مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“على العالم العربي اعتماد نموذج إنمائيّ جديد”

يحث التقرير الأممي بلدان العالم العربي على التوفيق بين متطلبات الإعتماد على العمالة الأجنبية وسياسات تشغيل الشباب. (في الصورة: عمال أجانب يعملون في تشييد برج خليفة الشاهق في دبي) Keystone

على ضوء انتفاضات الربيع العربي، أوصت منظمة العمل الدولية وصندوق الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير مشترك حول أوضاع العالم العربي، بضرورة "اعتماد نموذج إنمائي جديد"، يعمل على تصحيح "انحرافات السياسة الإنمائية والعجز في العدالة الإجتماعية وسوء إدارة تحرير الإقتصاد".

في حوار خاص مع swissinfo.ch تسلط السيدة ميري قعوار، مسؤولة سياسات التشغيل بالمكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية في بيروت، الضوء على بعض النقاط المهمة الواردة في التقرير الذي صدر يوم 5 فبراير 2013 تحت عنوان: “نظرة جديدة إلى النمو الاقتصادي: نحو مجتمعات عربية منتجة وشاملة”.

swissinfo.ch: جاء تقرير منظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في شكل مسح شامل لوضع أدّى إلى تأزم في المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية التي كانت إلى حدٍّ ما من مسبِّـبات ثورات الربيع العربي. ما هي المحاور الرئيسية التي راعيتموها في هذه الدراسة؟

ميري قعوار: كان الهدف من هذا التقرير، هو تحليل الوضع العربي وتحديد الأسباب التي أدّت إلى قيام ثورات الربيع العربي والإهتمام بتصور نموذج تنموي جديد على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، يأخذ بعين الإعتبار العدالة الإجتماعية والمساواة. ويهدف إلى إقامة عقد اجتماعي جديد بين الحكومات والعمال وأرباب العمل والمجتمعات.

وقد أكد التقرير على أن أيّ إصلاح، يجب أن يأخذ بعين الإعتبار الإصلاحات السياسية جنبا إلى جنب مع الإصلاحات الإقتصادية، لأن انتهاج كل إصلاح على حِـدة، لن ينجح. وقد أكّـدت المنظمتان في هذا التقرير، على أهمية النهج الديمقراطي واحترام حريات الأفراد والحريات العمالية.

والسبب في القيام بهذه الدراسة اليوم، هو لأن النموذج التنموي الذي انتهجته الدول العربية، لم يؤدِّ إلى توزيع عادل للثروة والأرباح، وبقي النمو الإقتصادي مُـتمركِـزا بأيادي فِـئات قليلة، ولم يسمح باستفادة المجتمع بشكل عام. وقد اتخذت الكثير من الدول العربية، إما نهج معالجة ذلك بتقديم المساعدات والبرامج الإجتماعية أو اللجوء إلى التوظيف في القطاع العام، وهذا ما أدّى في نهاية المطاف إلى خلل.

أنجز تقرير “نظرة جديدة إلى النمو الاقتصادي: نحو مجتمعات عربية مُنتجة وشاملة” تحت إشراف المكتب الإقليمي للدول العربية بمنظمة العمل الدولية والمكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي  وبمشاركة عدّة منظمات أممية وإقليمية وإطارات مختصّة من أبناء المنطقة العربية.

تم إعداد التقرير الصادر يوم 5 فبراير 2013، عقِـب قيام ثورات الربيع العربي وفي إطار “مراجعة أولويات التنمية في المنطقة العربية، من أجل صياغة استراتيجية مُتكاملة، لمواجهة التحديات الإنمائية الأساسية، إلى جانب اعتماد إطار عمل جديد يتمحْـوَر حول أربع مجالات مُتداخلة، ذات أولوية: التنمية الشاملة والحوكمة الديمقراطية والشباب والربط بين المبادرات الإنسانية والإنمائية”.

أهم خلاصات التقرير:

فشل إصلاحات اقتصاد السوق المُعتمدة من تسعينيات القرن الماضي في استحداث الوظائف وتأمين الخدمات الإجتماعية، من أجل تلبية التطلعات المتنامية لدى المواطنين العرب.

معاناة المنطقة العربية بشكل بارز في مجاليْ الحماية الإجتماعية والحوار الإجتماعي.

ضرورة استبدال العقد الإجتماعي القديم بعقد جديد، يسمح بتصميم نموذج إنمائي مُـستدام ومنصِف، قادر على الإستفادة من الإمكانيات العربية، وبالأخص الشباب، وقادر على تحويل المجتمعات العربية إلى مجتمعات إنتاجية بمشاركة كل مكوِّناتها.

هل يمكن إرجاع هذا الفشل بالدرجة الأولى إلى فشل نموذج تنموي أم إلى فشل في الإصلاحات السياسية؟

ميري قعوار: الإثنان مع بعض. فالإسراع بتحرير الإقتصاد والتسريع بالخصخصة والإسراع بانفتاح المجال التجاري، كل هذه العوامل لم يكن القيام بها من الأمور السيِّـئة أو الخاطئة، لكن هذا الإسراع بكل هذه الإنفتاحات لم يكن يُـرافقها تواجد نظرة تنموية شمولية تُـراعي جوانب العدالة الإجتماعية. وهذا ما أدّى إلى وجود اختلالات.

من النقاط التي تناولها التقرير بالتفصيل، مسألة الخصخصة. وهناك في التقرير كلمة معبِّـرة عن كيفية تطبيق الخصخصة في العالم العربي مفادها أن “الخصخصة لكي تنجح يجب أن لا تتحول الى تخلي السيطرة الحكومية لصالح سيطرة أهل وأقارب الحكام”. هل هذا هو واقع الخصخصة في العالم العربي؟

ميري قعوار: لا يمكنني تقديم إجابة عن ذلك بالاستناد إلى حقائق، لأننا في منظمة العمل الدولية لم نقم بتحليل واقع الخصخصة في العالم العربي. ولكن بصورة عامة، وكما ذكرت من قبل، لا يمكن الشروع في الخصخصة  في غياب نظرة شاملة تنموية، تأخذ بعين الاعتبار النمُـو الاقتصادي مع إعادة التوزيع لنتائجه في آن واحد.

وهل المطلوب اليوم هو عودة إلى دور أقوى للحكومات، بعد ما اعتبره البعض “مبالغة” في الدعوة إلى إفساح المجال أمام قدرات وإمكانيات القطاع الخاص؟

ميري قعوار: المطلوب الآن، هو نظرة استراتيجية للتنمية، شاملة وليست إقصائية، مبنية على أساس الحوار الاجتماعي بين أطراف الإنتاج المُتمثلة في الحكومة والقطاع الخاص أو أصحاب العمل والمنظمات العمالية، أي النقابات. وهذا الحوار لتنظيم سوق العمل، نجِده غائبا في الكثير من الدول العربية. وأغلب النقابات العمالية، إن وُجدت، فهي ضعيفة أو تكون تابعة بشكل من الأشكال للنظام.

كما أن أصحاب العمل، هناك مَـن هم أقوياء ولديهم مسؤولية اجتماعية، ولكن نجد أيضا أن علاقتهم مع الدولة صعبة نوعا ما وتفتقر للثقة. كما نجد أيضا أن العمال كذلك يفتقرون للثقة في صاحب العمل. وفي غياب الحوار الإجتماعي والشفافية وعدم وجود منصّات حوار بشكل واعٍ، لا يمكن تصوّر موقف موحَّـد لكل هذه الأطراف.

وعندما نتحدث عن ضرورة وجود عقد اجتماعي جديد أو نموذج تنموي جديد، فيجب أن نأخذ بعين الإعتبار أن الكثير من الدول قد تجد نفسها مُـضطرة لاتخاذ قرارات صعبة، قد يترتَّـب عنها ضرر لبعض مكونِّات المجتمع. لكن إذا كنا في مجتمع يتمتّع بقنوات حِوار اجتماعي، فإن هذه الخطوات الصعبة التي تضطر الدولة لاتخاذها، قد تصبح أهْـوَن.

تطرق التقرير أيضا إلى ضرورة “تكييف نظام التعليم والتكوين مع متطلبات سوق العمالة في الدول العربية”، هل سيساعد ذلك على إيجاد حل لمعضلة بطالة الخريجين التي أصبحت ظاهرة في عدة دول عربية؟

ميري قعوار: نُظُم التعليم وتكوين الشباب العربي لتحضيرهم لسوق العمل، تُـعتبر من أهَـم القضايا لمن هو مهتم بهذا القطاع. هناك ما هو إيجابي فيما حدث في المنطقة العربية، وهو تحسين مستوى التعليم، بحيث تراجعت الأمية عمّا كانت عليه قبل 30 أو 40 عاما، وهي في طور الإختفاء في بعض البلدان، وهذا ما يمكن للدول العربية أن تتباهى به.

ولكن الخطأ كان في الإهتمام بالكمية على حساب النوعية، بحيث تم إعطاء الأولوية لبناء مدارس في كل المناطق، حتى تلك النائية، لرفع عدد التلاميذ، ولكن لم يكن هناك أي اهتمام بمستوى التعليم أو بربطه بسوق العمل. وما نلاحظه، هو أن احتياجات سوق العمل تسير في اتجاه، ونظام التكوين في المدارس يسير في اتجاه آخر، أي أن هناك مراعاة للعَـدد وليس للجودة.

وما أودّ جلب الإنتباه إليه، هو أن نظام التعليم في الدول العربية أدّى إلى عدم تكافُـؤ وتمييز بين الأهالي الذين يستطيعون دفع نفقات التعليم والذين يبعثون أبناءهم إلى مدارس خاصة، مما يسمح لهم بالنجاح في الجامعات والحصول على فرص العمل، ومَـن لا يستطيع ذلك ويكتفي بالتعليم العمومي.. هذا خلق نوعا من التمييز وعدم المساواة.

والجانب الثاني الذي أود جلب الانتباه إليه، هو أن الاقتصاد في البلدان العربية كان قائما في معظمه على قطاعات تتطلَّـب مَـهارات مُـتدنية، وهنا أتحدّث عن وضع الشرق الأوسط، أكثر من شمال إفريقيا. فإذا ما تحدَّثنا عن قطاع البناء، فهو قطاع لم يكن يتطلب معرفة في الاتصالات والتكنولوجيا، وبالتالي، فرص العمل فيه لم تكن تتطلب أشخاصا لهُـم مهارات عالية. ومَـن ينتمُـون الى فئة العمال ذوي المهارات المُتدنية في بلدان مثل لبنان او الأردن، يجدون بدورهم أن هناك منافسة من عمالة قادمة من بلدان آسيوية تقبل بأجور أقل.

فإذن خرِّيج الجامعة يعاني من مشكلة عدم توفّـر فرص عمل تلائم مهاراته المتقدمة، والعامل مُتدنّي التعليم يواجه مشكلة المنافسة من العمالة الآسيوية.

أتى إصدار هذا التقرير المشترك حول أوضاع الإقتصاد في البلدان العربية على ضوء التغيرات الحاصلة في المنطقة، من أجل “مساعدة الدول العربية على التفكير في نظرة شاملة لعملية النمو الإقتصادي والعدالة الإجتماعية والتخفيض من مستوى الفقر وزيادة الدخل”، حسب السيدة ميري قعوار، المسؤولة عن سياسات التشغيل بالمكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية في المنطقة العربية في بيروت.

  

في سياق تركيز كل منظمة على القطاعات التي تدخل ضمن اختصاصها، ستهتم منظمة العمل الدولية مثلا بالقطاعات التي لها علاقة بـ “زيادة فرص العمل وتحسين ظروف العمل وتوسيع الحماية الإجتماعية وتعزيز الحوار الإجتماعي بين أطراف الإنتاج”.

تذهب السيدة ميري قعوار إلى أن هذا التمشي يوفر “مساعدة للدول العربية على انتهاج طريقة جديدة لرسم سياسة تنموية جديدة في المنطقة”.

تقترح الدراسة على البلدان العربية “التحوّل من عقد اجتماعي قديم إلى عقد اجتماعي جديد”، ما هو تصوركم لمعالمه المرتقبة؟

ميري قعوار: البديل لن يأتي بمجرّد إصدار تقرير لمنظمة العمل الدولية، لكن ما نقترحه هو، إما على شكل سياسات تُـطبَّـق بشكل عام، وسياسات يُمكن أن تطبَّـق وِفقا لمتطلَّـبات كل بلد على حِـدة.               

ففي مجال السياسات العامة، والتي تمس الاقتصاد الكلّي، هناك أولا، تركيز على ضرورة تحسين الإنتاجية وزيادة الأجور وإعادة توزيع العائدات بشكل عادل. وثانيا، ضرورة تعزيز الحوار الإجتماعي التشارُكي والشمولي بين الحكومات والعمّال وأصحاب العمل، من خلال إصلاحات، خصوصا في مجال علاقات العمل.

أما فيما يخص التوصِيات في مجال السياسات الخاصة التي تُـراعي الفروقات بين الدول، فهناك موضوع الهجرة وكيفية التحكّـم في إدارتها، وخصوصا في بلدان الخليج ودول مثل الأردن ولبنان، إذ لا يمكن توفير فرص عمل جيدة ولائقة بالحكومة، والعمل على جلب يَـد عاملة أجنبية بالنسبة للقطاع الخاص، ونقول بعد ذلك إننا نرغب في رفع مستوى تشغيل الشباب. فكل فئة من هذه الفئات تبحث في سوق العمل عن مصلحتها. وإذا بقي القطاع العمومي هو الوحيد القادر على تقديم فُـرص عمل لائقة، فإن الشباب العربي سيعزف عن الإلتحاق بالقطاع الخاص، ما لم يتِـم تحسين ظروف عمل المهاجرين العاملين فيه.

كما أن النقطة الثانية، هي أن الدول العربية على اختلافها، لديها مشاريع تشغيل شباب. ولكن هذه المشاريع ليست منظمة بما فيه الكفاية وتعاني من كونها غير مستدامة، وتُنفَـق فيها استثمارات كثيرة، لا تؤدّي إلى نتيجة.

وآخر ملاحظة، كما ذكرتُ من قبل، قطاع التعليم وتكييفه مع متطلَّـبات سوق العمل ووِفقا لتكافُـؤ الفرص بين الذين يستطيعون الحصول على نوعية أفضل ومَـن لا يستطيعون ذلك. إضافة بالطبع إلى موضوع الحماية الإجتماعية من معاشات تقاعُـدية وتأمين الصحة وتأمين ضد البطالة. وفي هذا المجال، هناك تفاوُت في مستوى التغطية في الدول العربية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية