
من عدسة الكاميرا إلى ساحات النضال: كيف أصبحت كلوديا أندوجار صوت شعوب الأمازون

لقد عاشت المصورة السويسرية، كلوديا أندوجار، التي أتمت عامها الرابع والتسعين في 12 يونيو الجاري، تجرِبة إنسانية ومهنية مثالية قضت أغلب حياتها في الدفاع عن المجتمعات المحلية في البرازيل.
واحتفاء بها، نظم متحف إنهواتيم في بلد السامبا معرضا سلّط الضوء على مسيرتها الاستثنائية. ويشارك في المعرض فنانون وفنانات من أمريكا اللاتينية، استلهموا.ن من أعمال أندوجار التزامها بحقوق السكان الأصليين.
عندما وصلت كلوديا أندوجار إلى البرازيل في عام 1955، كانت تتحدث اللغات المجرية، والفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، لكنها لم تكن تعرف البرتغالية. وبعد مرور نصف قرن، أعربت في كتابها “هشاشة الكينونة” (The Vulnerability of Being) عن أن الصور هي أفضل طريقة لتوثيق سيرتها الذاتية ، لأن التصوير، كان الفن الذي اعتمدته “للتواصل مع العالم”.
واليوم، وبعد إتمامها العام الرابع والتسعين من عمرها، أصبحت أندوجار من أبرز الأصوات في العالم، المدافعة عن حقوق شعب اليانومامي، واحد من أكبر الشعوب الأصلية المتبقية في أمريكا الجنوبية، والممتدة أراضيه على حدود فنزويلا والبرازيل.
وفي عام 2015، خصّص متحف إنهواتيم، في ولاية ميناس جرايس بالبرازيل، لأعمالها مبنى كاملاً، حمل اسم “غاليري كلوديا أندوجار”. ووفقًا لرودريغو مورا، قيّم المعرض آنذاك ويشغل اليوم منصب المدير العام لمتحف فنون أمريكا اللاتينية في بيونس أيرس، جاءت كل تفاصيل الجناح من رؤية الفنانة نفسها. وقال: “من العمل إلى اختيار الصور، ومن السرد إلى التجميع… كانت التفاصيل جميع التفاصيل من أفكارها”.

وجاء هذا الجناح ثمرة خمسة أعوام من البحث في مجموعة أعمال الفنانة. وكان الهدف من المشروع إبراز مدى تنوّع عمل أندوجار مع شعب اليانومامي. فمع مرور الزمن، تجاوزت أعمالها نطاق التصوير الفوتوغرافي، لتكتسب بُعدًا سياسيًا أوسع.
وانطلاقًا من رؤيتها، قسَّمت الفنانة مساحة المعرض الدائم، الذي ضمَّ 430 صورة، إلى ثلاثة أجنحة: “الأرض والطبيعة”؛ و”الإنسان”(يشمل الطقوس والصيد والتعبير الجسدي)؛ و”الصراع”. ويسلط هذا الفضاء الأخير الضوء على أثر الاحتكاك بين “الشعب الأبيض المتحضّر” والسكان الأصليين الذين نعتهم الغزاة بـ”الهمج”، بينما مارس هؤلاء الغزاة أنفسهم قطع الأشجار، والتهريب، والتنقيب عن الذهب. وقد كشفت صور أندوجار النقاب عن فظائع ممارسات التنقيب غير القانوني عن الذهب في أراضي اليانومامي. وكانت هذه الصور هو أولى الأعمال التي أطلقت جرس إنذار بشأن التدهور البيئي والاجتماعي الناجم عن هذا الانتهاك غير المشروع.
ماكسيتا يانو: رؤى متعددة
هذا العام، واحتفالًا بالذكرى العاشرة لمعرض كلوديا أندوجار، خضع المعرض لأعمال تجديد واسعة. وتضم النسخة الجديدة 90 عملًا فنيًّا من أعمال 22 فنانًا وفنانة من الشعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية.
وعلاوة على ذلك، تغيَّر اسم المعرض ليصبح “ماكسيتا يانو (Maxita Yano)، أي “بيت الأرض” بلغة اليانومامي. ووفقًا للقيّمة على المعرض، بياتريس ليموس، يهدف المشروع إلى إضافة أبعاد جديدة للنقاش حول التمثيل البصري للشعوب الأصلية. وأكَّدت مرشدة المعرض عدم إغفال الحلّة الجديدة عن إبراز أندوجار “رائدة، ومرجعًا عظيمًا للعديد من فنّانات الشعوب الأصلية وفنّانيها”.
ومن جانبه، شدَّد الفنان البرازيلي دينيلسون بانيوا، الذي كلّفته إدارة المعرض بإعداد عمل خاص بهذه المناسبة، على أهمية كلوديا أندوجار بوصفها “حليفة أساسية”. وأكّد أن أعمالها “ضرورية للإشادة بالفنانات والفنانين من السكان الأصليين وإظهار احترامهم، سواء داخل المؤسسات الثقافية أو خارجها”.

أمَّا الفنانة البوليفية إلفيرا إيسبيخو، المعروضة أعمالها أيضًا في الجناح، وشاغلة منصب مديرة المتحف الوطني للإثنوغرافيا (تاريخ الشعوب) والفولكلور في لاباز سابقًا، فترى حمل إشراك الفنانات والفنانين من السكان الأصليين أهمية خاصة، لتقديمه منظورين مختلفين. وتقول: “يُنظَر إلى الشعوب الأصلية من الداخل ومن الخارج، ما يُتيح قراءات أكثر تنوّعًا”.
شباب محفوف بالألم
على الصعيد الشخصي، يرتبط التزام كلوديا أندوجار بقضايا التهجير والصدمات والموت ارتباطًا وثيقًا بتجاربها الذاتية. ويروى فيلمان وثائقيان ملامح هذه التجارب. الأول بعنوان غيوري (Gyuri، 2022)، من إخراج البرازيلية ماريانا لاكيردا. والثاني بعنوان سيدة السهام (The Lady of the Arrows، 2024) من إخراج السويسرية هايدي سبيكونياا.

ففي فيلم هايدي سبيكونيا الطويل، تروي كلوديا أندوجار قصة مولدها. إذ أصرَّت والدتها، جيرمين غي، التي كانت تُدرّس الفرنسية في ترانسلفانيا، على أن تلد ابنتها في سويسرا، وطنها الأم، بدلًا من أوراديا (المدينة التي أصبحت اليوم جزءًا من رومانيا)، حيث كانت تقيم مع زوجها. وهكذا، وُلدت “كلودين هاس” في نوشاتيل عام 1931. وبعد طلاق والديها عام 1938، تركت والدتها، وقضت سنوات طفولتها برفقة عائلة والدها اليهودية.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، اقتلعت كلودين من جذور طفولتها. وعادت للعيش مع والدتها، التي لم تكن يهودية، وأُرسلت إلى مدرسة داخلية كاثوليكية، بينما أُرسلت عائلة والدها إلى غيتو بعد الاحتلال الألماني لترانسيلفانيا.. وتقول في كتابها إن بقاءها مع والدتها آنذاك أنقذ حياتها.
هربت كلودين ووالدتها من المجر إلى فيينا، قاطعتين أوروبا الشرقية التي كانت تشهد حالة من الفوضى. وبعد أشهر من التنقل والترحال، وصلتا إلى سويسرا في ديسمبر 1944. ولا تزال أندوجار تتذكّر، كما دوّنت في كتابها هشاشة الكينونة، “النظافة ووفرة الشوكولاتة”.
هوية جديدة
في فيلم هايدي سبيكونيا، تظهر كلوديا أندوجار راوية أحداث طفولتها المضطربة. وتقول إن شعورها بأنها قد تفقد جميع أفراد عائلتها على يد النظام النازي في ألمانيا ترك أثرًا عميقًا في نفسها. وتضيف: “هو شعور لا يفارقني حتى اليوم”. أما السنوات التي قضتها بعيدًا عن والدتها، فقد خلقت فجوة عاطفية يصعب تجاوزها. وقالت المخرجة لسويس إنفو (Swissinfo.ch): “كانت كلوديا تفتقد عائلة والدها، التي اضطرت إلى تركها خلفها دون أن تعرف مصيرها”.
وبعد سنوات، علمت كلوديا ووالدتها بقضاء والدها، وجميع أفراد عائلته، نحبهم في معسكر داخاو النازي في ألمانيا. وقد لاحقها هذا الفقد حتى مرحلة البلوغ، وظلّ شبح إبادة أقربائها حاضرًا في ذاكرتها وحياتها.
وعندما بلوغها الخامسة عشرة من عمرها، دعاها عمُّها — الناجي الوحيد من عائلة والدها — للإقامة معه في الولايات المتحدة. عندها، قررت أن تترك الماضي خلفها، وتبدأ حياة جديدة، بهوية جديدة. وتعترف في فيلم سيدة السهام: “كنت أريد أن أنسى كلودين لبعض الوقت”. وهكذا، وُلدت كلوديا.
وفي الثامنة عشرة من عمرها، تزوجت من خوليو أندوجار، ابن زوجين لاجئين من الحرب الأهلية الإسبانية.

ورغم أن الزواج لم يدم طويلًا، جعلها الخوف من “اكتشاف أصولها اليهودية” تحتفظ بالاسم بعد الطلاق، وحتى اليوم. وتقول الفنانة في مقابلة نُشرت في كتاب هشاشة الكينونة: “ظل هذا الخوف المتوارث يلازمني لفترة طويلة، وتجنّبت التحدّث عن أصولي”.
البرازيل: الموطن الجديد
في عام 1955، وفي الرابعة والعشرين من عمرها، سافرت كلوديا أندوجار إلى البرازيل لزيارة والدتها التي انتقلت للعيش هناك. بمجرد وصولها إلى ساو باولو، شعرت بالراحة، وانبهرت في البداية بلطف الناس. ثم تركت الرسم، الذي كانت قد كرّست له وقتها في نيويورك، وبدأت تتجه تدريجيًا نحو التصوير الفوتوغرافي.
وفي عام 1958، كان أول تواصل لها مع الشعوب الأصلية . ثم سافرت في عام 1971، إلى الأمازون برفقة شريكها آنذاك، المصوّر الأمريكي جورج لوف (1937–1995)، في مهمة لصالح مجلة رياليدايت (Realidade)، النسخة البرازيلية من مجلة لايف (Life) ، التي تولي أهمية كبيرة للصورة الفوتوغرافية.

وبينما كان لوف يلتقط صورًا للمنطقة، كانت كلوديا أندوجار توثّق الحياة على الأرض، وتستكشف الظروف القاسية التي تعانيها المجتمعات الأصلية. وكانت تلك هي المرة الأولى حظي فيها هذا الموضوع بتغطية بارزة في وسائل الإعلام البرازيلية.
وبين عامي 1981 و1983، قدَّمت سلسلة الصور الفوتوغرافية “الموسومون” (Marcados). وكانت التقطت هذه الصور خلال رحلة أُجريت لمسح الحالة الصحية لشعب اليانومامي، في إطار حملة لتأمين اعتراف رسمي بأراضيهم. وفي هذا العمل التوثيقي، شكّل الهولوكوست، وألم الفقد الذي عاشته، مرجعًا أساسيًا لها، فصار أحد أبرز أعمالها وأكثرها تأثيرًا.

وبالتعاون مع فرق طبية، سجّلت أندوجار كل فرد من أفراد شعب اليانومامي، وأرفقت رقمًا تعريفيًا حول أعناقهم. وقد استُخدمت هذه الأرقام لاحقًا لأغراض طبية، بما في ذلك توثيق سجلات التطعيم. وتضمّ السلسلة المعروضة 82 بورتريهاً، مرفقة بتقرير كتبته أندوجار، وصفت فيه الظروف المعيشية لشعب اليانومامي.
ورغم الطابع العملي لهذا التوثيق، لم تكن رمزية الأرقام لم تكن عفوية بالنسبة إلى أندوجار. فقد تعمّدت الإشارة إلى معسكرات الاعتقال، حيث استُخدمت الأرقام لتمييز البشر، وغالبًا ما كانت نذيرًا للموت المحتم. وتقول في الفيلم الوثائقي سيدة السهام: “في عائلتي، كانت الأرقام المنقوشة على الجلد علامة الموت. أما هذه، فهي لإنقاذ الأرواح”.
تحرير: فيرجيني مانجين وإدواردو سيمانتوب
ترجمة: ريم حسونة
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.