الحقيقة المرّة وراء الحياة في فردوس جبال الألب
يختلف الواقع في المراعي الجبلية عن الصورة المثالية التي تقدّمها مسلسلات هايدي التلفزيونية . فالحياة صعبة، تتطلّب الإستيقاظ المبكّر، وقضاء أيّام عمل طويلة، لكنها مليئة بلحظات لا تُنسى. تقرير عن نزول الأبقار السنوي من هينترفيلد، أحد المراعي في كانتون أوري.
تنظر إيفي حولها، وسط قطيع الأبقار، حائرةً تبحث عن أبقارها المفضلة. تضمها إليها، وتعانقها، وتداعبها طويلًا. في هذه الأثناء، يحمِّل المزارعون ماشيتهم على المقطورات لإعادتها إلى الحظائر، الواقعة في قاع الوادي. تغرورق عينا إيفي بالدموع. ومديرةً رأسها نحو المروج الخالية، التي كانت تضمّ في السابق نحو سبعين بقرة أو يزيد، تقول: “الآن، انتهى كلّ شيء”.
لقد تجاوزت الساعة الثانية عشرة ظهرًا بقليل في فاسن، بكانتون أوري. قبل بضع ساعات فقط، اتّجهت الأنظار نحو المشهد الأكثر انتظارًا في موسم المراعي الجبلية؛ نزول الأبقار من مرعى هينترفيلد في وادي ميين، الواقع أسفل ممر سوستن بقليل. .
نزول الأبقار من المراعي: تقليد ما زال حيّا
بينما كانت السيارات تتجمع كما المعتاد عند مدخل نفق غوتهارد في عطلة نهاية كل أسبوع، اجتاحت شوارع القرية، الشهيرة بكنيستها، مسيرة ملونة وصاخبة من نوع آخر. كانت ماعز إيفيلين في الصدارة. تلتها أول مجموعة من الأبقار، يقودها الراعيان أدريان وتوم. وبعد حوالي عشر دقائق، انضمت إليهم المجموعة الثانية، بقيادة صانعة الجبن ساندرا، ومساعدتها إيفي.
استقبل هذا الموكب الجبلي صفّان من الحشود، إذ شارك حوالي ألفي شخص، من السياح والسائحات وأبناء وبنات المنطقة، في هذا التقليد المحيي لذكرى عالم مثالي وبعيد. وقد التقطت الحشود العديد من المشاهد التي بدت غير واقعية، من خلال شاشات الهواتف المحمولة.
يُحسن رعاة الجبال عرض نزول الأبقار من المراعي. فتمتلئ قلوبهم.ن بالفخر عند السير في مقدمة القطيع. إذ يبدأ عرض أجمل الرؤوس التي تمت رعايتها، والاعتناء بها طوال فصل الصيف. وبول إيب، هو أكثر من يستمتع بهذه التقاليد. فهو من يتولى تنظيم نزول الأبقار الموسمي من مرعى هينترفيلد، منذ ما يقارب 30 عامًا.
يقول الرجل البالغ من العمر 66 عامًا: “يمتلئ قلبي فرحًا عندما أرى الأبقار مزيّنة بالأكاليل، وحاملة أجراس الاستعراض حول أعناقها”. وهو يكرّس أيامًا وليالي عديدة في إصلاح زينات، وصناعة أخرى جديدة؛ أكاليل تُثبّت على ظهور الحيوانات وصدورها، وتيجان وزخارف للرأس، وأشرطة للأنف.
وتُمنح الأبقار القائدة اهتمامًا خاصًا، فتُزيَّن بأجمل الزينات. وحول عنق كل بقرة، يعلَّق جرس يمكن أن يصل وزنه إلى 15 كيلوغرامًا. ويشير إيب مبتسمًا: “تنتظر البقرة هذه اللحظة بترقّب، مثلنا تمامًا، وستشعر بخيبة أمل إذا لم تحظ بالعناية اللازمة”.
“هذا ليس عالم هايدي”
ربما يكون القميص الأبيض النظيف الذي يرتديه الرعاة تحت الملابس التقليدية المخصصة للجبال، أو المشاهد الريفية التي نراها على التلفاز، هي ما تزوّدنا بصورة مشوّهة ومثالية عن الحياة في المراعي الجبلية. فالحقيقة مختلفة تمامًا.
تصف ساندرا إيغل الحياة اليومية في مرعى هينترفيلد قائلة: “يرن المنبّه الساعة 3:45 صباحًا، على مدار سبعة أيام في الأسبوع. اليوم، وخاصة في الأسابيع الأولى. ولا ينتهي العمل اليومي قبل الساعة 8 مساءً، ويمتدّ إلى حوالي 17 ساعة يوميًا”.
تقول ساندرا، صانعة الجبن الناشئة في فيغارميش-بارتنكيرشن، إنّها لم تفوّت دعوة الجبال لها منذ 15 عامًا. وتبتسم حين تقول: “في فصل الربيع، أشعر دائمًا بشيء يشبه مرض المراعي. الحياة صعبة؛ نعمل بلا توقف لمدة مئة يوم. وليس التكيف مع أشخاص غرباء في بداية الموسم، بالأمر السهل. هذا ليس عالم هايدي”. ومع ذلك، تعشق ساندرا الحياة في مراعي جبال الألب. وتستمتع بمشاهدة تحول العشب الذي تأكله الأبقار إلى حليب، ثم إلى جبن يصل إلى مائدة كل سائح.
خلال ثلاثة أشهر من الحياة في مراعي جبال الألب، يُعالج حوالي 115،000 لتر من الحليب، ويصنّع منه نحو 11 طنًا من جبن المراعي، ومشتقات ألبان أخرى مثل الزبادي، والزبدة، والزيغر (نوع من الريكوتا).
يقضي توم، الناشئ في كانتون أوري، صيفيته الثانية في المرعى الواقع عند ممر سوستن. ويقول الشاب، العامل الميكانيكي في مجال معدات البناء، في الأصل: “في العام الماضي، توليت مسؤولية العجول في الشهر الأخير، بدلًا مِن شخص كان قد استقال قبل نهاية الموسم. أعجبني الأمر للغاية إلى درجة أنّني أردت العودة. لكن، كراع للأبقار الحلوب هذه المرّة. هنا، لا أحد يتحكّم فيّ، وأقضي وقتي في الهواء الطلق دائمًا”.
ويشير الشاب أيضًا إلى مشقّة العمل. لكنه، كابن مزارع، كان يعرف تمامًا ما ينتظره. فعلى سبيل المثال، كانت اللحظات قبل شروق الشمس، عندما تتوّج أشعة الشمس قمم الجبال، تملأ قلبه فرحًا. ويضيف: “يمكنني الاعتناء بالأبقار كما لو كانت ملكي، عبر رعايتها، والتعرف عليها واحدة تلو الأخرى، ومعرفة طباعها وأسمائها”.
معكرونة ونقانق وحلم يوشك أن يصل إلى نهايته
كل صيف، يستقبل مرعى هينترفيلد نحو مئة بقرة حلوب، وخمسين عجلة تابعة لـ13 مزارعًا ومزارعةً من كانتون أوري. تمتد المراعي من قرية فيرنيغن، الواقعة عند سفح ممر سوستن. ويقع الكوخ، والحظيرة على ارتفاع يناهز 1،700 متر. ويمكن الوصول إليهما بالسيارة. ويُدار المرعى من قبل تعاونية تعيّن كل عام لجنة مسؤولة عن موسم المراعي الجبلية وعن العاملين.ات فيها. وخلال الأشهر الثلاثة من الصيف، يُعالج حوالي 115،000 لتر من الحليب، ويصنّع منه نحو 11 طنًا من جبن المراعي ومشتقات ألبان أخرى مثل الزبادي، والزبدة، والزيغر (نوع من الريكوتا).
ويشرح أدريان أرنولد، رئيس التعاونية: “خلال فصل الصيف، تُقاس إنتاجية كلّ بقرة من الحليب ثلاث مرات: في نهاية يونيو، وفي نهاية يوليو، وفي بداية سبتمبر. وانطلاقًا من هذه البيانات، يُحسب مردود كل حيوان، وبالتالي كمية الجبن الخاصّة بكل مربي.ة ماشية”. هذا التوزيع أساسي. إذ يضمن بيع الجبن للمزارعين والمزارعات مداخيل ناتجة عن أشهر مكوث الأبقار في المراعي الجبلية.
أدريان أرنولد سعيد بجودة الجبن المنتج هذا العام، ومقتنع بإنهائه بيعه بالكامل بحلول شهر يناير. وحتى ذلك الحين، سيكون راعي العجول، أدريان بيترمان، الخبّاز وصانع الحلويات، قد أخرج من فرنه أطنانًا من الخبز، وآلاف الحلويات التقليدية الخاصة بموسم الميلاد في مدينته، لوتسيرن.
وبيديه المغبرتين بالطحين، قد يعود بفكره إلى لحظات الفجر التي قضاها عندما كان يحلب أبقاره، آيتا، أليسا، تيليغيرل أو سالينا. يقول الشاب العشريني متذوّقًا طبقًا من المعكرونة بالجبن والقشدة مع نقانق، أعدّتها الطاهية باتريسيا فورر، لاعبة دور الأم أيضًا خلال فصل الصيف: “لا تدور الحياة في المرعى على إيقاع تحدده عقارب الساعة، بل تنسجم مع توقيت الحيوانات والطبيعة. وهذا أجمل ما في المرعى! أشتاق الآن للعودة إلى حضن عائلتي وأصدقائي. لكني متأكد أنني سأفتقد كل تفاصيل حياتي هنا، قريبًا”. كما سيفتقد أيضًا إيفي، التي شاركها لحظات جميلة من البهجة، حتى في الليلة الأخيرة عندما بدآ يرقصان في الحظيرة الفارغة.
أما بالنسبة إلى إيفي، فقد انتهى حلم حياة لطالما راودها مع النزول من المرعى، قضاء فصل صيف كامل في جبال الألب. وتقول: “هنا، يجد المرء نفسه في عالم مختلف، ومحميّ، وبعيد عن الكثير من المؤثرات الخارجية”، مضيفة أنها لم تعتد فعلاً على الاستيقاظ المبكر. وحين طُلب منها رواية أجمل تجربة عاشتها، قالت وعيناها تلمعان: “عندما تعرّفت الأبقار على صوتي، وتبعتني للوصول إلى مرعى آخر”.
اليوم، تُعتبر التعليمات الخاصة بالرواتب في كانتون غرابوندن، بمثابة نموذج لباقي الكانتونات السويسرية. لكن، وكما هو الحال دائمًا، يجب التعامل مع هذه الأرقام بحذر. إذ قد تختلف الحقيقة العملية عن المذكور على الورق.
في مراعي غرابوندن، يتقاضى صانع الجبن أوصانعته بين 180 و258 فرنكًا سويسريًا في اليوم، بينما يحصل مساعد.ة صانع.ة الجبن، أو رعاة الأبقار الحلوب والأبقار المرضعات أو العجول، على مبلغ يتراوح بين 159 و242 فرنكًا. ويختلف الراتب حسب الخبرة، والتدريب.
كما تُحدّد الإرشادات المعتمدة في غرابوندن الخصومات الخاصة بالطعام والسكن. فقد حُدّد بدل السكن بـ 11،50 فرنكًا يوميًا. وتُحسب الوجبات على أساس رسم موحّد: 3،5 فرنكات للفطور، و10 فرنكات للغداء، و8 فرنكات للعشاء. ويعني هذا وصول تكلفة الطعام والسكن اليومية الكاملة إلى 33 فرنكًا، لتبلغ الرسوم ما يصل إلى 990 فرنكًا شهريًا.
وبذلك، يمكن وصول صافي راتب صانعة جبن ذات خبرة وتدريب مناسب، إلى 225،20 فرنكًا يوميًّا. أي ما يقارب 6،800 فرنك شهريًا، لثلاثين يوم من العمل.
بحسب سيلينا دروز، مديرة الجمعية السويسرية للاقتصاد الجبلي، نقص اليد العاملة هو المعضلة الأساسية التي يواجهها قطاع المراعي الجبلية. فيزداد التوظيف صعوبة يومًا بعد يوم لعدّة أسباب؛ العمل شاق، والأيام طويلة، والرواتب متواضعة. وتؤكد دروز قائلةً: “إنّ توفّر اليد العاملة هو ما يحدد القدرة على مواجهة باقي التحديات التي يعاني منها القطاع: تغيّر المناخ، والحيوانات المفترسة الكبيرة، وتوسّع الغابات”.
وتضيف: “على سبيل المثال، يرتفع حدّ الغابات العلوي أكثر فأكثر مع الاحتباس المناخي. ولوقف هذا التوسّع، نحتاج إلى أشخاص يعملون بآلات تقليم، ومناشير. وينطبق هذا أيضًا على وجود الحيوانات المفترسة الكبيرة. إذ ضاعفت عودة الذئب من حجم العمل. ويجب إنشاء الأسوار، وتوظيف رعاة لمراقبة الأغنام، وأشخاص للاهتمام بكلاب الحراسة. وباختصار، إن لم نتمكن من تحفيز عدد كافٍ من الأشخاص على الصعود إلى المراعي الجبلية، فسيكون من الصعب جدًا إيجاد حلول لهذه المشكلات”.
وبالتعاون مع المدرسة الجامعية للعلوم الزراعية والغابات والتغذية في تسوليكوفن، أطلقت الجمعية السويسرية للاقتصاد الجبلي مشروعًا بحثيًا بعنوان: ” يد عاملة جبلية متحمسة ووفية – الشروط الأساسية للعمل في المراعي الجبلية”. ويهدف هذا المشروع إلى فهم كيفية جعل هذه المهنة أكثر جاذبية.
ترجمة: إيفون صعيبي
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلّي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.