انقسام الآراء في سويسرا بشأن طرق التخلص من النفايات النووية
الشريط يتوفر على جميع مواصفات الإثارة: صور جذّابة وموسيقى درامية وشخصيات ملفتة للأنظار. لكن الأمر لا يتعلّق بقصة رومانسية، بل هو عمل وثائقي يعرض التحديات التي يطرحها تخزين النفايات النووية بشكل آمن، ويُسلّط الضوء على الجدل الذي لا ينتهي بشأن هذا الموضوع في سويسرا.
اجتذب فيلم إدغار هاغن الوثائقي “رحلة إلى المكان الأكثر سلامة على وجه الكرة الأرضية” حول كيفية التعامل مع النفايات النووية، انتباه الجمهور بسهولة خلال عرض لهذا الشريط مؤخرا في برن وذلك نظرا للشكوك الواسعة الإنتشار بشأن الطاقة النووية.
وكما يُقال: إذا عُرف السبب بطُل العجب، فهذا العمل الوثائقي يوظّف المشاعر ويميل إلى تبسيط الأشياء، لكشف المحاولات الفاشلة السابقة والمصاعب التي تعترض السّعي إلى إيجاد طريقة ناجعة في تخزين هذه النفايات.
بعد أسابيع قليلة، عُرض فيلم “وعد باندورا” في زيورخ، وهو عمل فني تضمن انتقادا لنفاق النشطاء المدافعين عن البيئة، وإشادة بالطاقة النووية التي يعتبرها واحدة من التكنولوجيات القادرة على إنقاذ كوكب الأرض من الإحتباس الحراري والتغيّرات المناخية.
المزيد
المحطة الأخيرة للنفايات النووية قبل دفنها
دلالات خاصة
الفيلمان لهما دلالة خاصة بالنسبة للوضع القائم في سويسرا، حيث يجد هذا البلد المتمسّك بالديمقراطية المباشرة نفسه أمام مُـفترق طرق. ففي عام 2002، رفض الناخبون في كانتون نيدفالد بناء مستودع للتخزين في أراضي الكانتون.
على الرغم من أن الكانتونات لم تعد تتمتع بحق النقض (الفيتو) بشأن هذا النوع من المستودعات، ظل المشكل بدون حل. فالحكومة لا تزال مكلّفة بالقيام بعمل صعب، يتمثل في إقناع جميع الأطراف المعنية نظرا لأن هذا الصنف من المشروعات المُعقّدة يحتاج إلى دعم جماعي.
في الوقت الحاضر، تخطط سويسرا لبناء خزّان عميق لإيداع نفاياتها النووية. وتعود إلى المكتب الفدرالي للطاقة مسؤولية الإشراف على عملية انتقاء المواقع المناسبة لذلك. وحتى الآن، تم تحديد ستة مواقع تتوفّر فيها الشروط المطلوبة لهذا النوع من المستودعات العميقة.
وكالعادة، ستكون الكلمة الأخيرة للناخبين السويسريين الذين سيجدون أنفسهم أمام خيارين: إما أن يُوافقوا على المناطق التي ستختارها الحكومة في نهاية المطاف، وإما أن يرفضوها وذلك بحلول عام 2023 وليس قبل ذلك.
النهج التشاركي
من جهته، أشار المكتب الفدرالي للطاقة، ضمن وثيقة اشتملت على 130 صفحة حول هذا النهج التشاركي، إلى أنه “قد أصبح من الواضح بعد مرور 30 عاما على برنامج التخزين أن مشاركة أطياف واسعة من السكان أمر ضروري. واليوم، استعضنا عن النهج السابق المتكوّن من ثلاث خطوات “قرار – إعلان – الدفاع عن القرار” بنهج آخر أكثر شفافية وشمولا وتشاركية”.
لقد كان هذا درسا مهما بالنسبة لتعاونية (Nagra) التي أشرفت حتى الآن على برنامج تخزين المواد المشعة. فقد أوضحت غوتّا لانغ، الناطقة باسم “Nagra” أن الخطة الآن ليس تلقين الجمهور أفكارا مُسقطة من الأعلى، بل الرد على أسئلة تترى على عقول الناس إلا أن المشكلة، تتمثل مثلما تضيف لانغ، في أن “هذا الموضوع مثير جدا للعواطف، ومن النادر تقديم جواب سهل لسؤال من هذا القبيل”.
في عام 2012 لوحده، نظّم المكتب الفدرالي للطاقة 175 ورشة عمل بمشاركة المجتمع المدني وموائد مستديرة لمناقشة برامج التعاونية مع السلطات المحلية والمجموعات المعنية والسكان المحليين. ودُعيت الجهات المعنية إلى التعبير عن هواجسها أو تخوّفاتها والتقدّم بمقترحات بديلة تكون فعالة وناجعة.
ومنذ إنشاء تعاونية ( Nagra ) في عام 1972، أنفقت الحكومة 1.2 مليار فرنك لتمويل برنامج تخزين النفايات المشعة. وترغب الحكومة في المضيّ قدما في البحث عن موقع يصلح لتخزين 100.000 متر مكعب من النفايات، ولكن المعارضين يريدون تسوية جميع الجوانب المتعلقة بالسلامة أوّلا. وحسب أفضل السيناريوهات المحتملة، فإن الموقع الأوّل، الذي كان من المُخطط بناؤه في عام 1985، لن يدشّن إلا في عام 2050!!.
في هذا السياق، يقول تشارلز ماكّومبي، الذي يعمل مستشارا في مجال النفايات النووية بمؤسسة MCM Partners: “غالبية الناس وغالبية السياسيين يعلمون أن هذا أمر ضروري، لكنهم لا يريدون أن تكون تلك النفايات قريبة منهم. ومعظم العلماء متفقون على أنه بالإمكان ضمان السلامة في عملية التخزين، لكن وجهة النظر هذه تجد اعتراضا من بعض الأقليات”.
تظل الطريقة الأسلم لتخزين النفايات المشعة المستودعات الجيولوجية العميقة، لكن هذا الحل يتطلب إستقرارا جيولوجيا وتدفق الحد الأدنى من المياه الجوفية العميقة، وكيمياء مياه جوفية مواتية، لا يكون لها تداخل مع الموارد الطبيعية.
في مختبر “روك تيري” بكانتون جورا، يُجري الباحثون الدوليون تجارب حول جدوى وسلامة التخلص من النفايات عبر دفنها في أعماق طبقات الطين التي تشكلت قبل 180 مليون عام في بحور ضحلة خلال ما يُعرف بـ “العصر الجوراسي”.
بالنسبة للمستودع، يقترح الخبراء تهيئة حفرة على عمق 600 متر، واستخدام طين Opalinus باعتباره مادة مناسبة لاحتواء النفايات خصوصا وأن هذا الصنف من الطين عازل جيد وله بنية متجانسة، كما يشتمل على نويدات تتوسع لشقوق وكسور.
يُراهن الخبراء على حواجز طبيعية وأخرى هندسية، وعلى الصخور المضيفة وكذلك نوعية النفايات، واسطوانات الصلب والمواد العازلة، والردم والأختام التي تمنع تسرّب الإشعاعات. ويقدّر العلماء ان تتآكل الحاوية تماما في غضون 10.000 عام. عندئذ تبدأ النويدات في المغادرة من خلال الصخور المضيّفة.
(المصدر: المكتب الفدرالي للطاقة)
مخاوف المعارضين
على صعيد آخر، نجح المعارضون للطاقة النووية في إسماع صوتهم من خلال فيلم “رحلة إلى المكان الأكثر سلامة على وجه الكرة الأرضية”. وكان من بينهم أورسولا فايس، وهي برلمانية تنتمي إلى الحزب الإشتراكي تكفلت بتقديم الفيلم، وقالت في معرض حديثها: “إنه إرث كبير سوف نتركه لأبنائنا ولأحفادنا. والمشكلة تتجاوز إمكانياتنا التقنية وإحساسنا بالمسؤولية، ومن الصعب جدا إيجاد حل لها”.
وخلال فترة النقاش التي تلت العرض، تناول الكلمة يورغ بوري، مدير المؤسسة السويسرية للطاقة، وهي من المجموعات المناهضة لاستخدام الطاقة النووية، ليقول: “لا أحد يعلم علم اليقين ماذا سيحدث بعد 10.000 عام، ناهيك عن مليون عام، بالنسبة للنفايات المخزنة في باطن الأرض. لذلك نحن نعتقد أن سويسرا تحتاج إلى حلول مؤقتة بدلا من شبه حلول إلى الأبد”.
في المقابل، أعرب عدد قليل جدا من الحضور عن شيء من التعاطف مع مايكل أبرسولد، رئيس البرنامج الحكومي لتخزين النفايات بالمكتب الفدرالي للطاقة، الذي أكّد أن “تخزين النفايات لا يكون آمنا إلا إذا كان في أماكن لا يمكن الوصول إليها”.
تفاؤل المُؤيدين
لا مفر من القول بأن الفرق بين شريطي “رحلة إلى أكثر المواقع سلامة على وجه الكرة الأرضية” و”وعود باندورا” أشبه شيء بالفرق بين الليْل والنهار.
بالنسبة للفيلم الأوّل، استدعُي للحضور نشطاء “المنتدى النووي” Nuklearforum، وهي مجموعة ضغط مؤيدة لاستخدام الطاقة النووية، ومجموعة “المرأة في سويسرا النووية”، وهو جمهور يتكوّن أساسا من ذوي المصالح الخاصة الذين رحّبوا بموقف المسؤول الأوّل عن هذا اللوبي.
الحماسة وروح التفاؤل التي تحدّث بها ستون تُعيد إلى الأذهان الأيام الاولى لاستخدام الطاقة النووية في سويسرا. فالبلاد التي تفتقر إلى النفط والغاز، التجأت إلى مصادر الطاقة النظيفة والرخيصة. ولم تكن مشكلة تخزين النفايات آنذاك مطروحة، طالما أن العملية تتم في مناطق بعيدة.
من جهة أخرى، لا تمثل النفايات اليوم مشكلة أصلا، حسب رأي ستون، الذي أشار عقب اكتمال العرض إلى أن “النفايات واحدة من المشكلات البسيطة”، مُوضّحا أنه أصبح بالإمكان إعادة تدوير بعض أصناف النفايات في المفاعلات السريعة. إضافة إلى ذلك، لم يتردد ستون في وصف النشطاء المناهضين للطاقة النووية بأنهم “أناس مثاليّون، غير عقلانيين إلى حد كبير، وبعيدُون جدا عن المنطق السليم وعما يقوله الخبراء”.
المزيد
رؤيتان مختلفتان حول الطاقة النووية
مشكلة معقّدة ومواقف متصلبة
في الواقع، يُسلّط تصلّب مواقف كلا الطرفيْن الضوء على التعقيدات التي تُحيط بملف تخزين النفايات عموما. كما أن الآثار الأخلاقية المترتبة عن هذا الموضوع تتجاوز الحسابات القائمة على عاملي الوقت والمخيال.
وفي هذا الصدد، يقول يورغ شاخر، وهو خبير في الفيزياء النووية لدى المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، ويعمل في جامعة برن: “لا يُمكنك أن تترك الأخلاقيات جانبا ونحن نحتاج إلى الشفافية”، وأضاف قائلا: “نحن لا نريد حلا سهلا وغير مُكلف يتم من خلاله دفن النفايات في غياهب النسيان”.
من جهته، أكّـد ماركوس فريتشي، رئيس برنامج Nagra لتخزين النفايات، عدم وجود أي خطة بديلة في حالة رفض الناخبون السويسريون المكان المفضّل لدى الحكومة عندما يتم إجراء استفتاء على ذلك في غضون عشر سنوات، وأضاف: “إذا لم نجد مُستودعا مناسبا، سوف نعود إلى المربع الأوّل، وسنكون مُجبرين على تخزين النفايات في مرافق مؤقتة في باطن الأرض. وهذا السيناريو إذا ما حدث سيكون بمثابة الكارثة”. قبل أن يخلُص إلى أن “المجتمع غير ثابت، ويكفي تذكّر كيف كانت أوروبا قبل 70 عاما، سنتأكّد لماذا هذا لن يكون الخيار الأمثل”.
يتولى المكتب الفدرالي للطاقة، المسؤولية الكاملة على المراحل الثلاث لإختيار موقع أو موقعين لإنشاء مستودعات جيولوجية. وفي موفى 2011، وافقت الحكومة الفدرالية على ستة مواقع تتوفّر فيها الشروط المطلوبة وفقا لتعاونية Nagra. وتوجد أغلب تلك المواقع شمال زيورخ وقرب من الحدود مع ألمانيا.
بحلول 2020 تقريبا، سيتم اختيار أحد المواقع على الأقل، وهو الإختيار الذي يجب أن تقره الحكومة لاحقا، ثم البرلمان، وربما احتاج الأمر إلى حسم شعبي عبْر استفتاء عام، وإثر ذلك فقط، يبدأ العمل في هذا الموقع.
بعد أن يُصبح الموقع قابلا للتشغيل، تبدأ عملية ردم المستودع والختم عليه في نهاية المطاف وإلى الأبد. حينها، ستكون أيّ عملية لإسترداد تلك النفايات صعبة ومُكلفة جدا.
الجهات المُشغلة لمحطات الطاقة النووية هي المسؤولة عن النفايات التي يتسبب فيها إنتاج الطاقة، والحكومة مُجبرة على التعامل مع النفايات لآثارها الصحية وفي مجال الصناعة والبحوث. هذه النفايات يجب أن تخزّن داخل الأراضي السويسرية ويُحظر تصديرها إلا إذا كان المورّد لها يتوافق مع مقتضيات القانون السويسري.
فكّرت سويسرا سابقا في إطلاق النفايات في الفضاء، أو التخلّص منها في المناطق الجليدية، أو حقنها في آبار عميقة. كما انخرطت الكنفدرالية في مشروع “بانجيا” (Pangea) الذي يهدف إلى التخلص من النفايات عالية الكثافة في أستراليا، وهو البلد الذي لم يعرف إقامة أي منشأة للطاقة النووية على أراضيه.
ما بين عامي 1969 و1982، دفنت سويسرا 5.341 طن من النفايات ذات المستوى المتوسط والمنخفض في المحيط الأطلسي، ومع أنه حجم يقل عما فعلته بريطانيا وروسيا، إلا أنه يفوق أي بلد مُشابه لها. أما النفايات عالية الكثافة، فقد قامت بإرسالها إلى فرنسا وإلى بريطانيا لإعادة معالجتها.
شيئا فشيئا، أصبح التخلص من النفايات في المحيطات ممنوعا، وبعد أن صدر حظر بهذا المعنى في عام 1976، قررت فرنسا وبريطانيا إعادة تلك النفايات إلى بلدان المنشأ، مما اضطر سويسرا لوضع برنامج وخطة للتخلص من هذه النفايات.
في الوقت الحاضر، تقوم سويسرا بتخزين نفايات محطاتها النووية في براميل جافة في منشأة مؤقتة.
(المصدر: المكتب الفدرالي للطاقة)
(نقله من الإنجليزية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.