الأمراض النادرة: خطة دولية طموحة لتطوير العلاجات وخفض التكاليف

نال ملايين المريضات والمرضى المصابين بالأمراض النادرة أخيراً اعترافاً دولياً بحقهم في الحصول على علاج بعدما أُدرجت قضيتهمّ كأولوية في أكبر محفل صحي عالمي. ويأمل هؤلاء اليوم في أن يسهم هذا الاعتراف في دفع شركات الأدوية والجهات الصحية الوطنية إلى تحسين سبل التشخيص، وإتاحة العلاج على نحو أكثر عدلاً ووفرةً.
في الشهر الماضي، اجتمعت قرابة 200 دولة في جنيف تحت مظلة الأمم المتحدة في إطار جمعية الصحة العالمية، لرسم خارطة طريق لمستقبل الرعاية الصحية. وللمرة الأولى، اعتمدت الدول الأعضاء قراراً رابط خارجييدعو إلى وضع “خطة عمل شاملة” لمعالجة الأمراض النادرة.

المزيد
للاشتراك في العرض الصحفي الأسبوعي
وتشمل هذه المجموعة المتنوّعة من الأمراض، والتي يتجاوز عددها سبعة آلاف، حالات معروفة نسبياً مثل التليّف الكيسي، (اضطراب جيني يصيب الرئتين)، وفقر الدم المنجلي، (مرض وراثي في الدم). ورغم أن معظم هذه الأمراض نادر الحدوث على مستوى الفرد، فهي تؤثر مجتمعياً على أكثر من 300 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم.
وقد حظي القرار، الذي يعترف ولأول مرة، بالأمراض النادرة كأولوية في الصحة العامة على المستوى العالمي، بترحيب واسع من المرضى والمريضات، وعائلاتهم.هنّ وأنظمة الرعاية الصحية، الذين واللاتي طالما اشتكوا.ين من تأخر التشخيص، وغلاء الأدوية، وغياب التوعية، والدعم الاجتماعي.
وتقول ألكسندرا هيومبر بيري، المديرة التنفيذية للمنظمة الدولية للأمراض النادرة (RDI)، في تصريح لسويس إنفو ( Swissinfo.ch): “لم يكن هناك أي شيء موجّه للأمراض النادرة، لا خطة عمل، ولا استراتيجية عالمية. هذا القرار يُعدّ تحوّلا تاريخيا”.

المزيد
اعتماد معاهدة دولية للجوائح… بارقة أمل لتعددية الأطراف
ويدعو القرار الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية (WHO)، إلى وضع خطط وطنية خاصة بالأمراض النادرة، تشمل سياسات لتحسين وسائل التشخيص، وتوسيع نطاق الوصول إلى العلاجات بأسعار معقولة، وتشجيع المزيد من الأبحاث والابتكار. كما يلتزم القرار بأن تُعد المنظمة خطة عمل عالمية لعشر سنوات، وتُعرّف الأمراض النادرة بأنها تلك التي تصيب شخصاً واحداً من كل ألفين، أي نحو 7% من سكان العالم.
ورغم الترحيب العام، انتقدت عدة جهات مدافعة عن العدالة الصحية نص القرار، معتبرة أنه لا يمارس ضغطا كافيا على شركات الأدوية لخفض الأسعار، وتسهيل الوصول إلى العلاجات. ومع ذلك، رحبت هذه الجهات في الوقت نفسه بهذه الخطوة باعتبارها انتصاراً رمزياً يضع حقوق المصابين والمصابات بالأمراض النادرة في مقدمة القضايا المطروحة على ساحة الصحة العالمية.
العلاج غير متوفر أو باهظ الثمن
يأتي هذا القرار في وقت تتعاظم فيه المخاوف بشأن قدرة المرضى والمريضات على الوصول إلى علاجات منقذة للحياة، خصوصاً في حالات الأمراض النادرة، التي تُعدّ أكثر من 70% منها وراثية.
ويتطلب إنتاج دواء فعّال لهذه الحالات سنوات طويلة من البحث والتجارب المكلفة التي تسعى شركات الأدوية إلى تعويضها عادةً من خلال عائدات البيع. لكن في حالة الأمراض النادرة، لا تقدم شركات الأدوية على مثل هذا الاستثمار بسهولة نظراً لضآلة العائد المتوقّع من عدد محدود من المرضى والمريضات حول العالم.
وقد ساهمت قوانين مثل “قانون الدواء اليتيم” الذي أُقرّ في الولايات المتحدة عام 1983، في دفع عجلة الاستثمار في مجال تطوير أدوية الأمراض النادرة، وذلك من خلال تقديم حوافز تشجيعية، أبرزها منح الشركات امتيازات تجارية ممتدة تتيح لها استرداد تكاليف البحث، وتحقيق أرباح مجزية، رغم محدودية عدد المرضى والمريضات المستهدفين.ات.
وقبل صدور هذا القانون، كانت إدارة الغذاء والدواء الأميركية قد وافقت على 38 دواءً يتيمًا فقط. لكن بعده، تم التصديق على أكثر من 550 دواءً لمعالجة أمراض نادرة، حيث لا يتجاوز عدد المصابين بهذه الأمراض 200،000 شخص في الولايات المتحدة، ما يغطي أكثر من 1،100 حالة سريرية مختلفة. ووفقًا لبيانات شركة “إكويفيا” (IQVIA)، شكلت الأدوية اليتيمة حوالي 72% من الأدوية الجديدة التي تم طرحها في عام 2024، مقارنة بـ 51% فقط في عام 2019.
لكن رغم تزايد عدد هذه الأدوية في السنوات الأخيرة، لا يزال نحو 95% من الأمراض النادرة يفتقر إلى علاجات نوعية مصمّمة خصيصاً لكل حالة، ما يضطر المرضى والمريضات إلى الاعتماد على وسائل غير شافية، كالعلاج الفيزيائي أو التدخلات الصحية الداعمة التي تقتصر على التخفيف من الأعراض دون التصدّي لمسببات المرض.
ويشغل فرانسوا لامي، والد طفل مصاب بضمور العضلات الدوشيني (مرض وراثي يؤدي إلى ضمور تدريجي في العضلات)، منصب نائب رئيس جمعية “آ إف أم تيليتون” (AFM-Téléthon) الفرنسية. وقد خصّصت هذه الجمعية جزءاً كبيراً من مواردها لدعم أبحاث العلاج الجيني، لما لهذه المقاربة من قدرة على تعديل الحمض النووي واستهداف جذور المرض.

المزيد
زولجينسما السويسري… ماذا حدث لأغلى دواء في العالم؟
ورغم هذا الجهد الاستباقي في تمويل الأبحاث التأسيسية وتوفير بيئة مشجعة للابتكار، يُقرّ لامي بأن الحوافز المتاحة حتى الآن لا تكفي وحدها لدفع شركات الأدوية نحو الاستثمار في تطوير علاجات فعلية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأمراض نادرة لا يتعدى عدد المصابين.ات بها على مستوى العالم عشرة أشخاص، ما يجعل العائد التجاري شبه معدوم، ويُثني الشركات عن خوض هذا المسار.
وفي حديث له مع سويس إنفو على هامش فعالية نظمتها المنظمة الدولية للأمراض النادرة، يصرح لامي قائلاً: “لقد أجرينا أبحاثاً مبكّرة كثيرة لتسهيل تطوير الدواء، وتخفيض كلفته على الشركات، لكننا لا نزال نواجه صعوبة في إيجاد شريك صيدلاني قادر على تحويل هذه الأبحاث إلى علاج يُطرح في السوق”. وهكذا تبقى إنجازات علمية واعدة حبيسة المختبرات الجامعية، بلا سبيل إلى المرضى والمريضات.
وحتى في الحالات القليلة التي تُتاح فيها العلاجات، تتجاوز أسعارها تتجاوز الخيال. ولعل أحدث مثال لهذا هو العلاج الجيني “لينميلدي” (Lenmeldy) ، الذي طرحته شركة “أورشارد للعلاجات الجينية” (Orchard Therapeutics) لعلاج اضطراب وراثي نادر يصيب الدماغ والجهاز العصبي، بسعر خيالي بلغ 4،25 مليون دولار أمريكي (ما يعادل 3،51 مليون فرنك سويسري) لجرعة واحدة.
وتدافع الشركات عن هذه الأسعار بأنها تعكس الفوائد الكبرى للعلاج، وما يوفّره من نفقات على الأنظمة الصحية من خلال تقليص فترات الاستشفاء، إلا أن هذه الأرقام تبقى فوق متناول أي مريض.ة في الدول الفقيرة.
وتقول شيتالي راو، المستشارة العلمية والقانونية في “شبكة العالم الثالث” (Third World Network) بالهند، خلال ندوة جانبية عُقدت على هامش مؤتمر الصحة العالمي بتنظيم من منظمة أطباء بلا حدود: “الإنفاق الصحي في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ضعيف للغاية، ولا توجد فيها برامج تعويض حكومية، ما يجعل الكلفة تقع كاملة على كاهل المرضى والمريضات وأسرهم.هنّ، الأمر الذي يحرم الغالبية الساحقة من العلاج”.
وتمثل الهند نموذجاً صارخاً في هذا السياق، إذ يُباع العقار الوحيد المعتمد لعلاج الضمور العضلي الشوكي (SMA) يُباع تحت اسم “إفريسدي” (Evrysdi) من إنتاج شركة “روش” (Roche) السويسرية، ويبلغ سعره 173،000 دولار سنوياً، بحسب تقارير إعلامية.
ورغم اعتماده في أكثر من مئة دولة، واستفادة 16 ألف مريض ومريضة منه حتى الآن، لم يتلقَّ هذا العلاج في الهند سوى نحو 165 شخصاً، في حين يُولد فيها سنوياً ما لا يقل عن 3،200 طفل.ة مصاب.ة بهذا المرض.
وفي محاولة لفك هذا الاحتكار، تقدّم أحد المصانع المحلية واثنان من المرضى بدعوى قضائية ضد شركة “روش”، سعياً لرفع الحماية عن براءة الاختراع والسماح بإنتاج نسخة أقل كلفة من الدواء. وردّت الشركة بأنها ملتزمة بتوفير “وصول مستدام” للعلاج، مشيرة إلى أنها قدمت للحكومة الهندية “عرضاً خاصاً للسعر” يتماشى مع قدرتها التمويلية.
ما بعد الدواء: عقبات تتجاوز الوصفة الطبية
ليست العقبات التي تواجه المصابين.ات بالأمراض النادرة في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، محصورة في غلاء الدواء أو ندرته، فحتى الوصول إلى التشخيص، الخطوة الأولى على طريق العلاج، كثيرًا ما يتحوّل إلى رحلة مضنية، تستغرق ما بين أربع وست سنوات، في المعدّل، يُحال خلالها المريض.ة من طبيب.ة إلى آخر، في دوّامة بحث عن إجابة قاطعة لما تـ.يعانيه.
ويُقدّر أن نحو 40% من المرضى والمريضاترابط خارجي لا يحصلون.ن على تشخيص على الإطلاق. ففي العديد من الدول، لا يُلزم القانون بإجراء فحوصات مبكرة للمواليد من الذكور والإناث لكشف الأمراض النادرة، كما أن تقنيات الفحص الجيني المتقدمة، التي تسمح برصد الطفرات الوراثية بدقّة، غير متوفرة في البيئات ذات الموارد المحدودة.
ولا يطال هذا العجز في أدوات الكشف والتشخيص المرضى والمريضات فحسب، بل يُلقي بظلاله الثقيلة على الأنظمة الصحية برمّتها، إذ يُبقيها أسيرة العتمة الإحصائية، عاجزة عن رسم صورة دقيقة لانتشار هذه الأمراض وحجمها الحقيقي. وتزداد الهوّة اتساعاً مع النقص الحاد في الكوادر الطبية المتخصّصة، كمعالجي.ات النطق والمستشارين.ات الوراثيين.ات، ما يُضعف البنية الرعائية من جذورها، ويحول دون بناء استجابة صحية متكاملة وفعّالة.
وتُعبّر ميزا مارسيا روسلان، شابّة ماليزية في السابعة والعشرين تعاني من الضمور العضلي الشوكي وتشغل منصب نائب سكرتير جمعية الضمور العضلي الشوكي الماليزية، عن هذه المعضلة بوضوح فتقول: “الوصول إلى الدواء أمر مهمّ، لكنّه ليس كلّ شيء. فنحن بحاجة أيضًا إلى دعم مقدّمي الرعاية، وإلى منظومة تُحيط بالمريض.ة لا تقلّ شأنًا عن العلاج نفسه”.
وعلى صعيد السياسات، لا يزال اعتماد خطط وطنية لمعالجة الأمراض النادرة متفاوتاً بشدة من دولة إلى أخرى؛ فبعض البلدان لا تملك قواعد بيانات ترصد هذه الحالات، فيما قطعت دول أخرى شوطاً في تغطية العلاجات. لكن التحوّل المنشود في السياسات لا يزال بطيئاً ومتفاوتاً.
في ماليزيا، التي شارك وزير صحتها في الفعالية التي نظّمتها المنظمة الدولية للأمراض النادرة، وُضعت أول استراتيجية وطنية للأمراض النادرة عام 2018، تلتها إرشادات خاصة بالأدوية النادرة عام 2021.
أما إسبانيا، التي دفعت بالملف إلى الساحة الدولية بالشراكة مع مصر، فقد أقرّت سياستها الوطنية في هذا المجال منذ عام 2009.
واعتمدت سويسرا بدورها خطة وطنية للأمراض النادرة عام 2014، تشمل أهدافاً واضحة تتعلق بالتشخيص والعلاج. ويُقدّر عدد المصابين.ات بهذه الأمراض في البلاد بأكثر من نصف مليون شخص، أي أكثر من عدد المصابين.ات بالسكري.
وتعلّق روسلان آمالًا كبيرة على القرار الأممي الأخير، وتقول في حديث لها مع سويس إنفو: “نحن نرجو أن يُشكّل هذا القرار حافزًا للدول كي تأخذ الأمراض النادرة، واحتياجات المرضى.ات على محمل الجد. وكلّ ما نريده هو العدالة؛ أن نندمج في المجتمع، وأن نُمنح الفرصة لتحقيق إمكاناتنا”.
لكن رغم أهمية خطة العمل العالمية التي يطمح الجميع إلى بلورتها، فإن القرار بحد ذاته غير ملزم، وسيظل تطبيقه رهناً بإرادة الحكومات.
كما يختصر محمد حسني، مساعد وزير الصحة المصري لشؤون المشروعات العامة، الواقع ببساطة قائلاً: “القرار وحده لن يغيّر حياة الناس، هدفنا هو ترجمته إلى أجندات وطنية قابلة للتنفيذ”.
المزيد
تحرير: فيرجيني مانجان
ترجمة: جيلان ندا
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.