مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“تريغون فيلم”: 20 عاما في خدمة التفاهم والتعايش الثقافي

لقطة من شريط "رحلة تونس" (2007) الذي استعاد فيه المخرج السويسري برونو مول رحلة الرسام الشهير بول كلي إلى تونس في بداية القرن الماضي

عشرون سنة، لم تنقطع فيها مؤسسة تريغون- فيلم عن توزيع أفلام الجنوب من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في سويسرا والبلدان الأوروبية المجاورة.

ومنذ تأسيسها سنة 1988، أتاحت هذه المؤسسة للجمهور – داخل سويسرا وخارجها – مشاهدة 250 عملا سينمائيا هادفا، وأصدرت كتبا، ووزعت مطويات ودوريات وملفات بعضها لإثراء الحوار بين الثقافات، وبعضها لتشجيع قيم التعدد والتسامح في المؤسسات التعليمية.

وظل هدف هذه المؤسسة المتميزة خلال هذا المشوار الطويل، إبراز الثراء الثقافي الذي يزخر به العالم، وتعزيز قيم التفاهم والتعارف بين الشعوب من خلال الترويج لأعمال فنية تجمع بين جمالية فنية عالية، ومضمون ثقافي هادف.

ويقول فالتر روغل، رئيس تريغون- فلم: “نريد توسيع الرؤية حول العالم وقضاياه، والمساهمة في ذلك عبر إتاحة الفرصة للجمهور العريض لمشاهدة أفلام تنتمي إلى فضاءات ثقافية مختلفة، وتقدم تجارب إنسانية متنوعة، وليس فقط التسلية وقضاء الوقت”.

وحين باشرت هذه المؤسسة نشاطها في الثمانينات كانت أفلام الجنوب التي تعرض في القاعات السويسرية قليلة جدا أو منعدمة. لكنها، أصبحت خلال العشرين سنة الأخيرة ظاهرة حاضرة بقوة، وتلقى نجاحا مطردا. وتحظى هذه الأعمال بمتابعة جمهور كبير يزيد عن ثلاثة ملايين مشاهد، فضلا عما حصدته تلك الأفلام من جوائز وتكريم خلال المهرجانات السينمائية في سويسرا وخارجها.

وبفضل العمل الذي قامت به تريغون- فيلم، أيضا أصبحت أسماء مثل جورج فيرتادو، وإيليزيو سوبيلا، أو كارلو سورا من أمريكا اللاتينية، وناصر خمير، وفلورا قومز، أو عبد الرحمان سيساكو من إفريفيا، وعبّاس كياروستمي، وعاليا سليمان من آسيا، أسماء مألوفة في المشهد السينمائي السويسري، والأوروبي.

وللوقوف على حقيقة هذه التجربة من الداخل، ومعرفة أبعادها والنجاحات التي حققتها، والتحديات التي تواجهها، أجرت سويس انفو الحوار التالي مع فالتر روغل، مدير مؤسسة تريغون- فيلم.

سويس انفو: تحي تريغون- فيلم هذه السنة الذكرى العشرين لتأسيسها، ما هي الحصيلة التي يمكن الخروج بها من هذين العقدين؟

فالتر روغل: قبل قيام تريغون- فيلم، كانت تطغى على العروض المقدمة في قاعات السينما السويسرية بشكل كامل سينما أمريكا الشمالية والأوروبية. ولم يكن هناك إطلاقا أفلام من أمريكا اللاتينية أو من إفريقيا وآسيا. ولم يكن أحدا يسمع شيئا عن السينما العربية، وإن عرضت بعض الأعمال فهي تعرض الواقع العربي بعيون أمريكية وانجليزية، وإن كان بديكور عربي. وهكذا، بعد 20 سنة من الوجود، وتوزيع 250 شريطا، نحن نعتقد أن التجربة كانت مثمرة جدا. وأدى النجاح الذي حققته العديد من أفلام الجنوب إلى تشجيع القاعات السويسرية على إعطاء الفرص للأفلام القادمة من إفريقيا وآسيا وأيضا من أمريكا اللاتينية. وبالطبع نحن لا نزال في بداية المشوار.

سويس انفو: برغم الجهود المبذولة، تبقى أفلام الجنوب مهمشة في المشهد السينمائي السويسري؟ لماذا؟

فالتر روغل: يمكن أن نقول نعم، ويمكن أن نقول لا، وذلك نظرا لحجم الأعمال التي تم عرضها، وإلى واقع السينما السويسرية بصفة عامة. فالساحة السينمائية هنا منقسمة على حالها: من جهة الأعمال الرامية إلى الترفيه والتسلية، وهي قادمة من لوس أنجلس وبومباي وهونغ كونغ، وتجلب الجماهير الغفيرة، ولا ننكر أن أفلام الجنوب مهمشة في هذا النمط من الأعمال. لكن، الواقع يختلف تماما عندما يتعلق الأمر بالأعمال الفنية الجادة والهادفة، وهنا استطاعت أفلام الجنوب والشرق إفتكاك موقعها في هذه المساحة خلال العشرين سنة الماضية، والعمل مستمر من أجل الحفاظ على حضورها وتعزيزه، وهذا مهم.

سويس انفو: إذا علمنا حجم الأفكار المسبقة التي يحملها السويسريون عن الأجانب، ماذا يفيد انفتاح الشاشات الكبرى من حين لآخر على مساحات وتجارب ثقافية غير معهودة ؟

فالتر روغل: ليس هناك خيار آخر، لمواجهة هذه الأفكار المسبقة، والتي ليست حكرا على سويسرا، لابد من السعي للتعرّف على الآخر، عبر الصورة والصوت، وعبر النظر في الماضي والحاضر، وبهذه الطريقة فقط يمكننا القبول بالمختلف وتعلم قيم التعدد والتسامح، وتصبح الثقافات مهما اختلفت ثراء للعالم، وليست خطرا على بعضها البعض. وفي هذه الحالة فقط، تتقارب رؤيتنا للوقائع، وتتوحد أحلامنا ومخاوفنا.

سويس انفو: بعد هذه التجربة الطويلة في مجال توزيع أفلام الجنوب، هل تعتقدون أن هذه العملية ساهمت في تعزيز الحوار بين الثقافات، أم على العكس كرّست عدم التفاهم؟

فالتر روغل: أنا على يقين أن هذه التجربة قد عززت الحوار بين الثقافات المختلفة. وأقول هذا من وحي التجربة، وألاحظ هذا جيدا أثناء الحوارات التي تعقب عرض أحد الأفلام التي نوزّعها. ولا يمكن لعالمنا أن يتقدم من دون التعاون والحوار بين مكوّناته المختلفة. هذا لا يعني أبدا أن تخضع ثقافة ما لثقافة أخرى، ولكن أن تعترف الواحدة بالأخرى وأن يتعايشا في احترام متبادل. وهذا أيضا لا يُغني عن النقد الذاتي الذي يجب أن تقوم به كل ثقافة لحالها. وبالنسبة لي، التنوّع الثقافي ثراء يجب أن نعززه وندافع عنه، لا أن نحاربه.

سويس انفو: بين المقبولية ويسر التوزيع، وأصالة العمل الفني ومضمونه، أي القيمتين تحظى بالأولوية لديكم؟

فالتر روغل: جودة العمل الفني في الأساس تكمن في أصالته، وصدقه في التعبير عن القضية التي يعالجها، ثم لاحقا، النظر في مدى قابلية العمل للتوزيع في سويسرا، لأنه كذلك من دون إقبال قاعات العرض على العمل، لن يجد طريقه إلى الجمهور. هذا لا يعني أننا نطلب من المنتجين والمخرجين أن يقدموا تنازلا من أجل ترويج أعمالهم، كلاّ، لكن لا يمكن عرض عمل ما خارج دائرة المهرجانات السينمائية المحترفة وأمام جمهور عريض ما لم يحظى أيضا بالحد الأدنى من القبول.

سويس انفو: خمسة أفلام عربية من مجموع 25 فلما اخترتموها لإحياء الذكرى العشرين لمؤسستكم، ما هي الأهمية التي تولونها للسينما العربية؟ وما هو الانطباع الحاصل لديكم على إنتاج الفن السابع في المنطقة العربية؟

فالتر روغل: لم ننتبه إلى هذا، ولكن كون 20% من الأفلام المبرمجة في إطار إحياء الذكرى العشرين لانطلاق عملنا أفلاما عربية، فهذا يسعدني. ومنذ البداية كانت نسبة الأفلام العربية كبيرة ضمن مجموعة الأفلام التي وزعناها، وهذا لأنه هناك أعمال جيدة تأتي من العالم العربي ولأننا نعير اهتماما كبيرا للحوار بين الثقافات ولإبراز الثراء الثقافي في العالم العربي. ثم إننا نسعى إلى إظهار الرؤى المختلفة حول العالم الذي هو متعدد بطبعه ومن هنا وجب الانفتاح والإقرار بوجود الثقافات الأخرى.

سويس انفو: ورغم ذلك، نلاحظ خلال السنوات الأخيرة تراجع عدد الأفلام العربية المشاركة في المهرجانات السينمائية في سويسرا، كيف تفسرون هذا الغياب؟ هل ثمة توجه لعوالم ثقافية أخرى، أم قلة إنتاج وغياب للطرافة؟

فالتر روغل: أعرف جيدا المسؤولين على تلك المهرجانات وأتابع عن كثب الأفلام التي تعرض خلالها وإذا كان هناك تراجع في عدد الأفلام العربية في تلك المناسبات فهذا يعود إلى ندرة الأعمال من حين إلى آخر. وهذا بالمناسبة يحدث في مناطق أخرى من العالم أيضا، ولا تستثنى من هذا السينما السويسرية.

ولكن، هل هناك فعلا ندرة في الأفلام العربية في سويسرا؟ ففي لوكارنو مثلا نظمنا سنة 2007 تظاهرة أطلقنا عليها “الأبواب المفتوحة” ركزنا فيها على الشرق الأوسط وقدمنا فيها المساعدة لإنتاج شريطين سينمائيين عربيين. ولأنني ألتقي باستمرار منتجين ومخرجين من هذه المنطقة، أعلم إلى أي درجة أصبح من الصعب عليهم إيجاد الدعم المالي لإنتاج فيلم ما.

سويس انفو: أعلنت منظمة الأمم المتحدة إنشاء صندوق مالي بمقدار 100مليون دولار لتمويل إنتاج أعمال سينمائية لتعزيز الحوار والتفاهم بين العالمين الإسلامي والغربي، كيف تنظرون إلى هذه الخطوة؟

فالتر روغل: كل جهد يبذل من أجل التبادل الثقافي والإنتاج السينمائي في بلدان الجنوب وبلدان الشرق مهم، وكل مبادرة من أجل تحسين العلاقات بين الثقافات المختلفة يجب تقديرها، لأن التعرف على الآخر والانفتاح عليه لا يزيدنا إلا قربا منه. لكن، السؤال هو: كيف ستوزع الأموال المرصودة؟ وإلى من ستعطى؟ وما طبيعة المشروعات التي ستلقى الدعم؟ وإذا كان المطلوب هو تعزيز الحوار من المهم أن تقود هذا المشروع عقلية حوارية وأن نغادر عقلية “المونولوغ” التي لا تزال تتحكم في العديد من المبادرات والمهم ليس الشعار بل السبيل إلى تحقيقه.

أجرى الحديث: عبد الحفيظ العبدلي

● تأسست جمعية تريغون- فيلم سنة 1986 بمنطقة بادن، بكانتون أرغوفي، وتحولت إلى مؤسسة سنة 1988.
● منذ تأسيسها أشرفت تريغون- فيلم على توزيع 250 عملا سينمائيا، تابع عروضها أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد، دون نسيان الجوائز العديدة التي حصدتها بعض تلك الأفلام داخل سويسرا وخارجها.
● خلال ربيع 2007، احتفلت دار النشر التابع لهذه المؤسسة بعرض فلم “مادينوسا”، للمخرجة البيروفية كلوديا لوزا، الذي سيمثل العمل المائة الذي يطبع في شكل قرص مندمج من نوع دي في دي DVD ويوزع ويباع على نطاق واسع.
● خلال سنة 2008، تحي المؤسسة الذكرى العشرين لتأسيسها عبر 24 كانتونا في سويسرا، ومن خلال عرض 25 فيلما مختارا.
● أصبح لأفلام الجنوب في سويسرا حضور كبير خاصة خلال مهرجانات الفن السابع التي تنظم سنويا بزيورخ، وفريبورغ، ولوكارنو، وجنيف، ونيون بكانتون فو.
● تقوم هذه المؤسسة التي تحصل على تمويلات من مؤسسات رسمية وشعبية وخاصة بتقديم الدعم لإنتاج وتوزيع أشرطة الجنوب، ويتم اعتماد الدعم بعد دراسة دقيقة لسيناريو الفلم ومقاصده وحظوظ نجاحه.

اختارت تريغون- فلم الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيسها على طريقتها الخاصة، وفي قاعات السينما المظلمة، ومع جمهورها الوفي. وخلال السنة الجارية، وفي مناطق مختلفة من سويسرا، تعتزم هذه المؤسسة عرض 25 فلما اختارتها للمناسبة، ومرفقة بكتاب حول الثقافة السينمائية.

وتكشف قائمة الأفلام السعي إلى استكشاف فضاءات ثقافية لم يعهدها المشاهد الغربي، وانفتاح بلا حدود على التجارب السينمائية العالمية، ودعوة للحوار والتثاقف. فالعالم، لا يختلف عن بعضه البعض، باللون أو الجنس، بل بالرمز والثقاقة. أنها محاولة لجعل السينما جسرا للحوار والتبادل الثقافي بين الأمم.

وضمن الأعمال المبرمجة للاحتفال بالذكرى العشرين هذه السنة خمسة أفلام عربية، وهي من تونس، “الهائمون” لناصر خمير (1984)، و”صمت القصور” لمفيدة التلاتلي، (1994)، و من فلسطين، “قصة ضياع” لإيليا سليمان، (1996)، ومن لبنان “بيروت الغربية” لزياد الدويري (1997)، وأخيرا من موريتانيا، “في انتظار تحقيق الحلم”، لعبد الرحمان سيساكّو.

وإلى جانب هذه المختارات العربية، نجد أيضا عشرين فلما، بعضها يعود إلى الأربعينات، وبعضها إلى ما قبل سنتين أو ثلاث فقط. و هي تختلف أيضا في مصادرها ولغتها، بعضها من اليابان وأستراليا، والبعض الآخر من الأرجنتين والمكسيك، مرورا بالسينغال وغينيا بيساو، كما أن بعضها أفلام روائية طويلة، وبعضها الآخر، أفلام وثائقية شهيرة.

وتقدّم كل قطعة من هذه القطع الفنية الرائعة مفاتيح لاستكشاف عالم مجهول، أو إحياء ذاكرة بدأ يلفها النسيان،، أو حالة اجتماعية تحتاج إلى لفت نظر، وربما إلى الإحتجاح والتنديد والمطالبة بسرعة تغييرها. وبرغم هذا الاختلاف في الموضوع ، تتوحد الأعمال جميعها في السعي لتقديم أعمال صادقة في تصوير واقعها، وجادة في التصدي لقضاياه، بعيدا عن أي تنازل أو مساومة أو ضغوط، فالسينما فن، والفن لا يمكن أن يكون في خدمة سلطة مهما كانت، وإلا فقد جوهره ومعناه.

ولد بزيورخ، ودرس بجامعتها الأدب والفلسفة.
عمل صحافاي حرا لدى عدد من وسائل الإعلام السويسرية بالمنطقة الألمانية.
يعمل محررا ثقافيا ومسؤولا عن قسم السينما بإدارة تحرير الصحيفة اليومية تاغس أنتسايغر التي تصدر بزيورخ.
ألف العديد من الكتب حول السينما.
يتولى إدارة مؤسسة تريغون – فيلم، الملتزمة بدعم وتوزيع أفلام الجنوب في سويسرا، وبعض البلدان الأوروبية المجاورة منذ سنة 1999.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية