مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

رشيد عبّاس.. رسّام يقتبس معانيه من شعوره بافتقاد العراق

يقول الرسام العراقي أن سر النجاح والتفوّق في الحياة الإصرار على البلوغ بالغايات إلى نهاياتها، لكن الكمال غاية لا تدرك. Rashid Abbas

ترافق لوحات رشيد عبّاس تحوّلات الزمن الماكر، وتملأ أعماله الفنية مساحات الصمت العابر، وتحاول إبداعاته فك العزلة والغربة من حوله، في جهد يحوّل أحاسيسه وأفكاره إلى مشاهد فنّية فريدة ومعاني شفافة مسكونة بروح الشرق الفيّاضة.

هي لوحات تترى فيها أشباح الجدران المتهالكة للسقوط.. ومسالك ترابية داكنة.. وهضاب تكسوها ظلال الظهيرة.. ووجوه نسائية شاحبة… إيحاءات ألوانها شرقية وأشكالها غربية تشي بما يسكن هذا الرسام من ذكريات الطفولة في بلد الرافديْن، دون إغفال حاضره وبيئته السويسرية.

هذه الرؤية الوجدانية لم تفارق رشيد عباس منذ مغادرته العراق في عام 1982، وعن ظروف تلك الرحلة، يقول في حديث إلى swissinfo.ch : “غادرت بغداد، رغبة في تطوير أعمالي، والإستفادة من تجارب نظرائي في بلدان أخرى، وكذلك إنقاذ حياتي وتجربتي الفنية حينما كان العراق يخوض حربا شرسة مع إيران”.

سويسرا رغم طول السفر

هذه الرحلة قادته في بدايتها إلى كندا وأوروبا الشرقية، لكن سويسرا كانت نهاية الرحلة، وتعود به ذاكرته إلى بداية الثمانينات فيقول: “أعجبت كثيرا بالطبيعة الخلابة في سويسرا، خاصة وأني قدمت إليها في فصل الربيع، ثم زاد تعلقي بها بعد أن وجدت السويسريين مسالمين يمنحون الأجنبي فرصة لتحقيق ما يصبو إليه بشرط التزامه سلوكا مدنيّا مقبولا، واحترام القوانين النافذة على الجميع”.

والآن وبعد 30 سنة من الإقامة بين مدينتي لوزان وفيفي المتجاورتين، يقول عبّاس: “أنا الآن سعيد بذلك الإختيار… لقد وفّر لي هذا البلد الهدوء الذي أحتاج، والعمل الذي يسد رمقي ورمق أبنائي.. أدرّس في مدارسهم، وأشاركهم مفردات حياتهم، ولديّ الكثير من الأصدقاء من بينهم.. قد يكون هذا من حسن الطالع، وربما اختلفت تجربتي عن تجارب غيري”.

وفي رده عن بعض الأجانب الذي يشتكون من مظاهر التمييز والإقصاء، وما يعتبرونه عنصرية وانغلاقا من طرف المجتمع السويسري، يقول الرسام التشكيلي العراقي: “لقد بتّ مقتنعا تماما أن نظرة أهل هذا البلد إلى الأجانب محكومة بعنصر الكفاءة، فمتى توفّرت هذه الكفاءة لديك، واشتغلت مثلما هم يشتغلون، فلا يهمّهم بعدئذ من أي جنس أو لون أنت”.

القيم الإنسانية واحدة

لئن نجح بعض العرب في افتكاك مواقع متقدمة داخل المجتمع السويسري، إذ نجد من بينهم أساتذة الجامعات، والأطباء المبرزين، والخبراء والتقنيين، فإن جزءً آخر منهم فضّل الإنعزال عن المجتمع بدعوى المحافظة على قيمه الثقافية الأصيلة. وهذا الخيار الأخير لم يعد له من معنى أو جدوى بحسب رشيد عبّاس بعد أن أصبح العالم مجرد “قرية صغيرة يقطعها الإنسان في سويعات قليلة في ظل حركة طيران دائبة… وهل يجب ان نظل نركب الجمال حتى نحافظ على أصالتنا؟”، يتساءل الرسام العراقي.

فالقيم الإنسانية بالنسبة لعباس باتت واحدة في عالم تغزوه أدوات التواصل والاتصال، ولم تعد فيه المعلومة حكرا على أحد: “وبإستثناء الدين، فإن القيم الإنسانية واحدة في كل المجالات، وفي كل الأماكن، ولابد من احترام قواعد اللعبة أينما وُجِدنا”.

هذه الرؤية المنفتحة والمتسامحة تشجع على استفادة الأمم من تجارب بعضها البعض، ومن ذلك قيمة الشعور بالمسؤولية لدي المواطن، التي يتوقف عندها رشيد عباس ليقول: ” قبل أسبوع فقط عدت من زيارة للعراق، ووجدت أطوار العراقيين غريبة، وسلوكاتهم عجيبة، رأيت مثلا سائقي سيارات يرمون من نوافذ سياراتهم قنينات المياه البلاستيكية، غير عابئين بآثارها السلبية على البيئة، وهو سلوك من الصعب أن تراه في سويسرا، ما الفارق بيننا وبينهم سوى الشعور بالمسؤولية الجماعية؟”.

كذلك يتساءل هذا المهاجر العراقي: “لماذا وُفّق السويسريون في إرساء نظام سياسي يمكنهم من تداول السلطة وتقاسمها سلميا، ويختارون رئيسا جديدا  كل عام، في حين لا يغادر رؤساؤنا مناصبهم إلا عبر ثورات شعبية أو انقلابات عسكرية؟”.

الرسام إنسان قبل كل شيء

هذا الوعي الحاد بمفردات التجربة الإنسانية، ثم الإصرار على الإقتراب أكثر ما يمكن من الكمال والإكتمال رغم التحديات، ربما هو ما يفسّر نجاح هذا المبدع في مواصلة مشواره كرسام تشكيلي، وكمدرّس لهذا الفن في المدارس الثانوية بلوزان أوّلا ثم بالمدرسة العليا للفنون التطبيقية بفيفي لاحقا.

ويشدد أستاذ الفن التشكيلي على أن من أسباب النجاح في الحياة “إكمال المشوار الذي نبدأه ومواصلته حتى نهايته، ثم لنا بعد ذلك أن نحكم على نجاحه أو فشله”، وهنا يتذكّر كيف واصل ممارسة هذا العمل الإبداعي خلال مراحل تعليمه المتتالية، وكيف بدأ المشاركة في تنظيم معارض فنية ولم يتجاوز سنه اثني عشر عاما.

ومن رحم هذا الإصرار تولّد طموح أكبر للإلتحاق بأكاديمية الفنون ببغداد، وهو ما حصل فعلا، عندئذ فقط شعر المبدع بانه قد ولج عالم الإحتراف في مجالي الرسم والنحت. أما ما يشغله اليوم فهو “كيفية مواصلة هذا العمل وتحقيق المزيد من الإشعاع لمجموعة أعماله الفنية”، على حد قوله.

أسلوب فني متميّز

هذا الإشعاع الذي يعتقد محدثنا أنه لا يمكن أن يتحقق باستجداء الرعاية من هذه الجهة او تلك، بل من خلال الإختيار الفني الموفق، والحس الذوقي الراقي، ومن خلال التواصل مع الفضاء الثقافي، والإستلهام من التجارب القريبة والبعيدة.

وعن أسرار تعلقه بهذا الفن يقول رشيد عباس: “ما يدفعني إلى مزيد من العمل والبذل هو القيمة الجمالية في ما أنجزه، ولا يهمني بعد ذلك إن كانت الموضوعة سياسية او اجتماعية”. أما ما يفرّق بين فنان مبدع وطفل هاو، فهو سعة الثقافة والإطلاع، والإحتكاك بالمبدعين الآخرين، وبالنسبة لهذا الرسام المحترف: “تظل اللوحة مهما كانت غير مكتملة، تحتاج إلى إضافة، لأن الإبداع بحث دائم عن الكمال. قد يمكننا تصوّر انتهاء العمل في لوحة ما لكن ذلك لا يعني سوى أنها تحظى بحد أدنى من المقبولية”.

أما ما يفرّق بين لوحة وأخرى فهو الأسلوب الذي يختاره هذا الرسام أو غيره. ويشير عباس مثلا إلى أن اختياره للألوان الزاهية المنفتحة في أعماله يسجل حضور ثقافة الشرق، كما تذكّر التقنيات الموظفة فيها ببيئته السويسرية، كما تعكس اختيارات أخرى “الأحاسيس والمشاعر التي أحاطت بلحظة إنجاز ذلك العمل. ويقر رشيد عبّاس بأنه تأثّر في أعماله كثيرا بالحرب الأمريكية على العراق، فلوحة “عبير”، ترمز إلى مدينة المحمودية جنوب بغداد، التي هاجمها الامريكان، وأحرقوها بالكامل، وكذلك لوحة “أبو غريب”، في إشارة إلى سجن أبوغريب الذي شهد أسوأ حالات التعذيب في الألفية الثالثة التي مارسها جنود أمريكيون على المعتقلين فيه من العراقيين والرعايا العرب.

أما الأعمال المنجزة أخيرا، فقد تم الاعتناء فيها أكثر بالبعد الجمالي، واتسمت بتعدد أكبر للألوان، وقد تم إنجاز جزء من هذه الإبداعات في المغرب الأقصى (بدون إسم)، وفي تونس مثل لوحة ” Pyramide ” (الهرم). وقد لقيت ترحيبا كبيرا من طرف الجمهور في كل الأماكن التي عُـرضت فيها.

ابداع عربي في سويسرا

تجربة رشيد عبّاس رغم تميّزها لا تشكل استثناءً في الساحة الإبداعية السويسرية ، إذ يوجد رسامون ونحاتون عرب آخرون لا ينقصون عنه إشعاعا وإبداعا، وقد حصد البعض منهم جوائز ومكافآت في مسابقات عالمية.

ففي الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر 2011، تم افتتاح معرض للرسام العراقي صباح سلمان البصري بقاعة المعارض بمكتبة الزيتونة بجنيف. كذلك يقيم في هذه المدينة الرسّام القدير شفيق النوّاب، ونجد في كانتون تيتشينو الناطق بالإيطالية النحات سليم عبدالله، دون أن ننسى المبدع فائق العبودي مؤسس فضاء الشرق بلوزان، والذي نظّم بمفرده أو بالإشتراك مع العديد من الرسامين الآخرين العشرات من معارض الفن التشكيلي.

رغم أن هؤلاء المبدعين لا يلقون أي رعاية أو دعم لا من وزارات الثقافة في بلدانهم ولا من ممثلياتها الدبلوماسية في سويسرا، فإن هذا لم يمنعهم من مواصلة مشوارهم الإبداعي ومن لفت الأنظار إليهم، وهو ما يقدّم دليلا بينا على أن معركة الإبداع هي معركة المبدعين لا وزارات الثقافة ودواوينها.

1956: ولد في بغداد، العراق

متزوّج من السيدة سعاد العربي، وله أبناء يتابعون دراساتهم بالمدارس والمعاهد السويسرية.

التعليم

 

1974 – 1978: طالب بأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد

1983 -1985: معهد الفنون التشكيلية بجنيف

1987 – 1988: معهد الفنون الجميلة بلوزان

المعارض الشخصية

1983: معرض Monique Piccard  بلوزان.

1987: معرض بجنيف (Arcade de la F.A.G)

1987: معرض Carouge بجنيف

1989: معرض بلوزان (Point Gallery )

1992: معرض بفيفي ( La Luna Gallery)

1998: معرض بمونترو

2005: معرض بأرت غاليري بسانت ليجي.

هذا فضلا على مجموعة كبيرة من المعارض الجماعية منذ 1990، وكان آخرها مشاركته في معرض نظمه فضاء الشرق بلوزان يوم 4 نوفمبر 2011، بمشاركة خمسة رسامين عرب واوروبيين. (أنظر معرض الصور المصاحب).

تجربته المهنية

منذ حلوله بسويسرا عام 1982، عمل رشيد عبّاس إلى جانب أعماله الإبداعية، كمرشد فني بمدارس ثانوية عديدة بلوزان.

بعد ذلك، اشتغل وإلى الآن مدرسا بالمدرسة العليا للفنون التطبيقية بلوزان.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية