The Swiss voice in the world since 1935

هكذا تُتخذ القرارات في الغرف المغلقة للحكومة الفدرالية

القصر الفدرالي
القصر الفدرالي يلفه الضباب، تم تصويره من جبل غورتن المحلي في برن يوم الأربعاء 30 أكتوبر 2024 Keystone / Anthony Anex

تعقد اجتماعاتها دون الإعلان عنها، ولا يوجد فيها رئيس وزراء، وتتألّف من سبعة أعضاء يعملون كهيئة جماعيّة للدفاع عن قراراتهم. إليك صورة شاملة حول طريقة عمل الحكومة الفدراليّة في سويسرا. 

لا يمكن تخيّل تناقض أكبر من هذا. ففي أغنى دولة في العالم وأقواها، تولّى الرئيس منصبه مصمّمًا على استغلال أقصى ما تتيحه له السلطة التنفيذيّة، بل وأكثر، لتمرير أجندته السياسيّة. ولا يتوقّف الأمر على تهميش المعارضين فحسب، بل إنّ دونالد ترامب، بحسب التقارير، لا يستشير حتى أقرب حلفائه في إدارته. والنتيجة، أحدث مجرّد إعلانه نظام التعريفة الجمركيّة فوضى عارمة، في جميع أنحاء العالم. 

أما في سويسرا، الثريّة، ولكن الأقلّ نفوذًا على الساحة الدوليّة، فغالبًا ما يكون من غير الواضح ما يريده الرئيس أو زملاؤه وزميلاته في الحكومة الفدراليّة، على المستوى الشخصيّ. ومع بدء أوروبا في إعادة التسلّح، يطرح كثيرون تساؤلات حول ما إذا كان وزير الدفاع الجديد، مارتن فيستر، يخطّط لاتّخاذ خطوات جريئة. ومن الصعب الجزم في هذا الأمر، فحتى لو كان فيستر يريد قطع جميع العلاقات مع حلف شمال الأطلسيّ، مثلا، أو الانضمام إليه بشكل مباشر، فإنّه ليس قادرًا على اتّخاذ هذا القرار بمفرده، إذ لا أحد في سويسرا يملك القدرة على فعل ذلك. 

فالقرارات الفرديّة ببساطة، ليست جزءًا من تقاليد حكومة البلاد، إذ يلتزم الوزراء والوزيرات باتباع مبدأ أشار إليه  فيستر نفسه مرارًا وتكرارًا منذ انتخابه: الزمالة بين الأعضاء. 

قرارات جماعيّة وصوت واحد  

وتُعتبر الزمالة (collegiality) بين الأعضاء، المنصوص عليها في المادّة 177 من الدستور الفدراليّ، عنصرًا مهمًّا       يُسهم في أهداف السياسة السويسريّة الأساسيّة، مثل تحقيق التوافق وضمان عدم احتكار أيّ شخص للسلطة. وبذلك، تكون الحكومة جماعيّة وغير هرميّة، إذ يتّخذ الوزيرات والوزراء، الذين يمثّلون أكبر أربعة أحزاب في البلاد، القرارات على قدم المساواة، دون وجود رئيس وزراء يتحكّم في مجريات الأمور. (يُتناوَب على رئاسة الحكومة بين الوزراء السبعة كلّ عام، وهو دور شرفيّ وتنسيقيّ إلى حدّ كبير).  

وبمجرّد اتّخاذ القرارات، سواء كانت بالإجماع أو بالأغلبيّة، يتعيّن على جميع الوزيرات والوزراء الدفاع عنها علنًا، فيما تتراجع المواقف الشخصيّة أو الحزبيّة بعد اتّخاذ القرار. 

اقرأ.ي المزيد عن كيفية عمل نظام الرئاسة الدورية السنوية الفريدة من نوعها في سويسرا:

المزيد
صورة لأعضاء الحكومة السويسرية يجلسون حول طاولة كبيرة

المزيد

في سويسرا يُوجد أكبر عدد من “الرؤساء السابقين”.. إليك الأسباب!

تم نشر هذا المحتوى على في سويسرا، يمكن إحصاء 19 عضواً في “جمعية الرؤساء الأحياء السابقين”. لكن ما الذي يعنيه هذا الرقم القياسي؟

طالع المزيدفي سويسرا يُوجد أكبر عدد من “الرؤساء السابقين”.. إليك الأسباب!

ففي عام 2023، أطلقت الحكومة حملة لدعم قانون جديد يهدف إلى تحقيق الحياد المناخيّ بحلول عام 2050. لكن عارض حزب الشعب السويسريّ اليمينيّ، الذي ينتمي إليه وزير البيئة، ألبرت روشتّي، هذا القانون. ويُذكر أنّ روشتّي، الذي شغل سابقًا رئاسة حزب الشعب السويسريّ، كانت له علاقات مع قطاع النفط قبل تولّيه منصبه الحاليّ. ومن غير المعروف كيف كان سيكون موقفه من القانون لو لم يكن وزيرًا… ومن المرجّح أنّنا لن نعرف أبدًا. ولكن بعد أن حدّدت الحكومة موقفها، انخرط روشتّي  في الدفاع عن مشروع الحكومة علنًا، ويعمل الآن على تنفيذه. 

وفي هذه الأثناء، وللحفاظ على هذا الشعور بالوحدة، تعقد اجتماعات الحكومة بعيدا عن الأنظار، ولا يُكشَف عن البروتوكولات إلاّ بعد مرور 30 عامًا، ما لم تحدث تسريبات من هنا أو هناك. 

26 كانتونا
”واحد للكل، الكل للواحد“: شعار غير رسمي في سويسرا، حيث يشير أيضًا إلى الاتحاد الفيدرالي للكانتونات الستة والعشرين. Keystone / Peter Klaunzer

استقرار وظيفيّ 

ويخلق هذا الوضع لدى بعض الوزراء نوعًا من التناقض الداخليّ، فليس من السهل أن تروّج لسياسة في العلن، وأنت تعارضها في السرّ. كما أنّه ليس من السهل أيضًا، أن تجادل ضدّ شيء يحظى بشعبيّة كبيرة بين صفوف حزبك. وقد اضطرت وزيرة الداخليّة، إليزابيت باوم-شنايدر من الحزب الاشتراكيّ اليساريّ، إلى تزعّم حملة الحكومة ضدّ زيادة المعاشات التقاعديّة، في خلاف تامّ مع مواقف حزبها.  

وبالطبع، في الديمقراطيّات الليبراليّة الأخرى، يتعيّن على أعضاء الحكومة الالتزام بسياسة الحكومة أيضًا. وفي بعض الأحيان، لا يكون واضحًا ما إذا كان هذا الالتزام نابعًا من قناعة، أو من براغماتيّة، أو من ولاء مطلق لقائد قويّ، مثل ترامب، على سبيل المثال. 

غير أنّ الوزيرات والوزراء في الديمقراطيّات الأخرى، غالبًا ما يغادرون مناصبهم سريعًا؛ يُقالون عند ارتكابهم أخطاء، أو يستقيلون عندما لا يتفقون مع سياسات الحكومة، وربما يصوّت المواطنون والمواطنات على إقالتهم في انتخابات عامّة.  

وبالنسبة إلى الوزراء في سويسرا، يحصلون على وعد بالأمان الوظيفيّ، كتعويض عن عدم الإفصاح عن آرائهم الشخصيّة. ورغم أنّ البرلمان يمكنه، من الناحية النظرية، استبدالهم كلّ أربع سنوات أثناء التصويت على تجديد تشكيل الحكومة، فإنّ هذا الأمر نادر الحدوث. ونتيجة لذلك، تستمرّ فترات ولايتهم لفترة طويلة. فمنذ تأسيس الدولة السويسريّة الحديثة في عام 1848، تجاوز متوسّط المدّة أكثر من عشر سنوات. 

”انعدام المسؤوليّة“ أم ’المصير المشترك’؟  

وقد يبدو هذا الأمر غير مألوف للبعض، الذين يعتقدون أنّ الأخطاء تستدعي العقاب الصارم. فقد أشار المحلّل السياسيّ، مايكل هيرمان، إلى أنّ طبيعة الحكومة الجماعيّة، بالإضافة إلى أساليب سويسريّة أخرى، مثل الفدراليّة والديمقراطيّة المباشرة، قد تؤدّي إلى “نقص في المسؤوليّة”. فعندما تُتّخذ القرارات بطريقة “الجميع ولا أحد”، يصبح من الصعب تحديد من يمكن محاسبته، كما يُشير هذا الرأي. 

كيف تمنح الديمقراطية المباشرة المواطنين قدرة التأثير في الشؤون الوطنية – وفي اختيار ممثليهم المنتخبين:

المزيد
الديمقراطية السويسرية

المزيد

من الفكرة إلى الاقتراع: كيف يضع الشعب السويسري قوانينه؟

تم نشر هذا المحتوى على ترغب الكثير من الشعوب في رؤية بلدانها تنظم اقتراعات شعبية مثل تلك الموجودة في سويسرا. ولكن ما هي آليات الديمقراطية المباشرة في هذا البلد؟

طالع المزيدمن الفكرة إلى الاقتراع: كيف يضع الشعب السويسري قوانينه؟

ويعتقد البعض أنّ اتخاذ القرارات بشكل جماعيّ، يساعد في تجنّب الأزمات الناجمة عن الانقسامات السياسيّة. وقد أشار كاسبار فيليغر، الوزير السابق الذي تولّى منصبه من عام 1989 حتى عام 2003، إلى أنّ خطر حدوث انهيارات سياسيّة أو اقتصاديّة خطيرة، يزداد عندما يكون هناك “عدم سيطرة” على السلطة التنفيذيّة. وفي مقال له نُشر في عام 2023، شدّد فيليغر على أنّ الوزراء السويسريّين يمكنهم “تحمّل عدم الشعبية”، إذا كان ذلك يصبّ في مصلحة البلاد. كما يعتقد أنّ البقاء لفترات طويلة في المناصب، يُسهم في تراكم الخبرة، والمعرفة المتخصّصة. 

وبشكل أقلّ واقعيّة، يُنظر إلى الزمالة في بعض الأحيان على أنّها قيمة في حدّ ذاتها، وهي عنصر أساسيّ في شخصيّة ”الحكماء السبعة“، كما يُطلق على الوزراء أحيانًا.   

ويكتب فيليغر كيف “يمكن أن ينشأ شعور جماعيّ، بل وإحساس بالمصير المشترك، تنبثق منه إرادة جماعيّة قويّة لأداء أعلى من المتوسّط”. وقارن وزير سابق آخر، هو ديدييه بوركهالتر، بين الزمالة، لا سيّما تجنّب المشاحنات العلنيّة، وبين صورة ”الجدار“ الواقي الذي يحمي عمل الحكومة. 

الحكومة السويسرية
مشهد نادر من خلف الأبواب المغلقة: اجتماع الحكومة السويسرية في أوائل عام 2025. Keystone / Peter Klaunzer

شقوق في الجدار  

ومع ذلك، وبالنظر إلى انتماء الوزراء إلى أربعة أحزاب مختلفة تمامًا، والسياسيّون طموحون واستراتيجيّون بطبيعتهم، فلا يصمد ذلك “الجدار” دائمًا. فتبقى التسريبات، والخلافات السياسيّة، والمكائد النفعيّة، كامنة  ومتخفيّة.  

ومع ذلك، من الصعب القول ما إذا كانت ”خروقات“ الزمالة قد ازدادت في السنوات الأخيرة. وغالبًا ما يقال إنّ هذا المبدأ تعترضه تحدّيات جمّة. وقد سبق لنا في سويس إنفو (SWI swissinfo.ch) أن كتبنا في عام 2006، أنّ الزمالة ”تعرّضت لضغوط شديدة بسبب الاستقطاب السياسيّ في البلاد”. كما أشارت تكهّنات وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، خاصّة بعد استقالة وزيرة الدفاع السابقة، فيولا أمهيرد، إلى “أجواء بعيدة تمامًا عن روح العمل الجماعيّ داخل الحكومة”.  

ولكن بشكل عامّ، ليس المبدأ المعمول به منذ 177 عامًا، موضع تساؤل. ويقول باسكال سيياريني، الأستاذ في جامعة جنيف والمحرّر المشارك لدليل أكسفورد للسياسة السويسريّة: ”النخب السياسيّة متمسّكة به“. 

ويشرح سيياريني أنّ الزمالة، بالأحرى، تواجه تحدّيات أخرى؛ أحدها ”التقسيم الإداريّ“. فبالمقارنة مع عام 1848، عندما أُنشئت الحكومة، أصبح العالم اليوم معقّدًا للغاية. ونظرًا لوجود سبع وزارات فقط، يَضطرّ الوزراء بشكل متزايد إلى التركيز على مجالاتهم السياسيّة الخاصّة  (الواسعة جدًا)، ما يمكن أن يشتّت انتباههم عن الصورة الاستراتيجيّة الأشمل، ويفقدهم القدرة على إبداء الرأي في الأفكار القادمة من الوزارات الأخرى.  

وقد تتمثّل إحدى طرق تقليل عبء العمل في زيادة عدد الوزارات؛ ففي نهاية المطاف، قد يكون لدى الدول الأخرى عشرات الوزارات في بعض الأحيان. ولكن هنا، يمكن أن يكون جانب المفارقة السلبيّ هو المزيد من الخلافات وتقليل الوحدة. فيقول سياريني: ”من الصعب الحفاظ على الزمالة مع سبعة وزراء“. 

الافتقار إلى القيادة  

أما بالنسبة إلى الحكومة الحاليّة، فيرى سياريني أنّها ”تلتزم مقتضيات الزمالة إلى حدّ بعيد“.  لكنّه في الوقت نفسه، يعتبر أنّها تفتقر إلى روح القيادة في أهمّ قضيّة استراتيجيّة تواجه سويسرا في السنوات المقبلة: العلاقات بالاتحاد الأوروبيّ، وفق الكثيرين. 

فهل يمكن لهيكل حكوميّ مختلف أن يساعد في تعزيز مثل هذه القيادة؟ ليس بالضرورة، كما يعتقد سياريني. فبالنسبة إليه، يعود الأمر، بالأحرى، إلى الحكومة ككلّ لإصدار بيان علنيّ قويّ وموحّد لتوضيح موقفها. وهذا من شأنه أن يفسح المجال أمام الوزراء، السبعة جميعًا، ليصبحوا أكثر نشاطًا في الترويج له. فيقول سياريني: ”لا يوجد تناقض بين القيادة والزمالة“.

ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي

مراجعة: مي المهدي

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية