The Swiss voice in the world since 1935
أهم الأخبار
النشرة الإخبارية
أهم الأخبار
نقاشات
أهم الأخبار
النشرة الإخبارية

جامعة سويسرية تفكّ ألغاز العصور الجليدية لفهم المناخ

جليد
يقوم الباحث فلوريان كراوس بتخزين الجليد الذي جُلب من القارة القطبية الجنوبية في غرفة بدرجة حرارة -50° مئوية في جامعة برن. Luigi Jorio / SWI swissinfo

يقوم فريق بحثي من جامعة برن بتحليل بعضٍ من أقدم عينات الجليد على كوكب الأرض باستخدام تقنية ثورية. هدف الفريق تسليط الضوء على أحد أهم الألغاز التي تلفّ مناخ الأرض.

يسير فلوريان كراوس بخطى سريعة؛ ليس لديه وقت يضيعه. يحمل في يده حقيبة عازلة للحرارة، بها قطعة جليد في حجم قالب صابون. هذه القطعة ثمينة للغاية، حتى لا يمكن تعريضها لأي خطر. فهي عينة من الجليد فريدة من نوعها، تعود إلى أكثر من 1،2 مليون عام. ويقول: “لا مجال للخطأ، لكنني متشوّق للغاية لدراسة قطعة جليد بهذا التميز”.  

وكان الباحث في جامعة برن، قد استعاد قطعة الجليد من غرفة واقعة بمعهد الفيزياء المناخية والبيئية، حيث يتم الحفاظ على درجة الحرارة بداخلها عند 50 درجة مئوية تحت الصفر. إنها المنشأة الوحيدة في أوروبا، المحافظة على هذه الدرجة من البرودة، وقد صُممت لتخزين عينات الجليد القديمة، والمحتاجة لعناية خاصة. 

تحتوي الغرفة على عينات تم أخذها من القارة القطبية الجنوبية في يناير الماضي، من عمق قياسي يزيد عن 2,500 متر. ويتم حفظ هذه العينات في إطار مشروع أوروبي يُدعى ما بعد “إيبيكا”رابط خارجي (EPICA) – أقدم جليد على الأرض. ويهدف المشروع إلى فحص الجليد المتكوّن منذ أكثر من مليون عام، من أجل فهم كيفية كيف تغير المناخ بشكل أفضل، وتقييم تأثير الإنسان فيه على المدى البعيد. 

نظّف كراوس العينة من أي تلوّث محتمل، وأخذها إلى المختبر. فهو يريد تحليل الفقاعات الهوائية الصغيرة المحبوسة داخل الجليد، لقياس نسبة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون، وغيره من غازات الاحتباس الحراري. ستمكّنه هذه الدراسة من تكوين فكرة عن مكونات الغلاف الجوي في العصور السحيقة. كما يأمل استطاعة حل أحد أكبر الألغاز في علم دراسة المناخ القديم، المُتمحوِر حول السؤال التالي: لماذا أصبحت فترات تكوّن العصور الجليدية وتحرّكها، أطول وأكثر شدة؟ 

يوضح كراوس إعادة العلماء تكوين صورة عن ظروف المناخ خلال الـ 800 ألف عام الماضية، باستخدام عينة جليدية سابقة. ويضيف: “لكننا لا نعرف لماذا تغيّرت وتيرة حدوث العصور الجليدية على الأرض، منذ نحو مليون عام”. قد توفر عينات الجليد الجديدة أدلة مهمة، ما لا يساهم في فهمنا للماضي فقط، بل أيضًا في تحسين التنبؤات بشأن مناخ الكوكب في المستقبل. 

عينة
عينة الجليد المستخرجة على عمق 2492 مترًا في القارة القطبية الجنوبية جا Luigi Jorio / SWI swissinfo

استخراج الهواء من الجليد بالليزر

في المختبر، يضع كراوس عينة الجليد داخل أسطوانة مطلية بالذهب، في وسط جهاز معدني متصل بعشرات الأنابيب والأسلاك، ويقول: “هنا تحدث المعجزة”.  

داخل الأسطوانة المفرغة من الهواء، تتعرض عينة الجليد لحزمة من الأشعة تحت الحمراء تخترقها من الأعلى إلى الأسفل. يقوم الليزر بتحويل الجليد من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية (بخار ماء) مباشرة دون المرور بالحالة السائلة. تُدعى هذه العملية “التسامي”، وتقوم بتحرير الهواء المحبوس في الفقاعات المجهرية الموجودة في أقدم العينات.

مقارنة بالطرق الميكانيكية التقليدية التي تتضمن تكسير الجليد أو تقطيعه إلى شرائح رقيقة، توفر عملية “التسامي” ميزة الاستخلاص بكفاءة تصل إلى 100%. ويشرح كراوس: “بإمكاننا استخلاص كل الهواء المحبوس في الجليد دون أن نلوثه بالهواء المحيط”. ومع غياب مرحلة التحول إلى سائل يُمنع ثاني أكسيد الكربون المحرر من الذوبان في الماء، ما قد يؤدي إلى تغيير النتائج.

ويُجمَّد الهواء مباشرة بعد تحريره عند درجة حرارة تقارب 258 درجة مئوية تحت الصفر. ويتيح القيام بذلك حفظ الهواء، وتحليله لاحقًا باستخدام مطياف، لتحديد تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، وغاز الميثان (CH₄)، وغاز أكسيد النيتروس (N₂O)، فضلًا عن التركيب النظائري لثاني أكسيد الكربون. وهو أمر مفيد في إعادة تكوين ظروف المناخ في الماضي. 

تقنية ثورية لدراسة الجليد القديم

تنشط جامعة برن في أبحاث النواة الجليدية منذ ستينات القرن الماضي، وتُعتبر طريقتها الجديدة في دراسة الجليد ثورية، وفريدة من نوعها عالميًارابط خارجي ، وقد طُوّرت بالتعاون مع المختبرات الفيدرالية السويسرية لعلوم وتكنولوجيا المواد، “إمبا” (EMPA)، بهدف تحليل أقدم العينات الجليدية بدقة عالية. 

ويكون الجليد العائد تاريخه إلى أكثر من 1،2 مليون عام، مضغوطًا لدرجة أن الفقاعات الهوائية لم تعد مرئية. ويحتوي متر واحد من الجليد على سجل تاريخي للمناخ، يمتد لأكثر من 10،000 عام. ومن أجل تحليل تغيرات غازات الاحتباس الحراري النسبية داخله، يحتاج العلماء إلى وجود سجل مستمر، يتميز بالدقة العالية وموثوق في نتائجه، ويُتاح ذلك فقط عبر استخدام تقنية التسامي الجديدة.  

ومن بين مزايا هذه الطريقة أيضًا إمكانية إعادة استخدام الهواء المستخلص لإجراء المزيد من الدراسات. يقول هوبرتوس فيشر، أستاذ الفيزياء المناخية التجريبية ورئيس فريق البحث: “إنها إعادة تدوير مثالية. ولن يكون مثل هذا الأسلوب المعقد مبررًا في حالة نواة الجليد العادية. لكنه يصبح مبررًا حين تكون كمية الجليد القديم المتاحة، محدودة للغاية”. 

الشيطان يكمن في التفاصيل

يُعد الفريق البحثي السويسري رائدًا في استخدام هذه التقنية، على الرغم من الجهود التي تبذلها مختبرات في الولايات المتحدة وأستراليا من أجل تطوير تقنيات مشابهة. يقول فيشر: “ليس لدي مشكلة في شرح كيفية عمله لزملائي وزميلاتي”. وقد عمل الأستاذ الجامعي على هذا الجهاز لأكثر من خمس أعوام. واستطرد قائلا: “لكن نظام عمل الجهاز معقّد للغاية؛ يكمن الشيطان في التفاصيل”.  

 في مقابلة أجريت عام 2023، صرّحرابط خارجي كريستو بويزرت، رئيس وحدة تحليل الجليد في مشروع مركز استكشاف الجليد الأقدم (COLDEX)، النظير الأمريكي للمشروع الأوروبي “ما بعد إيبيكا”، قائلًا إنّ تنقية التسامي للجليد “شديدة التعقيد من حيث التنفيذ. ونجاحهم.هنّ [الباحثون والباحثات في سويسرا] في تشغيلها أمر مذهل للغاية”.  

نظام جديد
يعد جهاز تحليل الجليد القديم الذي تم تطويره في جامعة برن فريدًا من نوعه في العالم. Luigi Jorio / SWI swissinfo

كما طورت جامعة برن تقنية ثانيةرابط خارجي لتحليل كَمّيَّة الغازات الخاملة المحبوسة في الجليد. وتساعد هذه الغازات، ومن ضمنها غاز الأرجون وغاز الكريبتون، في تحديد درجات حرارة المحيطات في الماضي.

تاريخ المناخ في جليد عمره 1,2 مليون عام

جامعة برن، واحدة من بين 12 معهدًا من نحو عشرة بلدان تشارك في مشروع “ما بعد إيبيكا”، المنطلق عام 2009. ويختص كل معهد بمجال مختلف. 

الجامعة السويسرية ضمن من يتركز عملهم.هنّ على تحليل غازات الاحتباس الحراري، والمركبات الكيميائية الذائبة في الجليد. بينما تدرس فرق البحث في بلدان أخرى، على سبيل المثال، تطور درجات الحرارة، والرماد البركاني الموجود في الجليد، وبنية الجليد البلورية. 

ويهدف هذا المشروع إلى إعادة تكوين تاريخ مناخ الأرض، من خلال تحليل دراسة عينات الجليد المستخرجة من القارة القطبية الجنوبية. وتتراكم الثلوج عامًا بعد عام في هذه المنطقة القطبية، وتنضغط لتُشكل طبقات جليدية تتزايد باستمرار في العمق، والقدم. 

وبعد مشروع حفر تم تنفيذه قبل حوالي 20 عامًا، وأدّى إلى استخراج قطعة جليدية يعود عمرها إلى نحو 800 ألف عام، حفر مشروع ما بعد إيبيكا على عمق 2،500 متر مؤخرًا، لاستخراج عينة جديدة من الجليد ضمن المساعي الرامية لتمديد السجل الخاص بالمناخ، ليصل إلى ما بين 1،2 و1،5 مليون سنة.  

مكان الجليد
منظر جوي لموقع الحفر Little Dome C في القارة القطبية الجنوبية، حيث تم استخراج الجليد كجزء من المشروع الأوروبي، ما بعد إبيكا. PNRA_IPEV

“أحد ألغاز علم المناخ الأكثر تعقيدًا”

يأمل الباحثون والباحثات، من خلال هذه العينات الجديدة، في الكشف عن سبب التغير الكبير الطارئ على النظام المناخي خلال العصر البليستوسيني الأوسط. ففي تلك الحقبة الزمنية الممتدة بين 900 ألف و1،2 مليون عام مضت، شهدت الصفائح الجليدية في نصف الكرة الشمالي، تقلبات جذرية كان لها أثر بالغ في المناخ. 

وزاد الفاصل الزمني بين الفترات الجليدية الباردة والفترات الدافئة، المتخلِّلة للعصور الجليدية من نحو 40 ألف سنة، إلى 100 ألف سنة. كما شهدت كَمّيَّة الجليد على الأرض خلال العصور الجليدية، زيادة كبيرة. وبحسب جامعة برن، يُعد هذا التغير “أحد أكثر ألغاز علم المناخ تعقيدًا”. 

ويرتبط التناوب بين الفترات الجليدية والدافئة، بدورات الأرض المدارية حول الشمس. ولكن، بما أن تباين هذه المعطيات لم يتغير خلال المليوني عام الماضيين، فلا يمكن للشمس أن تكون السبب في تغير وتيرة العصور الجليدية. ويوضح هوبرتوس فيشر: “نشك في أنّ التغيير في تركيزات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي هو السبب وراء ذلك. والطريقة الوحيدة للتحقق من ذلك، هي تحليل فقاعات الهواء في الجليد”. 

وتعد دراسة عينات الجليد ضرورية لتحسين نماذج المناخ، والتنبؤ بتطوره في المستقبل. فهناك منافسة علمية صحية على الصعيد الدولي، لاستخراج أقدم عينات جليد. ويقول هوبرتوس فيشر: “لكن المشروع الأوروبي هو الوحيد الذي قام بالفعل بالحفر، واستخراج عينة جليد متواصلة بالكامل. في حين بدأت المعاهد اليابانية، والأسترالية للتو جهود الحفر التي ستستمر لعدة أعوام”. 

نصف إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مقارنة باليوم

لم يحلّل كراوس حتى الآن، سوى جزء صغير من عينات الجليد المستخرجة من القارة القطبية الجنوبية. ويقول: “من المبكر جدًا استخلاص استنتاجات نهائية”.  

لكن الباحث متأكد تمامًا من بلوغ تركيزات غاز ثاني أكسيد الكربون في فقاعات هواء نحو نصف المستويات الحالية في الغلاف الجوي، حيث ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون بشكل حاد بسبب استخدام الوقود الأحفوري، وإزالة الغابات.  

ويضيف فلوريان كراوس: “يتضح أثر الإنسان في الغلاف الجوي والمناخ، من خلال تحليل عينات الجليد”.  

أما النتائج الأولية لعمل الفريق البحثي، فمن المتوقع أن يتم نشرها في ربيع عام 2026. 

تحرير: غابي بولارد

ترجمة : إيفون صعيبي

مراجعة: أحمد محمد

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية