ماذا ينتظر العالم من أمريكا؟
لم يعد العالم يُـراهن كثيرا على ما يُـمكن أن يفعله الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش لإصلاح ما أفسده في التعامل مع سياسة أمريكا الخارجية طوال أكثر من ستة أعوام، حيث أنه ليس راغبا في التعلم من أخطائه العديدة.
ولكن العالم يتطلّـع إلى الطريقة التي سيتعامل بها أي رئيس يختاره الشعب الأمريكي خلفا للرئيس بوش مع مكانة أمريكا كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم.
سواء اختار الشعب الأمريكي رئيسا ديمقراطيا بعد خيبة أمله في التحول إلى الجمهوريين أم انتهى الأمر إلى اختيار رئيس جمهوري آخر في نوفمبر من العام القادم، فإن المهم كيف سيخرج الرئيس الجديد من جلباب الحروب الاستباقية وصراع الحضارات ومفهوم فرض هيبة أمريكا بالقوة العسكرية؟
تصدى للإجابة على هذا السؤال الدكتور زبجنييف بريجينسكي، مستشار الأمن القومي السابق فقال: “لا تزال الفرصة سانحة أمام الولايات المتحدة لاستعادة مكانتها في العالم، ولكن ذلك مرهون بما سيحدث خلال ما تبقى للرئيس بوش من شهور في البيت الأبيض، فإذا تفاقم وضع الحرب في العراق وإذا امتدّت الحرب الأمريكية لتشمل إيران، فسيكون ذلك نذيرا بأن بزوغ الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة بعد انتصارها في الحرب الباردة، لن يكتب له البقاء إلا لفترة وجيزة”.
ويشرح الدكتور بريجينسكي كيف يمكن للرئيس القادم للولايات المتحدة أن يقدم نفسه للعالم من خلال إعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية بعيدا عمّـا يصفه بالتوجهات الكارثية للرئيس بوش، التي استندت إلى أفكار فوكي ياما المتفائلة بنهاية التاريخ وقدرة أمريكا على فرض قيَـمها ومبادئها، وفكرة الصِّـدام مع الحضارات الأخرى بسبب ما يشكّـله الإسلام من تهديد كعدُو للحضارة الغربية، بالإضافة لأفكار المحافظين الجدد التي اعتمدت على الحروب الاستباقية لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط وفرض الديمقراطية.
ويقول الدكتور بريجينسكي: إنه “بينما يشهد العالم يقظة سياسية تختلف معالمها جذريا باختلاف المنطقة الجغرافية، فإن الولايات المتحدة ركزت فقط على فكرة أن الشعوب تتطلّـع إلى الديمقراطية والثروة التي يمكن تحقيقها من التجارة الحرة والأسواق المفتوحة، وتناست أن الشعوب تبحث من خلال تلك اليقظة السياسية عن كرامتها”، لذلك، يرى الدكتور بريجينسكي أن الرئيس القادم للولايات المتحدة ينبغي أن يتحلّـى بتفهم لطبيعة الشعور العالمي بضرورة أن يسود العدل وأن يستمع كرئيس أمريكي إلى مظالم الشعوب الأخرى وأن يتفهم بوضوح غير عادي مسؤوليات زعامة العالم ويُـعيد الولايات المتحدة إلى أرض الواقع لكي تتعامل بواقعية مع التحولات الجارية في عالم اليوم، ويعتقد أيضا أنه لو افتقر الرئيس الأمريكي القادم إلى هذه السِّـمات، فستضيع من الولايات المتحدة فُـرصة تصحيح أخطاء الماضي وفرصة استعادة هيبتها ومكانتها، وقد تكون تلك الفرصة الأخيرة، على حد قوله.
أخطاء الماضي وتبِـعات المستقبل
ويرى المستشار السابق لشؤون الأمن القومي أن الرئيس بوش مسؤول عن تقويض وضع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالناحية الجيوسياسية وعدم فهم اللحظة التاريخية، التي تولّـت فيها الولايات المتحدة مسؤولية قيادة العالم بمُـفردها، ولذلك، أخفَـق في إدارة سياسة أمريكا الخارجية إخفاقا ذريعا بسبب جهله، بتعقيدات الشؤون الدولية وتصرّفاته المبنية على تصورات عقائدية لا تستند إلى منطِـق أو دليل، خاصة في أعقاب صدمة هجمات سبتمبر الإرهابية ومرور الولايات المتحدة بحالة من الذعر، سقط معها بوش في هوّة السياسات الانفرادية وبرّرها بالأمن القومي والحرب الكونية على الإرهاب، وأصبح يردد عبارات جوفاء مثل: إما أن تكون معنا أو ضدنا، إن أعداءنا يكرهون الحرية، بالإضافة إلى شعار نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط من الخارج، وكلها مفاهيم بعيدة عن أرض الواقع، مرورا باعتقاده بأن العرب لا يحترمون إلا الطرف القادر على إظهار القوة.
ويقول الدكتور بريجينسكي: “مع أن القوة العسكرية للولايات المتحدة في عام 2006، تفوق بشكل واضح ما كانت عليه في حرب تحرير الكويت عام 1991، فإن قدرة الولايات المتحدة على التوصل إلى توجّـه يشحذ الهمم لكي تشاركها فيه دول العالم، وبالتالي، يمكنها تشكيل حقائق عالمية قد انحدرت بشكل جوهري”.
ويعتقد أن ذلك الانحدار لم يتسبّـب فيه الرئيس بوش وحده، وإنما سبقه إليه الرئيس بوش الأب ثم الرئيس كلينتن قبل أن يصل به الرئيس الحالي إلى مستوى كارثي، حين أصبح العالم ينظر إلى الولايات المتحدة من خلال سياستها في الشرق الأوسط بالتحديد على أنها وريث الإمبريالية البريطانية ووكيل يتصرّف كقوة عظمى بالنيابة عن إسرائيل، وداعية للسلام بالقول، في حين تتّـخذ من سياسة تكتيكات التلكّـؤ والتسويف منهجا للعمل.
ويشرح الدكتور بريجينسكي كيف أن الرئيس بوش الأب بدأ سلسلة الأخطاء الرئاسية، التي أهدرت فرصة تاريخية لقيام الولايات المتحدة بدور إيجابي في قيادة العالم بقوله: “أهدر الرئيس بوش الأب فرصة استخدام كل من النفوذ السياسي الأمريكي الفريد والشرعية الأخلاقية التي كانت متوفرة للولايات المتحدة في أعقاب انتصارها في الحرب الباردة في مساعدة روسيا في التحول إلى نظام ديمقراطي حقيقي، كما أهدر بوش الأب فرصة استثمار الانتصار الاستراتيجي في حرب تحرير الكويت في الضغط من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مما كان سيفتح الباب على مصراعيه للمساعدة في تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة للتحول نحو الديمقراطية والتنمية الاقتصادية”.
ويرى بريجينسكي أن الرئيس كلينتن، وإن كان يستحق الثناء على دوره في تحديد معالم التسوية السلمية للصراع في الشرق الأوسط من خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية وتعزيز التحالف الأطلسي لاحتواء صراع البلقان وتوفير قدر من الاستقرار في يوغوسلافيا السابقة، فإنه أسهم هو الآخر فيما آلت إليه صورة ومكانة الولايات المتحدة، حين أدى أسلوبه المتّـسم بالانتهازية السياسية إلى عدم وضوح الرؤية الإستراتيجية للولايات المتحدة.
ويخلِّـص الدكتور بريجينسكي إلى أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى سنوات عديدة من الجُـهد الحقيقي والمهارة الأصيلة لاستعادة مصداقيتها السياسية وشرعيتها الدولية، وسيتوقف نجاحها في ذلك على المهارات الإستراتيجية والدبلوماسية للرئيس القادم للولايات المتحدة ومدى نجاحه في استخدام تلك المهارات في صياغة سياسة خارجية جديدة تتماشى بالفعل مع حقائق ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
وحذر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق من أنه “ليس هناك أسوأ من أن تترسّـخ صورة أمريكا في أذهان العالم كقوة إمبريالية تتصرّف بغَـطرسة القوة في عصر ودع الإمبريالية منذ قرون”، ونبّـه إلى أن الصين تتحرّك صوب هدف أن تصبح اللاعب المُـهيمن في الشرق الأوسط من خلال حاجتها المتنامية إلى بترول الخليج واستعدادها لتزويد الدول العربية بما تحتاج إليه من أسلحة، ولذلك، فإذا لم تُـغيِّـر الولايات المتحدة من سلوكها في الشرق الأوسط، فستكون قد خلقت لنفسها كارثة في تلك المنطقة الحيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية ولن تكون أمامها فرصة أخرى لإصلاح ما أفسدته السياسات الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة.
التحول إلى الواقعية السياسية
وتحولت سويس إنفو إلى خبير آخر في الشؤون الإستراتيجية الأمريكية، الواجب إتباعها فيما بعد الرئيس بوش، وهو الدكتور فلينت ليفريت، المدير السابق لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، والذي سبق وعمل كخبير لشؤون الشرق الأوسط في هيئة مخططي السياسة الأمريكية في وزارة الخارجية الأمريكية وكبير لمحللي وكالة المخابرات الأمريكية، فقال “إنه من المؤسف أن أي رئيس جديد للولايات المتحدة سيواصل بعض السياسات الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط، ومنها أن الصِّـراع العربي الإسرائيلي لن يجِـد له حلا لفترة طويلة من الزمن، حتى مع انتقال مقاليد السلطة إلى رئيس ديمقراطي، كما أن التوتر الحالي بين الولايات المتحدة وإيران لن ينتهي وسيتواصل الصِّـراع حول دور إيران في منطقة الخليج، كما سيواصل أي رئيس قادم للولايات المتحدة العمل بمُـعظم السياسات الأمنية التي انتهجَـها الرئيس بوش في أعقاب هجمات سبتمبر”.
ونبّـه الدكتور ليفريت إلى أن الشرق الأوسط سيشهد، ولأول مرة، تنافسا على النفوذ بين الولايات المتحدة والصين والهند، بل والاتحاد الأوروبي خاصة في مجال البترول والتجارة والاستثمار، وسيؤدي ذلك إلى حقيقة جيوسياسية جديدة، هي أن الدول الصديقة للولايات المتحدة، مثل مصر والسعودية، ستجد أمامها أكثر من مجرّد الخيار الأمريكي المتاح حاليا، وسيعني هذا أن الدول الصديقة التي مارست واشنطن الضغط عليها من خلال تأخير عقد اتفاقيات للتجارة الحرة معها مثلا، ستجد اختيارات بديلة مثلما تفاوضت مصر مع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية للتجارة الحرة مع دول الاتحاد، وسيعني هذا إبرام تحالفات جديدة خلال العقد القادم، ولن تصبح الولايات المتحدة الحليف الوحيد للدول العربية المعتدلة، مما سيعني تدنيا خطيرا في النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة التي تشكل أهمية إستراتيجية بالغة بالنسبة للولايات المتحدة.
وقال الدكتور ليفريت، إن استعادة مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ستتطلب أن يتفهّـم الأمريكيون أنه لم يعد بوسع أي رئيس أمريكي أن يضمن استمرار توجّـهات الدول الصديقة والحليفة في المنطقة، وأنه ما لم تتم الاستجابة في النظام السياسي الأمريكي لديناميكيات السياسة في الشرق الأوسط والبدء في تعديل التفاهمات القائمة منذ فترة طويلة مع الحلفاء الاستراتيجيين في المنطقة، سيكون أمامهم خيارات أخرى.
ويتعين على الرئيس القادم أن يظهر بالعمل وليس بالقول، لماذا سيكون من مصلحة دول المنطقة الدخول في شراكة مع الولايات المتحدة، سواء عسكريا أو اقتصاديا أو تجاريا أو حتى في مجال الطاقة، وسيعني هذا ضرورة إدخال تغييرات جِـذرية على السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
غير أن الخبير الاستراتيجي الأمريكي أعرب عن عدم تفاؤله بأن الكونغرس الديمقراطي سيُـساند مثل تلك التوجهات التي ستصبح ضرورية فيما بعد رحيل جورج بوش من البيت الأبيض، الذي كان ينتهج سياسة تعتمِـد على فرض التحوّل على الشرق الأوسط وضرورة الانتقال بعده إلى سياسة الواقعية في التعامل مع ديناميكيات المنطقة، ولذلك، يرى أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان النظام السياسي في الولايات المتحدة مستعدا لمواجهة التحديات الجديدة التي تفرضها تلك الديناميكيات.
محمد ماضي – واشنطن
قد تحل أساليب العمل العسكري غير المُـباشر القديمة محلّ فِـكرة التدخّـل العسكري الأمريكي (والغربي عموما) المباشر والمؤشرات على ذلك:
بدأت سياسات التّحالفات والمحاوِر تمثِـل سِـمة رئيسية في المنطقة، مثل تحرّكات مِـحور “المعتدلين” في مواجهة محور “المتطرِّفين” في عدد من الحالات (حرب لبنان، ثم حرب الصومال ثم داخل قطاع غزة، وداخل الدول نفسهابشكل حاد في حالتي العراق ولبنان)
العودة بشكل واسع النِّـطاق إلى سياسات الاحتواء والحظر والحِـصار والاحتواء وكل أساليب العمل التي ارتبطت بالحرب الباردة.
إمكانية عقد صفقات سياسية تؤدّي إلى تغيير بعض المُعادلات في الإقليم، (مثل الحِـوار مع إيران أو سوريا، وصفقة مع السودان).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.