسيل: “بشكل ما، كنت أشعر بأني أقف على المسار الخاطئ من حياتي كلها”، ويضيف مستطرداً “كنت أجري بغية الحصول على التقدير، والترشح للمناصب والمكافآت، وأفتقر بشكل أو آخر إلى الأشياء الأهم في الحياة، كالعلاقات، والحياة الأسرية، وتحقيق الذات، وإلى هدف عموماً”.

وأخيراً، وبعد إصابته بـ “انهيار بدني ونفسي”، أقدم فوتسيل على الخطوة التي يخشاها العديد من المسؤولين التنفيذيين المُعرّضين للإجهاد، حيث تخلى عن وظيفته تاركاً وراءه مُرَتَّبه العالي، ومركزه المرموق وانطلق في رحلة طويلة مشيا على الأقدام من سالزبورغ (غرب النمسا) إلى نيس (جنوب فرنسا).

اليوم، يمتلك المصرفي السابق نُزلاً يديره بنفسه في كانتون غراوبوندن، يقدم فيه المشورة للمُسيّرين والمسؤولين التنفيذيين الذين يمرّون بأزمات شخصية مماثلة لتلك التي اجتازها، ويقول: “لقد أكسبتني هذه التجربة الكثير من الرؤية والتبصر حول أسلوب أدائي والطريقة التي تحفزني”.

مُواجهة المشكلة

في الأثناء، يشير فوتسيل إلى أنه يساعد زبائنه على “الخروج من الوضع الذي يمرون به والنظر إلى أنفسهم، لكي يدركوا بأنهم يمتلكون خيارات أخرى”. فضلاً عن ذلك، يساعدهم على إدراك أن “علاج المشكلة لا يتطلب منك تغيير الهيكل المحيط بك، لكنه يحتاج بدلاً من ذلك إلى العمل على دواخلك”.

مع ذلك، فإن هذا التمشي ليس بديهياً بالضرورة بالنسبة للعديد من الأشخاص، إذ يميل المسؤولون في المناصب القيادية العليا – حسب تجربة فوتسيل – إلى “اتباع العقل بشكل كامل عند تعرضهم للأزمات”، لكن “إذا جعلت الأشخاص ينفتحون على مشاعرهم وعواطفهم وأحاسيسهم، فإنك تمكنهم من استعادة تحكمهم بحياتهم والسيطرة عليها”، كما يقول.

لا عجب والأمر على ما هو عليه في أن يتحول علاج الإجهاد ومتلازمة الإحتراق النفسي إلى تجارة كبيرة. ومع اختلاف الأطراف التي أدركت أهمية مردودها المادي (بدءاً من العيادات الخاصة ووصولا إلى شركات الأدوية)، لا يقف المصرفي السابق وحيداً في هذا المجال التخصصي.

المزيد

دعـمٌ من الشركات

بالنسبة للمؤسسات، لا يخلو التعامل مع المديرين التنفيذيين والمُسيّرين المُجهدين من التحدي والحساسية. وعلى غرار العديد من أرباب العمل الرئيسيين، تقدم شركة سويسكوم، أكبر مُجهّز اتصالات في سويسرا الدعم لمدرائها بهدف مساعدتهم على تجنب الإجهاد كلما أمكن ذلك. ويتضمن ذلك التدريب على قضايا الموظفين، وحلقات العمل بشأن تعزيز الصحة والوقاية من المرض، والحصول على خدمات الإستشارة الإجتماعية، بالإضافة الى إجازة عمل طويلة مدفوعة كل خمس سنوات مع إضفاء قدر من المرونة على ساعات العمل.

وطبقا لكارستن روتس، المتحدث باسم شركة سويسكوم، فإنه “على الرغم من أن وسائل الإتصال الحديثة تتيح لنا إمكانية الإطلاع والرد على البريد الإلكتروني والوثائق المتعلقة بالعمل في أي وقت ومن أي مكان، إلّا أنه من غير المتوقع إطلاقاً أن يعمل الموظفون في وقت فراغهم”.

لكن حقيقة تقديم المساعدة لا يعني قبولها بالضرورة. وفي هذا الصدد، يستذكر فوتسيل وضعه الشخصي ويقول: “لم أكن أعلم بوجود شئ من هذا القبيل، وحتى لو كنت أعرف، لما طلبته. إذا كنت ما تزال في ذلك الوضع الذهني الذي يدفعك للإستمرار في الصراع، فسوف ترفض حتى النظر إلى تلك الأشياء”.

وحسب رأي فوتسيل، فإنه من الضروري تهيئة الموظفين لحالات الإجهاد ومتلازمة الإحتراق النفسي منذ بداية حياتهم المهنية. ومثلما يقول، يبدو الوضع الآن مشابها “لاندلاع حريق في منزل كنت تسكنه لعشرين عاماً دون أن تعرف حتى موقع طفاية حريق”.

في الأثناء، خلُصت دراسة أجراها سيمّير برفقة فريق عمل من جامعة برن منذ عام 2005 لِفَحص التوازن بين العمل والأسرة لنحو 143 من كبار المدراء العاملين في شركة دولية في سويسرا إلى أن “المطلوب هو تطوير ثقافة عمل تناقش حدود التحمل، دون اعتبارها دليلاً على قلة الكفاءة”.

تصميم شركات صديقة للعاملين

إحدى المنظمات التي تسعى لتحقيق هذا الهدف هي “مكان عمل رائع” Great Place to Work® في زيورخ. إذ تعتقد هذه الشركة العالمية المختصة في مجال البحوث والإستشارات والتدريب بإمكانية كل شركة لأن تكون مكاناً رائعاً للعمل. ووفقا لما تعلن عنه فهي “تساعد المنظمات على تحديد وإنشاء والمحافظة على مواقع رائعة للعمل من خلال تطوير ثقافات لأماكن عمل يسودها جو من الثقة العالية”.

قادة الأعمال يعتمدون على قياسات “مكان عمل رائع” في وضع المعايير التي تحدد مكان العمل الرائع. وعموما، يستند البحث السنوي الذي تجريه الشركة على البيانات الواردة من أكثر من 10 ملايين موظف يتوزعون على 50 دولة تمثل ما يربو على 6000 مؤسسة تختلف فيما بينها في الحجم، ومجال العمل، والأقدمية والهيكل التنظيمي.

وفي عام 2012، منحت “مكان عمل رائع” إلى شركة “إيباي E-bay” (موقع المزادات الأول على شبكة الإنترنت الذي يعمل كوسيط بين البائع والمشتري) الأمريكية المتعددة الجنسيات التي يقع مقرها الأوروبي في برن، المركز الثالث لأفضل الشركات التي يُمكن العمل بها في سويسرا، إذا ما تعلق الأمر بظروف عمل الموظفين.

لورين ساغيناو هي إحدى المُسيرات الشابات التي عملت كمديرة تنفيذية في “أيباي” لفترو تربو على ست سنوات. وهي تنتمي إلى مجموعة مختارة من الموظفين الذين أكملوا تدريبهم في برنامج قيادة داخلي متناوب يهدف إلى تطوير المواهب في المجال الماليّ.

وتعمل ساغيناو التي رُقيت مؤخراً الى منصب مديرة تطوير أعمال “إيباي” في مقر الشركة الأوروبي في زيوريخ 12 ساعة في اليوم، كما تقضي نحو 50 يوما في السنة في أسفار مرتبطة بعملها.

المزيد

وعلى غرار سويسكوم، تقدم “ايباي” إجازة لمدة شهر بعد انقضاء خمس سنوات على الخدمة. وتقول ساغيناو التي أمضت هذه العطلة في اليابان: “لقد منحتني هذه الفترة منظوراً واسعاً على ما هو مُهمّ وساعدتني على التخفيف من الضغط بعض الشيء”.

ولكن في نهاية المطاف، يأتي الإجهاد لساغيناو وللعديد من المدراء مع الوظيفة، دون وجود بوادر على تراجعه في الأفق. وفي هذا السياق، تقول مديرة تطوير أعمال شركة “إيباي”: “أنا أعمل مع المسؤولين التنفيذيين، وينبغي أن يكون العمل الذي أقوم به متميزاً في كل يوم”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية