مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بعثة تنقيب سورية سويسرية تفتش عن الأسرار في “حوض الكوم”

يعد موقع الأبحاث والتنقيب للبعثة الأثرية السورية السويسرية في الكوم من أهم مواقع ما قبل التاريخ في العالم swissinfo.ch

اعتمدت البعثة الأثرية السورية السويسرية في منطقة الكوم على تمويل الصندوق الوطني للبحث العلمي في تمويل أعمال التنقيب التي أدت إلى اكتشاف بقايا "جمل عملاق" فريد من نوعه في العالم، وقد تسمح تاليا بتوضيح معالم استقرار الإنسان الأول بالمنطقة أثناء تنقله من إفريقيا الى آسيا وأوروبا.

وبالإضافة إلى ذلك، استطاعت البعثة بفضل تمويلات خاصة تأسيس أحد أهم مخابر تحليل اللقى الأثرية المتعلقة بالعصر الحجري في قلب البادية السورية. وهي نواة يتمنى البروفسور جون ماري لوتانسورر أن “يواصل الطلبة السوريون تعزيزها وتوسيع إشعاعها من بعده”.

في الوقت الحاضر، يفوق عدد البعثات الأجنبية العاملة في مجال التنقيب عن الآثار في سوريا الـمائة والخمسين (150)، وقد باشر البعض منها مثل الفرنسية والبولندية أعمال التنقيب بمنطقة الكوم في سبعينيات القرن الماضي، لكن البعثة السورية السويسرية التي شرعت في التنقيب في تل عريضة في حوض الكوم في عام 1989، حالفها الحظ في العثور على أحد أهم مواقع عصور ما قبل التاريخ والتي لازالت مُصانة بشكل جيد إلى حد اليوم وينتظر منها البحاثة أن تقدم الكثير من المعلومات عن بداية استقرار الإنسان والحيوان قبل حوالي مليون سنة في هذه المناطق التي كانت مليئة بالينابيع وتحولت اليوم الى بادية شبه جرداء.

فقد سمح العمل المشترك الذي قام به البروفسور جون ماري لوتانسورر لسنوات عدة مع الدكتور سلطان محيسن، المدير العام الأسبق للهيئة العامة للآثار في سوريا بتشكيل بعثة تنقيب مشتركة سورية – سويسرية منذ أكثر من عشرين عاما للتنقيب في عصور ما قبل التاريخ بمنطقة الكوم. وهي البعثة التي يرأسها حاليا البروفسور جون ماري لوتانسورر عن الجانب السويسري، والدكتورة هبة السخل مديرة متحف دمشق عن الجانب السوري.

تنقيب وتحليل وتوثيق

في العادة، تستغرق مهمة البعثة المشتركة في المنطقة حوالي شهرين سنويا، وفي هذا العام، كان تواجدها بالمنطقة ما بين 15 يونيو و15 يوليو 2010 وهو ما سمح لـ swissinfo.ch بإعداد هذا التحقيق الميداني في عين المكان. وفيما تقضي البعثة هذه الفترة أساسا في أعمال التنقيب، يتم تخصيص باقي أشهر السنة لتحليل المعطيات واللقى التي يتم العثور عليها وتوثيقها.

وللتأقلم مع المعطيات المناخية حيث تصل درجات الحرارة في المنطقة الى حوالي 45 درجة مائوية او أكثر، تلتزم فرق العمل (كما هو الحال في اغلب مناطق التنقيب المشابهة) بجدول زمني يتمثل في الشروع في التنقيب في حدود الساعة السادسة صباحا حتى منتصف النهار مع توقف لمدة نصف ساعة في حدود التاسعة لتناول الإفطار الجماعي. وبعد الغذاء والراحة يُستأنف العمل في حدود الرابعة بعد الظهر حتى السابعة مساءا.

وفي الوقت الذي تقوم فيه فرق التنقيب بعملها الميداني يزاول أخصائيون وخبراء عملهم التحليلي في المخبر كل حسب تخصصه: الفريق المهتم باللقى الأثرية والذي يسهر على غسلها وتعليمها وتسجيلها وتخزينها، والفريق المعني بدراسة الجيولوجيا والتراكمات والترسبات وظواهر المناخ وما إلى ذلك، وهو عمل “سيسمح بتقديم المعلومات الضرورية حول ما حدث في تلك الفترة”، على حد قول البروفسور لوتانسورر. وهناك فريق آخر يهتم بالعظام نظرا لوفرة بقايا عظام الحيوانات في المنطقة. ومع أن الفريق يرافقه أخصائي في بقايا الإنسان، فإن البروفسور لوتانسورر يوضح بأن “بقايا الإنسان في المنطقة نادرة جدا باستثناء قطعة من جمجمة إنسان “هومو إيريكتوس” عُثر عليها في الندوية، أما في بئر الهمل فلم نعثر الا على سن وعلى قسم من ذراع بشري”.

وإذا كانت البعثة قد حصلت على تجديد مهمتها كل ثلاث سنوات، فإن البروفسور جون ماري لوتانسورر يتوقع أن “تستمر المهمة لعشرات السنين القادمة”. وفيما يستعد لتسليم المشعل إلى من يرغب في مواصلة المسيرة بعد تقاعده من منصبه قريبا، يتساءل بصوت عال: “ولم لا يتولاها أحد الطلبة السوريين الذين يحضرون شهادات عليا في جامعتي بازل أو جنيف؟”.

تمويل سويسري عام وخاص

يتم تمويل مهمة البعثة المشتركة السورية السويسرية للتنقيب في عصور ما قبل التاريخ بحوض الكوم عبر عدة جهات نذكر منها أولا الصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي الذي يخصص ما يقارب 400 ألف فرنك لمدة ثلاث سنوات (أي بمعدل 125 ألف فرنك لكل سنة).

ويقول البروفسور جون ماري لوتانسورر: “إن ثلاثة أرباع هذه الأموال مخصصة لدفع أجور الطلبة السويسريين الذين يُـعـدّون شهادة الدكتوراه، وهما اثنان بالبعثة حاليا”، لكن وبالنظر إلى أن المبلغ المتبقي لا يكفي لتغطية حاجيات التنقيب من أجور العمال المحليين ونفقات النقل والإقامة للفريق التي تقدر بحوالي 50 الف فرنك في كل دورة، فإن الحكومة السورية تُسهم بحوالي 100 الف ليرة سورية (حوالي 2500 فرنك) للمساعدة في دفع أجور حارس الموقع ولذلك يتم اللجوء الى ممولين خواص.

ويقول البروفسور جون ماري لوتانسورر: “هما مصرف سويسري في مدينة بازل لا يرغب في الإفصاح عن اسمه، ومؤسسة تم تشكيلها وتحمل اسم “مؤسسة تل عريضة” التي تزودنا بما نحتاج إليه ولو أنها ليست بالغنية”.

مركز أبحاث متميز في قلب البادية

عملت البعثة السورية السويسرية في حوض الكوم على تشييد مركز أبحاث في قلب البادية السورية ينافس أحدث المخابر الجامعية الأوروبية. وقد تم تشييده في عام 1998 بمكاتبه وغرفه ومرافقه المختلفة وكلف حوالي 80 الف فرنك سويسري تحملتها الجهات الممولة الخاصة من بازل.

وإذا كان مركز الأبحاث في تل عريضة بالكوم يشهد نشاطات في كل أقسامه أثناء حملات التنقيب عن الآثار السنوية، فإنه يبقى خارج تلك الفترات تحت تصرف البحاثة والمختصين وطلبة الدكتوراه الذين يرغبون في متابعة البحث ودراسة المواد واللقى التي يتم تجميعها شريطة أن يتولوا خدمة أنفسهم بأنفسهم.

ثقل بيروقراطي.. ووعود بالتمويل لم تتحقق!

أحمد طه الخبير السوري الذي ساهم الى جانب البروفسور لوتانسورر طوال هذه الفترة الطويلة يثمن الروح السائدة بين الخبراء السويسريين والخبراء والعمال السوريين في البعثة المشتركة ويصف هذا التعايش بـ “الجو العائلي”. وما يثمنه أكثر هو تلك الخبرة التي تم اكتسابها من خلال هذا الإحتكاك وهذا حتى بالنسبة للعمال المحليين الذين أصبحوا يتخصصون جيلا بعد جيل في أعمال التنقيب عن الآثار.

من جهته، ثـمـّن البروفسور جون ماري لوتانسورر “المساعدة التي يبديها الجانب السوري المكلف بمتابعة عمل البعثات الأجنبية العاملة في سوريا ومسارعته الى التعريف بالإكتشافات” التي يتم الاتوصل إليها لكنه يشير إلى “قلة قيام مسؤوليه بزيارات ميدانية للوقوف على حقيقة العمل، نظرا لكثرة البعثات وقلة عدد هؤلاء المسؤولين”.

كما تعاني هذه البعثات حسب البروفسور لوتانسورردائما من “ظاهرة الثقل الإداري التي تعرفها العديد من الدول حتى الأوروبية، ومن كثرة تغيير القوانين”. فبعد أن كانت تراخيص التنقيب سارية المفعول لخمسة أعوام، أصبح يُطلب اليوم من البعثات تجديدها كل سنة، وهو ما “يضيف أعباء إدارية على البحاثة ومجهودا أكثر للمتابعة والاستفسار أمام مختلف الإدارات”، على حد قوله.

ومن الظواهر السلبية الأخرى، هو أن المخبر ومقر إيواء البحاثة والعاملين في البعثة لازالا يعتمدان على المولدات الكهربائية بشكل محدود نظرا لغياب الوصل بشبكة الكهرباء رغم مرور أعمدة التيار الكهربائي علىمسافة تقل عن كيلومتر واحد.

وعلى الرغم من إثنائه على التقدير المعنوي الذي تبديه السلطات السويسرية، واعتناء السفراء السويسريين المتعاقبين في دمشق بعمل هذه البعثات الأثرية إلا أن البروفسور لوتانسورر يرى أنه يجب “على الجانب السويسري أن يبذل مجهودا لتقديم منح ثقافية لدعم طلبة سوريين وإبرام اتفاق في هذا الشأن” بين البلدين.

ويشير البروفسور السويسري إلى أن المطالبة بالحصول على دعم مالي أو لوجيستي يقود الأطراف المعنية دوما إلى التملص بحكم التركيبة الفدرالية القائمة في سويسرا “فالسلطات الفدرالية توجهك نحو السلطات المحلية وهي بدورها توجهك نحو سلطات الجامعة وهكذا”.

وعلى الرغم من الزيارة التي قام بها السيد باسكال كوشبان، وزير الشؤون الداخلية السابق في عام 2009 إلى منطقة الكوم وإعجابه بما تقوم به هذه البعثة هناك، فإن ذلك لم يسمح بالحصول على هذا الدعم المالي الإضافي المتواضع رغم أن كوشبان صرح – حسبما نُقل عنه – أنه “إذا كنا قد وجدنا أكثر من 60 مليار فرنك لانقاذ مصرف يو بي إس، فكيف لا نجد 100 ألف فرنك لمساعدة فرقة تنقيب أثرية؟”.

يقع حوض الكوم في وسط سوريا جغرافيا، أي في منتصف الطريق بين وادي الفرات وواحة تدمر أو Palmyra التي تبعد شرقا بحوالي 250 كلم عن دمشق.

من خلال أعمال التنقيب الجارية في المنطقة من قبل عدة بعثات سورية وأجنبية من بينها البعثة الأثرية السويسرية العاملة هناك منذ العام 1989، اتضح أن هذه المنطقة التي أصبحت اليوم صحراوية شبه قاحلة وتعرف ببادية الشام، كانت غنية بالينابيع. وهذا ما جعل الإنسان والحيوان يستقر بها لفترات متتالية منذ أقدم العصور.

وهناك تصورات قيد التأكيد العلمي مفادها أن الإنسان الأول قد استخدم هذا الممر للتنقل من موطنه الأصلي في إفريقيا في اتجاه آسيا وأوروبا وهذا قبل استخدام المنطقة للتجارة فيما عُـرف بطريق الحرير في عصور لاحقة.

وما يعزز هذه النظرية الإكتشاف الذي حدث في عام 1996 لقطع جمجمة الإنسان البدائي “الهومو إيريكتوس” في موقع الندوية (عين عسكر) في حوض الكوم وهي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف بقايا الإنسان البدائي في منطقة الشرق الأوسط.

وحتى موقع الهُمّل في حوض الكوم الذي عثرت فيه البعثة السورية السويسرية على كميات هائلة من أدوات صوانية رفيعة المستوى وذات تقنية عالية وفريدة من نوعها، وعلى بقايا عظام جمال يعود بعضها لأكثر من 400 الف سنة، فلم يتم فيها العثور على بقايا الإنسان باستثناء سن وجزء من ذراع بشري.

ويفسر رئيس الجانب السويسري في البعثة السورية – السويسرية في الكوم ومدير معهد عصور ما قبل التاريخ بجامعة بازل البروفسور جون ماري لوتانسورر ذلك بقوله ” قد يكون الإنسان اهتم مند القدم برعاية موتاه. ومع أنه لم يكن يعرف طقوس الدفن بعد، فقد راعى وضع الجثث في مكان غير المكان الذي كان يقيم فيه او يتناول فيه طعامه أو يصنع فيه أدواته. يُضاف الى ذلك أن الحيوانات المتوحشة تقضي على كل البقايا بما في ذلك العظام. كما أن تعرض تلك البقايا لحرارة الشمس في منطقة صحراوية يعمل على تفتيت كل شيء بما في ذلك العظام في غضون خمسة أعوام وهي التجربة التي قمنا بها هنا من خلال تعريض عظام حمير وأغنام لحرارة الشمس فيما يعرف بعلم ” تافونومي”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية