مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عراقي غريب في موطنه، سعيد في مهجره

swissinfo.ch

في لوحاته التشكيلية، يستوحي فائق العبودي ألوانه وأفكاره من تاريخ العراق القديم، ويعتبر نفسه حفيد السومريين والبابليين، لكنه لا ينفصل عن واقعه، ويظل مفعما بهموم عراق جريح "يغتاله العنف، وينهبه الغرباء".

ويعيد هذا الفنان التشكيلي الذي لا يخفي سعادته بإقامته في مدينة لوزان، على بعد أمتار من المتحف الأولمبي، وبحيرة ليمان الساحرة، صياغة الماضي العراقي برؤية معاصرة تمزج بين عمق وأصالة.

ويقول في لحظة صفاء: “أحب عملي كثيرا وأحترم جمهوري، وأنجز لوحاتي بحساسية عالية، مفعمة بالحياة والحيوية”. وليس في هذا القول أي اصطناع، “فاللوحة الخالية من الإحساس خالية من الجمال، غير قادرة على محاورة المتلقي، وتظل مجرد قطعة خشبية، أو معدن، أو ورق مقوى معلق على الجدران”، مثلما يشدّد السيد العبّودي.

جمالية شفافة وصادقة

هذا الأمر لا يقتصر على الرسم التشكيلي فقط، بل يشمل أيضا كل الفنون من كتابة وشعر وموسيقى وغناء، ومقياس النجاح الفني بالنسبة لهذا الرسام “هو وصول أثر القطعة الفنية إلى قلب المتلقي، ونجاحها في دغدغة مشاعره”.

أما السبيل إلى ذلك، فهي رؤية جمالية، تعززها صنعة محبوكة تقوم على خلط الألوان الناصعة، واختيار الخامات المناسبة، وإثارة الموضوعات الجادة، “وما أكثرها القضايا التي ترمز إليها لوحات هذا العراقي، في زمن احترفت فيه مؤسسات إعلامية كبرى تشويه كل ما هو عربي وإسلامي، وقصّرت فيه الجهات العربية الرسمية والشعبية عن القيام بدورها في إيصال صورة صادقة عن أوطانها”.

ولا يقبل فائق العبّودي أي تبرير لهذا القصور، أو تفسير العجز بكثرة العراقيل والمصاعب. ومن لديه شك في ذلك، فهو مدعو إلى تأمل تجربته الشخصية، “أوظّف معاناتي الشخصية وأحوّلها إلى طاقة إبداعية، وعند فقدان الشعور بالتحدي، أفتقد القدرة على العمل”. وليس هذا حال فائق العبودي بمفرده، بل إن من يقرأ سير المبدعين والمشاهير، “يجد أنهم قد انحدروا من عائلات فقيرة، ومروا في مشوارهم بمنعرجات صعبة”.

عراقي حتى النخاع

هذا الإحساس بالتحدي ومقارعة الصعاب سمة لها جذورها في السياق العراقي الذي يفخر فائق العبودي بالإنتماء إليه. فمن وسط أتون الحروب المتتالية، ومن تحت رماد الحرائق المتكررة، ورغم ظروف الغزو الخارجي القاسية، تنهض نخبة من الفنانين والمبدعين العراقيين تتعدد محاولاتها للخروج من المأزق الحالي، وتكثر مبادراتها على المستويين السياسي والثقافي داخل العراق وفي الشتات.

وعند الاستفسار عن سبب هذا الحركية العراقية، وعن منبع هذا القلق المتوهّج المتطلع باستمرار إلى النهوض والتغيير، يجيب فائق العبودي بفخر واعتزاز: “في العراق رسم أوّل حرف هجائي على يد السومريين، ووضعت أولى الشرائع على يد البابليين، وفي بغداد، عاصمة الخلافتين الأموية والعباسية نسجت خيوط الحضارة الإسلامية العظيمة”.

هذا التاريخ العراقي الضارب في القدم، وهذا التنوع الذي تزخر به الحياة الثقافية العراقية حاضر بقوة في لوحات فائق العبّودي، الذي يقول: “أوظّف المفردات العراقية القديمة والحديثة، فتبدو لوحاتي كأنها قادمة من زمان بعيد”، بل إن اختياره للألوان محكوم أيضا بانتمائه العراقي، فلوحاته موسومة بحزن أبدي، وهذا الأمر طبيعي على حد عبارة هذا الرسام: “ليس قصدي أن أجعل لوحاتي حزينة، لكن اللوحة في النهاية هي عبارة عن إسقاطات داخلية، ويتوقف دوري على تنظيم تلك الإسقاطات، فأخرجها على شكل لوحة جميلة”.

ويضيف فائق العبودي، في اطمئنان الخبير بموضوعه: “الحزن شعور ملازم للشخصية العراقية، يتوقف دور الرسام أو الفنان، أو الموسيقي في جعل هذا الشعور جميلا وشفافا، مخلوطا بالتفاؤل والحياة”.

“أعشق مدينتي لوزان”

“هروب من الحزن إلى التفاؤل، ومن الموت إلى الحياة”، هو عنوان انتقال فائق العبّودي من بلده الأصلي إلى سويسرا منذ عشر سنوات. ويقول معترفا بجميل هذا البلد عليه: “وجدت سويسرا كامرأة حنون، احتضنتني في زمن الشدة، ورعتني عبر هذه السنين الطوال. أعشق مدينة لوزان التي يسحرني هدوءها، وتأسرني دروبها القديمة”.

ولمن يدعو إلى حب الأوطان، وينتهك حرمة أهلها وحقوقهم، يقول فائق العبوّدي: “أحببت سويسرا لأنني شعرت بالاحترام فيها، وأحسست فيها بإنسانيتي، ووجدت أن القوانين تحميني، ولا أحد يتجرأ على الاعتداء عليك أو إهانتك. أما إذا كنت صاحب حرفة وإبداع، فأنت مكرّم مبجّل”.

وفي لحظة صدق، يقول هذا المهاجر العراقي الذي لم تطأ قدماه العراق منذ خرج منه سنة 1999: “غربتي وأنا في سويسرا، لا تساوي شيئا أمام ما كنت أشعر به من غربة وأنا في العراق”. ولا يقول ذلك نكرانا أو تشفيا، بل في يأس وحسرة: “يحزّ في نفسي أن أقول هذا، ويحزّ في نفس كل مهاجر عربي آخر أن يكون هذا واقعنا”.

وترتبط سويسرا في ذهن العبودي بالنجاح وانطلاق تجربته في آفاق العالمية، وبامتلاك القدرة على إيصال أعماله إلى جمهور كوني يمتد من اليابان إلى الولايات المتحدة ومن كوريا الجنوبية إلى كندا.

آخر معرض نظمه العبودي كان قبل بضعة أشهر بمدينة إيفيان الفرنسية، وخلال شهريْن، ستحتضن مدينة فيرناي فولتار، الفرنسية المحاذية لجنيف معرضه المقبل. ويبدو العبودي سعيدا جدا لكون قاعة العرض، ستكون بمبنى قصر الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتار. ومن دون أدني شك أو ريب، يضيف فائق العبودي: “لو كنت لا أزال حبيس العراق، ما كنت لأحقق ما حققته اليوم”.

ولا يتوقف فضل سويسرا على هذا المهاجر، كما يقر هو نفسه على توفير الهدوء والسكينة وحرية التنقل والقرب من مراكز الثقافة المعاصرة، بل وصل التأثير إلى حد تهذيب الذوق الفني وترشيد اختيار الألوان والأشكال والصور الجمالية “الألوان التي أستخدمها اليوم ليست هي التي كنت استخدمها من قبل. إنها مسألة سليقة فنية، وليست مسالة مصطنعة أو حركة مجاملة”.

ربما هذا ما جعل لوحات هذا الرسام العراقي تجد قبولا وإقبالا في سويسرا، وللمفارقة وصلت لوحات العبّودي إلى السوق السويسرية قبل قدومه شخصيا إلى هذا البلد.

الفن التشكيلي جسر مثالي للتواصل

ينظر الرسام إلى العلاقة بين لوحاته وجمهوره على أنها علاقة حية تفاعلية، لا تقوم على التلقي السلبي بل هي علاقة حوارية. هذه العلاقة لا تقتصر على لغة أو قوم بعينه، وذلك لأن “الرسم التجريدي يتحدث بلغة عالمية مفرداتها اللون، والحرف، والحفر، والزخرفة، والنتوءات، ومن هنا يمكن الإدعاء بان هذا الفن جسر مثالي للوصل بين الثقافات والحضارات”.

لكن، لكل قاعدة استثناء، إذ يمكن ان يتحوّل فن الرسم إلى طريقة لإشاعة الكراهية بين الثقافات، إذا لم يلتزم الرسام بروح المسؤولية، أو استخدم ريشته وقلمه بدافع تحقيق الشهرة، وفي مخالفة صريحة لأخلاقيات الفنون الجميلة وقيمها النبيلة.

هذه الأخلاقية الفنية، يرى السيد العبّودي أن الحضارة الإسلامية قد أعلت من شانها “فلم تهتم الحضارة الإسلامية بالمجسمات، بل طوّرت الفنون التجريدية، فنجد فيها اهتماما بالغا بالكتابة والزخرفة والمنمنمات، وقد امتد تأثير ذلك إلى العديد من القارات”.

ومن المثير للأسف حسب السيد العبّودي هو أن “هذا الطابع الفني لم يترافق اليوم بخطط جماعية تستثمره في الامتداد به إلى الآخر، وفي تحسين صورة العرب والمسلمين”.

ويختتم محاورنا بالقول: “إن اليد الواحدة لا تصفّق، وما دامت عمليات تشويه العرب والافتراء عليهم تتم بإشراف رسمي ومباشر من عدة جهات دولية نافذة، فإن الرد عليها يجب ان يكون أيضا بشكل رسمي وجماعي”.

عبد الحفيظ العبدلي- لوزان – swissinfo.ch

فائق العبودي، خطاط ورسام تشكيلي وفنان متعدد المهارات من اصل عراقي يقيم في لوزان بسويسرا منذ سنة 1999، يقول إنه غادر بلاده لما أدرك انه لم يعد له مكان فيه، وان غربته وهو في بلاده كانت اشد وطأً منها وهو خارجها.

السيد العبودي حاصل على دبلوم من أكاديميةالفنون الجميلة ببغداد، وهو عضو بالجمعية العراقية للفنانيين التشكيليين، وعضو بنقابة الفنانين العراقيين، وبجمعية المصورين العراقيين، وعضو بجمعية الخطاطين العراقيين، كذلك عضو برابطة الفنانيين الإماراتيين، وبالرابطة الدولية للفنانين ومقرها بباريس.

منذ سنة 1990، وحتى اليوم نظم السيد العبودي أو شارك في تنظيم العشرات من معارض الفنون التشكيلية أّولا في العراق، وفي منطقة الخليج العربي، ولاحقا في سويسرا والبلدان المجاورة كإيطاليا وفرنسا، وآخر معارضه كان بطنجة، المدينة المغربية المطلة على جنوب إسبانيا والتي تلقب بملهمة المبدعين.

ومن اشهر المعارض التشكيلية التي نظمها او شارك في تنظيمها العبودي ايضا: المعرض الجماعي الذي احتضنه مركز التبادل الثقافي السويسري العربي (1999)، ومعرض فنون الكتابة العربية بمؤسسة الأطلال بجنيف (2000)، ومعرض مشترك مع الرسامة التشكيلية السويسرية كاترين دوميار بدار السنابل بلوزان (2001)، ومعرض فني خاص بمدينة إيفيان الفرنسية (2003)، ومعرض جماعي سنة 2003 بمقر الامم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر بجنيف (2003).

ومكافأة له على جهوده الإبداعية الكبيرة، حصل فائق العبودي على العديد من شهادات التقدير من كل من اكاديمية الفنون ببغداد (1994)، ومن مركز الفنون ببغداد( 1995)، ومن دار العروض الفنية بدولة الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى ميدالية فضية من أكاديمية الفنون “رجيو”في إيطاليا.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية