مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل يُـولد عـراق جديد بعد ستّ سنوات من الحرب؟!

الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مؤتمر صحفي خلال زيارة مفاجئة قام بها الرئيس الأمريكي يوم 7 أبريل 2009 إلى بلاد الرافدين AFP

بعد ستّ سنوات من الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق لإسقاط نظام صدّام حسين، يأمل مُـعظم العراقيين أن يرَوا أنـموذجا فريدا للدّيمقراطية في الشرق الأوسط، كان وعد به الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين شنّ حربه المستمرة، والتي كان يرجو أن تلِـد له حربا أخرى في المنطقة، يُـسقِـط بها نظام الجمهورية الإسلامية في إيران.

لقد عانى العراقيون كثيرا خلال السنوات الستّ الماضية، سواء على يدِ قوات الاحتلال الأنجلو – أمريكية، أو على يد عصابات القاعدة والجماعات المسلّحة الأخرى وعناصر مخابرات وأجهزة النظام السابق الأمنية، التي تغلغلت في كل الوضع العراقي الجديد أو على يد ميليشيات طائفية وفرق الموت المختلفة، في الأجندة وفي الانتماء.

ورغم ذلك، واستمرار التفجيرات هنا وهناك وما يقال عن خلايا نائمة في بغداد على وجه التحديد، تنتظر انسحابا كاملا للقوات الأمريكية لتشن أعنف معاركها الطائفية في العراق الجديد، يمكن القول، وبعد هذه السنوات العِـجاف وفي ضوء رحلة ميدانية لـسوس أنفو استغرقت نحو أربعين يوما من أربيل في أقصى الشمال إلى البصرة، حاضرة الجنوب الفقيرة من كل شيء، فإن العراقيين باتوا اليوم أكثر جلدا وأقوى عزيمة على نيل حقوقهم المشروعة. وهم يبدون مقاومة فريدة ويجتازون الصّعاب ويحلمون في تأسيس دولة القانون الحرّة الكريمة…. والمستقلة، يتعايش فيها الجميع بمختلف انتماءاتهم وقومياتهم وطوائفهم وأديانهم.

العراقيون، بعد سنوات من القتل والطائفية المَـقيتة، ها هُـم اليوم بالحركة وحبّ الحياة، غير مكترثين كثيرا بمعارك السياسيِّـين الجانبية، التي يقولون إنها وظّـفت بشكل قوي طيبتهم، خصوصا في الفترة ما بين 2004 و2007، لتأجيج أعمال العنف الطائفي والقتل على الاسم، وليس الهوية وحدها، من أجل مكاسبهم السياسية… الرخيصة!

دبي أربيل!

في كردستان مثلا، وبرغم كل ما يتردّد عن الرغبة الشعبية والرسمية في الحصول على الكثير من المنجزات القومية لصالح فدرالية في الإقليم تقترب من الاستقلال، وعلى حساب سلطة المركز، ترتفع أصوات قوية داخل الوسط الكُـردي، تحذّر من الانفصال أو من تبِـعات أي مواجهة غير محسوبة بين السلطات المحلية والحكومة المركزية حول الصلاحيات الدستورية، وما عادت فكرة انفصال كردستان مقبولة كثيرا، حتى بين الأكراد أنفسهم، الذين أصبحت علاقتهم غير المُـستقرة مع العرب، داخل العراق وخارجه، تُـؤرقهم أكثر من أي وقت مضى، فلجَـؤوا إلى تأسيس فضائيات باللّغة العربية لمخاطبة العرب في محاولة لتجسير الهوة ولتبرير قرارات الإقليم، التي تُـزعج في الكثير مِـن تفاصيلها حكومة المركز في بغداد.

ويشهد الإقليم ازدهارا في ظلّ حكومة مستقرّة شِـبه مستقلة، تعتمد في قراراتها على دعم أمريكي واضح يسمح بهامش كبير من الحركة عرف الأكراد كيف يستغلّـونه لصالحهم، وهم يعزِّزون يوما بعد آخر علاقاتهم القديمة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ولم يمنع اعتقال القوات الأمريكية منذ نحو عامين أعضاء القنصلية الإيرانية في أربيل، بتُـهمة أنهم قادة كِـبار في الحرس الثوري وفي المخابرات، رئيس حكومة كردستان نجيرفان بارزاني من الحضور على رأس وفد حكومي برلماني كبير إلى حفل أقامته القنصلية بمناسبة الذكرى الـ 30 لانتصار الثورة الإسلامية وإلقاء خطاب دعا فيه إلى الإفراج دون قيْـد أو شرط عن “الدبلوماسيين” الإيرانيين.

النهضة العمرانية يُـقابلها انهيار في القِـيم الدِّينية والقومية لدى الأكراد الذين ما عادوا يرتَـدُون زيّـهم الوطني، وأصبح الشبّـان – من الجِـنسيْـن – يفضِّـلون “الجينز” والقمصان المزدهرة بصور المطربين والمطربات من الغرب وتركيا، ونادرا ما يستمع راكب التاكسي إلى أغنية كردية، كما كان الأكراد يفعلون في السنوات الماضية، لأن المطربين الأتراك على وجه الخصوص، هم من غَـزَوا الساحة الغنائية في كردستان، إلى جانب الشركات التركية المنتشرة في عموم الإقليم، تساهم في النهضة الاقتصادية لترسم ملامح جديدة لعلاقات سياسية بين أنقرة، التي لا تعترف بحقوق الأكراد، وإقليم يأوي – طوعا أو كرها – عناصر حزب العمال الكردستاني، المُـنادي بانفصال كردستان تركيا.

وأصبحت ظاهرة شُـرب الخمر منتشِـرة على جوانب الشوارع الرئيسية، حين يقف أصحاب السيارات ليحتسوا الخمر على مرأىً من الجميع، دون أن يختاروا وقتا محدّدا، بينما لا يوجد مقهى ولا حتى مطعم – إلا واحدا أو اثنين – في ضاحية عنكاوا، إلا ويقدِّم الخمر كوجبة رئيسية للروّاد من الرجال… والنساء وفتيات الليل والنهار، مع ملاحظة أن أكثر فصول الحركة الثقافية لنشر التسامح الدِّيني والقومي تجدها في عنكاوا، التي تعجّ بنشاط سياسي مفتوح يقوده مسيحيو العراق، المتمسِّكون بعراقِـيَـتهم وجمال فتياتهم السّاحرات.

في أربيل نهضة عمرانية متسارعة تستقطب أيدي عاملة من الأكراد ومن جنسيات غير عراقية، ولم يعد منظر المرأة الكردية التي تتسوّق في مراكز تجارية كبيرة، على غرار ما هو موجود في دُبي، وإلى خلفها تمشي فتاة أثيوبية أو إريترية أو حتى فيليبينية وصينية، تحمل لها طفلها الصغير، لأن شركات توريد العمالة الآسيوية إلى كردستان أصبحت منتشرة في عموم الإقليم، الذي تعرّض في السنوات التي سبقت انتفاضة عام 1991، لهجمات قاسية استخدم فيها النظام السابق الأسلحة الكيميائية وقنابل النابالم وباقي أسلحة الدّمار الشامل، كما شهدته بنفسي في حلبجة عام 1988، عندما كنتُ أعمل مُـراسلا حربيا للتلفزيون.

خلافات

دعوات رئيس الوزراء نوري المالكي المستمرّة هذه الأيام بشأن تعديل الدستور، أثارت غضب الأكراد الماضِـين في استصدار قرارات خاصّة بالإقليم، كالسماح لفئات من العرب – غير العراقيين – بدخول كردستان دون الحاجة إلى تأشيرة، بينما يجب على العراقي غير الكُـردي أن يضمن تأييدا من جهة ما في الإقليم، لكي يُـسمَـح له بالدخول والإقامة لمدّة شهر واحد، وعليه أن يحصُـل على “إقامة”، إلا إذا وافق جهاز الأمن “الآسايش”..

هذا النوع من القرارات، قابله المالكي بالتّهديد باعتقال كل من يدخل العراق عن طريق إقليم كردستان دون تأشيرة من القنصليات العراقية المعتمدة، ما زاد من صعوبة العلاقة بين الإقليم والمركز.

كذلك، فان العديد من النِّـقاط الخلافية لم تجِـد طريقها إلى الحل بين حكومة المالكي وحكومة الإقليم، وأهمها، عقود النفط التي وقّـعتها حكومة إقليم كردستان مع شركات عالمية، واعتبرتها حكومة المالكي غير قانونية، والمخصّصات المالية لقوات (البيشمركة)، التي ترفض الحكومة المركزية دفع نفقات وتجهيزات ورواتب (البيشمركة) من الخزينة المركزية، وهي في نفس الوقت لا سُـلطة لها عليها، ما يهدِّد بنسف العملية السياسية.

عقدة كركوك!

بعد ست سنوات، تظلّ أزمة كركوك النفطية تنذر بانفجار كبير، ليس للعملية السياسية وحسب، وإنما تهدّد أيضا بجر العراق إلى حرب انفصال داخلية، وهي أهمّ قضايا الخلاف بين العرب والأكراد والتركمان.

في السابع والعشرين من شهر مارس الماضي، أنهت لجنةٌ لتقصِّـي الحقائق، شكّـلها مجلس النواب بمشاورة من الأمم المتحدة، عمَـلها دون التوصّـل إلى صيغة توافقية في المدينة، التي عُرفت بالتعايش والتسامح قبل حملة التعريب، التي مارسها النظام السابق لتغيير ديموغرافيتها.

وتنتظر اللجنة انعقاد الفصل التشريعي الجديد، لتطلب تمديد عملها لشهرين إضافيين في محاولة لتطبيع الأوضاع، وِفق المادة 140 من الدستور العراقي الجديد، من خلال إعادة المرحلين الذين هجّـرهم النظام السابق إلى مدينتهم، وإرجاع العرب الوافدين إلى مناطقهم الأصلية التي قدِموا منها بعد تعويضهم، إضافة إلى إعادة الحدود الإدارية لكركوك إلى ما كانت عليه قبل عام 1958، وهي تلوح بأن مشروعا قدّمته الأمم المتحدة، قد يكون على الطاولة، إذا فشلت في الحل التوافقي.

وتعيش المدينة على وقْـع تصريحات ومواقِـف لم تتغيّـر منذ ست سنوات، وتلوح منها رائحة التوتر وسط إصرار كُـردي واضح على ضمّ المدينة إلى كردستان، ودعوات من الأحزاب التركمانية والعربية إلى أن تُـصبح كركوك تحت إدارة الحكومة المركزية في بغداد أو أن تتحوّل إلى “حالة خاصة” وإقليم مستقل عن كردستان…

في حين يتّـسم موقِـف الحكومة العراقية من القضِـية بالوسطية غير الحاسمة ويقتصر على التهدئة، واكتفت بتأجيل تنفيذ بعض المواد الدستورية واستثناء المدينة من إجراء الانتخابات المحلية، وحدّدت لها فقرة خاصة في قانون الانتخابات، ظنّـاً منها أنها ستتكفّـل بحلّ مشاكل المدينة العالقة.

لكن ليس الأمر بهذا السّوء، فالأكراد أظهروا مُـرونة عبر تخلِّـيهم عن منصِـب رئاسة مجلس المحافظة، ووافقوا أيضا على المطالب العربية حول إسناد منصب سِـيادي لهم، ووافقوا على ما تضمّـنه مشروع الأمم المتحدة بشأن الإدارة المشتركة “بين الإقليم والمركز” للمدينة، وسط تأثير إقليمي واضح، خصوصا من تركيا..

دولة القانون

نتائج الانتخابات المحلية أشرت بقوة إلى تغييرات تبدو جِـذرية ومهمّـة في معادلة ما بعد الاحتلال الأنجلو – أمريكي..

العراقيون ما عادوا منقسِـمين على قاعدة الفرز الطائفي، كما كان الوضع عليه بعد السّقوط، إذ لم يتوجّه الناخبون نحو صناديق الاقتراع، استجابة لنداءات السياسيين الطائفية المصلحية، وهم صوتوا لقائمة رئيس الوزراء نوري المالكي، أملا في تحقيق دولة القانون في العراق من شماله إلى جنوبه…

وبذلك، أدرك العراقيون بعد سنوات من نزف الدّم هنا وهناك، أن مسؤولية عدم استقرار بلادهم يتحمّـلها أولا الأمريكيون، لأنهم وضعوا العملية السياسية على أسس طائفية وعِـرقية وقومية، وثانيا، المشاركون في هذه العملية، خصوصا أولئك الذين لا تهمّـهم إلا مصالحهم الشخصية أو الحزبية والطائفية.

العراقيون بعد ست سنوات من احتلال بلادهم، أدركوا ذلك وهم يقومون بتصحيح هذه الأخطاء، وما حصل في انتخابات مجالس المحافظات، ما هو إلا بداية المطَـاف في طريق توجِـيه بوْصَـلة العملية السياسية لقيادة دفّـة البلد إلى بَـرِّ الأمان.

ومن التِّـجوال المستمر والاحتكاك المباشر مع العراقيين – غير الساسة – يخرج الزائر للعراق بنتيجة أن المواطن العراقي، مقتنع اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأن خلافات القوى السياسية ويسميها: “لأحزاب”، هي التي تُـنتِـج أعمال العنف والاغتيالات وموجات التفجير، وأن مصلحة العراق والمواطن، ليست حتى في أسفل قائِـمة أجندة هذه الخلافات..

ومن هنا، قدّمت نتائج الانتخابات الأخيرة للمالكي دعما بات معه قويا إلى الحدّ الذي يدعو فيه عناصر الجماعات المسلحة، حتى البعثيين منهم، إلى الحوار، بشرط إلقاء السِّـلاح ونبذ التطرّف والعُـنف والطائفية، وليتحوّلوا في العملية السياسية إلى شريك فاعل.

وليس هذا فحسب، فقد طالب المالكي باستضافة بغداد القمّة العربية المقبلة عام 2010، مراهِـنا على الانفراج الأمني الكبير الواضح في البلاد، وها أنت تُـشاهد العرب في كل مكان من العراق، من أربيل وحتى البصرة، حيث يعمل المصريون في أشهَـر المطاعم والمقاهي في شارع أبو نواس مثلا، يقدِّمون لك السّمك المسكوف والشاي بنكهة عراقية وبلهجة مصرية تمزج بحلاوة، لهجة البغداديين.. الجميلة.

“خلف السدّة”!

ولم يعُـد شارع حيفا في بغداد ملاذا آمنا للإرهاب الطائفي، وكذلك الحال مع باقي الأحياء البغدادية التي تنتشر فيها قِـوى الأمن بشكل لافت وهي تتعاون مع المواطن أو أن المواطن يتعاوَن معها، لكشف ما تبقّـى من خلايا نائِـمة تعمل لمصالح أجندة خارجية ولا تريد للعراق أن ينهَـض من جديد.

أثار الرّصاص في جُـدران البنايات العمودية المنتشرة في شارع حيفا، ما تزال تحكي قصّـة الموت الأعمى الذي كان مُـنتشرا في العراق، ولا يستثني طائفة أو مكوِّنا من العراقيين، غير أن عودة الحياة من جديد إلى شارع المتنبّي ورحلة الجمعة الأسبوعية للكثير من العراقيين إلى هذا الشارع لشِـراء الكُـتب أو مشاهدتها وتصفحها مفترشة الأرصفة وفي الطرقات أو لحضور حفل توقيع “عبد الله صخي” روايته “خلف السدّة”، وما يجري خلال هكذا حفل من نقاشات أدبية، تحتضنها مؤسسة المدى الثقافية باستمرار، تجعل الزائر لبغداد يقتنِـع بأن العراقيين عادوا إلى جذورهم الثقافية لإنجاح عملية المصالحة، بعد ستّ سنوات من صِـراعات المحاصصة والدّمار والتخريب المتعمّـد، في ظل أجواء يطغى عليها حبّ الحياة لبناء عراق جديد، يلغي من ذاكرته ما لحق به من طائفية وعنصرية تمهِّـدان للتفتيت والتقسيم وتجرّان إلى حرب أهلية.

وبعد أن كانت الشرطة العراقية تكتشِـف كل يوم “خلف السدّة”، وهي منطقة في بغداد، جثّـث أكثر من ثلاثين مواطنا بريئا داخل رأس كل منهم رصاصة أطلقتها فِـرق الموت، أصبح العراقيون يألفون التعايش مع بعضهم البعض، حسبما جاء في رواية “عبد الله صخي”، التي شرح فيها وقائِـع مثيرة من تاريخ العراق، وكيف تتشكّـل الضواحي الكبيرة في العاصمة من المهاجرين القرويين.

المصالحة مع البعثيين؟

وأكثر العلامات الفارِقة في عراق ما بعد ست سنوات من الحرب، أن الدّعوات للمصالحة مع البعثيين أخذت تتطوّر بحجّة أن الحزب، وإن كان محظورا بحسب الدستور، إلا أن أفراده مواطنون يتمتّـعون بحقوقهم السياسية.

وتجري بعد ست سنوات من قانون اجتثاث البعث، محاولات، ظاهرها تمهيد الأرضية لإعادة اندماج البعثيين غير المشمولين باجتثاث البعث في الحياة السياسية.

وحصلت لقاءات عدة مع بعثيين، برغم أنهم موجودون أصلا في السلطة ومجلس النواب ومجالس المحافظات وفي كل مرافق الدولة، والكثير منهم ترك الحزب أو ما يزال، لكنه يعمل في كُـتل سياسية معروفة.

وينظر الكثيرون إلى هذه المصالحة من زاوية التّـشكيك بنواياها، وأنها ابتزاز سياسي يُـفرض على المالكي من قِـبل أطراف إقليمية ودولية، وهم يحذِّرون من أن البعثيين لم يتخلّـوا عن عقلهم التآمري وأنهم يلجؤون إلى العنف والسلاح، لفرض أنفسهم على المعادلة السياسية القائمة وشقّ طريقهم إلى السلطة، كما فعلوا في عامي 1963 و1968.

وتصطدم محاولات المالكي برفضٍ من أقربِ حلفائِـه ومن جمهوره في الشارع، الذي يُـصرِّح هنا وهناك وفي الفضائيات العراقية المُنتشرة، أن البعثيين يريدون إعادة الماضي، كما كان حتى بعد إعدام صدّام، أي العودة إلى نمط الحُـكم السابق الذي اتّـبعوه على مدى 35 سنة ومارسوا خلاله أبشع أساليب الإقصاء لمعارضيهم..

الطريق إلى العراق..

ومن بغداد إلى مثلّـث الموت: اليوسفية فالمحمودية فاللطيفية، تجد أن كل شيء تغيّـر، فلا موت ولا قتل على الهوية ولا فرز للأسماء ولا حواجِـز أمنية مزيّـفة، عدا نِـقاط السيطرة المُـنتشرة في جميع شوارع العراق والطّـرق من وإلى العاصمة، حتى الطّـرق الخارجية.

وقد كرس وزير الداخلية جواد البولاني تقاليد جديدة لبسط الأمن، ولم تعد “السيطرات”، أي الحواجز الأمنية، مجرّد مراكز للتفتيش والبحث عن المخرّبين والمتفجِّـرات والأسلحة، وتغيّـرت كثيرا تلك الصورة النمطية عن الشرطي العراقي، بعد أن انتشرت “سيطرات” توزِّع للمواطنين الزهور وبطاقات تتحدّث عن الحب، وأصبح شرطي المرور يؤدّي التحية للمواطن الذي يسأله عن عنوان ما في العاصمة… مثلا.

وإذا كانت مُـدن في الشمال، كأربيل والسليمانية، غير عابِـئة تماما للقِـيم الدينية، إلا داخل المساجد وأماكن العبادة، فإن بغداد العاصمة فتَـحت أبواب مطاعِـمها الفاخرة لتقدِّم لزبائنها – من الجنسين – النبيذ الأحمر على أنغام البيانو، بشرط احترام القِـيم العامة في الشوارع، كما أكد ذلك رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي شدّد على أجهزة الأمن عدم التدخّـل فيما يتعلّـق بالخصوصية الفردية، ولكن ليس على حساب القِـيم العامة.

وفي الجهة المقابلة، فإن جِـسر الأئمة الذي كان مسرحا لمقتل أكثر من 1200 أثناء زيارة دِينية، صار اليوم رمزا للإخاء المذهبي بين ضفّـتيه، السُـنية في حي الأعظمية والشيعية في الكاظمية.

ويستقبل مسجد الإمام أبو حنيفة، وأيضا الإمامان الكاظم والجواد، كل يوم عشرات الآلاف من الزائرين والمصلِّـين وسط إجراءات أمن سلِـسة، لكنها مشدّدة. فالطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، وهو مفهوم جديد تسمعه أو تقرؤه لدى العراقيين.

صحوة أم كبوة!

بعد ستّ سنوات ما عاد تنظيم القاعدة وباقي الجماعات التي تفجِّـر الوضع الأمني، كما كانت عليه من قبل. فمجالس الإسناد، أو ما تُـعرف بقوات الصحوات التي شكِّـلت في عام 2006، نجحت في مطاردة عناصِـر القاعدة وباقي الجماعات المسلحة، غير أنها أو بعضا منها – في بغداد تحديدا – باتت اليوم هدفاً للقوات الحكومية، لكونها مخترَقة من حزب البعث أو من قِـبل تنظيم القاعدة..

لقد قاتلت قوات الصحوات تنظيم القاعدة وطاردت فلوله في المدن والقرى والقصبات. وأعلنت القوات الأمريكية في العراق انتقال مسؤولية قوات الصحوات إلى الحكومة العراقية بشكل كامل، كما تبنّـت الحكومة العراقية من جِـهتها مسؤولية دفع الرواتب لعناصر هذه القوات الشعبية.

وفيما يشبه الصّفقة، ضمّت الحكومة العراقية 20% من عناصر الصحوات إلى الأجهزة الأمنية ووعدت بنقل الآخرين إلى وظائف مدنية في المؤسسات الحكومية وفي مشاريع البناء والإعمار.

وقدمت هذه القوات قوافل من القرابين، لأن تنظيم القاعدة الذي تلقّـى ضربة قوية جداً في مُـعظم المدن السُـنية، التي كانت تشكِّـل حاضنة له، استهدف أفراد الصحوات وسقط العديد من قياداتها والعشرات من عناصرها في عمليات تفجير وهجمات انتحارية، إلا أن اعتقال قائد عمليات الصحوة في منطقة الفضل وسط بغداد عادل المشهداني ومساعده سلمان قدوري، وجّه الأنظار مرة أخرى إلى الصحوات، وهذه المرّة لمطاردة العديد من عناصرها بتُـهمة التورّط في جرائم قتل وتهجير وتشكيل حزب مقرّب من حزب البعث المحظور.

وطالب الشيخ علي الحاتم، أحد مؤسسي مجالس الصحوات في الرمادي، رئيس الوزراء بتنفيذ مذكّـرات الاعتقال، ليس فقط على قادة الصحوات المتّهمين بخرق القانون، بل على الكثير من السياسيين في البرلمان وخارجه، لكي لا يُفهم أن الصحوات كلّها مستهدفة من قِـبل الحكومة.

ومع بروز مخاوِف من أن تأخذ هذه الاعتقالات منحىً آخر يُـنذر بتصفية قيادات الصحوات، تحاول الحكومة بالاستعانة بالقوات الأمريكية أن تُبقي بوصلة قوات الصحوات في اتجاهها الصحيح، وهي لا تريد المجازفة في عموم علاقاتها بالصحوات، وقد بادرت إلى إعادة ترتيب المعادلة من جديد، وِفق ضوابط تحدّد آلية وجود السلاح في الشارع العراقي، خاصة بعد تزايد عدد القوات العسكرية والأمنية والاعتراف أيضاً في نفس الوقت بأن الصحوات جزء من الحلّ، وليس المشكلة أو العودة إلى دائرة العنف الأعمى، خصوصاً وأن الوضع الأمني ما يزال غير مستقرّ بشكل كامل في العراق الجديد..

على الأقل.. هذا ما يردِّده الأمريكيون الذين يُـراقبون أداء المالكي وسرعة استجابته لمطالب، مثل المصالحة مع البعثيين وعودة باقي ضبّـاط الجيش العراقي السابق، وغيرهما..

نجاح محمد علي – البصرة

بغداد (رويترز) – تدفق عشرات الالاف من أنصار الزعيم الشيعي المناوئ للولايات المتحدة مقتدى الصدر على بغداد يوم الخميس 9 أبريل، لاحياء الذكرى السادسة لسقوط المدينة في أيدي القوات الامريكية وللمطالبة برحيلها على الفور.

وهتف المتظاهرون “تسقط أمريكا”، بينما أدان علي المرواني، وهو مسؤول صدري الاحتلال الامريكي للعراق والذي بدأ بسقوط بغداد في التاسع من ابريل عام 2003 واسقاط تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في ساحة الفردوس. وامتدت حشود أنصار الصدر من حي مدينة الصدر في شمال شرق بغداد الى الساحة التي تبعد نحو خمسة كيلومترات. وأحرق المحتجون دمية تحمل صورة وجه الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الذي أمر بغزو العراق، وأخرى تحمل صورة وجه صدام.

وتعرض الشيعة لاضطهاد وحشي في عصر صدام الذي أعدم عام 2006 بينما رددت هتافات باسم الصدر في غرفة اعدامه. ودعا الصدر في رسالة قرأها أسد الناصري وهو مساعد في الحركة الصدرية الله الى توحيد العراقيين واعادة ثرواتهم والافراج عن السجناء وعودة السيادة الى العراق وتخليصه من المحتل ومنع المحتل من الاستيلاء على نفط العراق. كما دعا الله أن يجعل العراقيين هم من يحررون أرضهم.

وطالب الناصري المتظاهرين أن يصافح بعضهم بعضا وأن يصافحوا رجال الشرطة والجنود الذين كانوا يراقبون المسيرة. واصطفت طوابير طويلة لعناق الشرطة والقوات ومصافحتهم.

وأمر الرئيس الامريكي باراك أوباما الذي سافر الى بغداد يوم الثلاثاء 7 أبريل في زيارة لم يعلن عنها مسبقا، أن تترك كل القوات القتالية الامريكية العراق بنهاية أغسطس من عام 2010 وبقاء قوة تصل الى نحو 50 ألفا من المدربين والمستشارين والعاملين في مجال الامدادات.

ويجب أن تنسحب كل القوات الامريكية من العراق بحلول نهاية 2011 بموجب اتفاقية أمنية مشتركة. وأعرب كثيرون في المظاهرة عن عدم ثقتهم في وفاء الولايات المتحدة بالتزامها بالانسحاب. وقال خالد العبادي الذي شارك في المظاهرة “العراق له خبرة في الاحتلال… لم تتخلص دولة من الاحتلال عبر السياسة والشفافية. سينتهي بالسيف”.

ويعتقد أن الصدر وهو سليل واحدة من أعرق العائلات الدينية الشيعية في العراق موجود في ايران لدراسة الشريعة الاسلامية.

وخاض مقاتلو جيش المهدي، التابع للصدر معارك طاحنة ضد القوات الامريكية في الاحداث الدامية التي أعقبت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة، لكن مقاتلي الجيش جمدوا العمليات المسلحة منذ ذلك الحين، بعدما دعاهم الصدر الى أن يتحولوا الى منظمة معنية بالرعاية الاجتماعية.

وعانت الحركة الصدرية من انتكاسة عندما أمر رئيس الوزراء العراقي الشيعي نوري المالكي قوات عراقية تدعمها الولايات المتحدة العام الماضي بالتصدي لمقاتلي ميليشيا الصدر في مدينة البصرة، مركز النفط الواقعة جنوب العراق وفي العاصمة بغداد.

ويشير محللون الى وجود ضغوط على جيش المهدي للعودة الى السلاح وتكهنوا بأن جماعات منشقة قد تكون عادت بالفعل. وقال أبو هجران قاسم، الذي شارك في المظاهرة وارتدى قميصا عليه علم العراق “لا تزال توجد انتفاضة نبيلة ولا يوجد تجميد”.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 9 أبريل 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية