The Swiss voice in the world since 1935

التداعيات العالمية لانحسار الأنهار الجليدية في سويسرا 

الأنهار الجليدية
نهر أليتش الجليدي: فقدت الأنهار الجليدية السويسرية ما يقرب من 40% من حجمها بين عامي 2000 و2024. Keystone / Anthony Anex

من المرجّح أن تختفي الأنهار الجليدية في سويسرا اختفاءً شبه تام بفعل الاحتباس الحراري. ولن تقتصر آثار ذوبان الجليد في جبال الألب على المشهد الطبيعي المحلي، بل ستمتد لتطال مجاري الأنهار الكبرى في أوروبا الغربية، وتترك بصماتها في مناطق أخرى من القارة أيضاً. 

على ممر “يونغ فراو يوخ” (Jungfraujoch)، على ارتفاع يناهز 3500 متر فوق سطح البحر في جبال الألب البرنية، يغرس أندرياس لينسباور، المتخصص في علوم الجليد في جامعة زيورخ، قضيباً معدنياً طويلاً في طبقة الثلج المتساقط حديثاً. ويواصل الضغط حتى يبلغ عمق أربعة أمتار، ثم يتعذر عليه دفع القضيب أكثر، لقد اصطدم بالطبقة المتجمدة التي تُغطي النهر الجليدي. 

ويعلّق لينسباور:”من النظرة الأولى، أستطيع القول إن المؤشرات ليست جيدة”، موضحاً أن سماكة الثلوج الجديدة في هذا الموقع تبلغ عادةً ما بين ستة وسبعة أمتار في نهاية فصل الشتاء. 

ويوجد لينسباور على نهر “ألِتش” (Aletsch)، أطول نهر جليدي في أوروبا، ليشرح كيفية قياس كمية الثلج المتراكم على سطح النهر خلال عام كامل، وهو مقياس حاسم لتوقّع مدى قدرة الجليد على الصمود في مواجهة حرارة الأشهر المقبلة. 

ويضيف قائلاً: “لم تتغيّر طريقة القياس هذه كثيراً منذ أكثر من مئة عام”.  

لكن تبعث البيانات التي جُمعت مؤخرًا، من هذا النهر وغيره، على القلق. فقد سجّل عام 2022، ومن بعده 2023، أعلى معدّلات تراجع للأنهار الجليدية منذ بدء تسجيل البيانات. 

وخلال مؤتمر عُقد في محطة البحوث العلمية على ممر يونغ فراو يوخ، بمناسبة اليوم العالمي للأنهار الجليدية (21 مارس)، قال ماتياس هوس، مدير الشبكة السويسرية لمراقبة الأنهار الجليدية “غلاموس”  (GLAMOS)رابط خارجي: “لقد شهدت السنوات الأخيرة ظروفاً مناخية شديدة التطرف”. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، ارتفع متوسط درجات الحرارة في جبال الألب السويسرية ثلاث درجات مئوية، أي ما يعادل ضعف المعدّل العالمي. 

ولا يزال الوقت مبكراً لمعرفة ما إذا كان نهر ألِتش – وغيره من الأنهار الجليدية في جبال الألب – قد شهد تراكماً جيداً للثلوج خلال هذا الشتاء. ومن المرتقب أن تبدأ عملية تسجيل القياسات الرسمية التي تُجريها “غلاموس” في غضون أسابيع قليلة. لكن تشير الملاحظات الأولية إلى أن كمية الثلوج المتراكمة على الأنهار الجليدية أقل بكثير من المعدّل المعتاد، لا سيما في المناطق الشرقية من البلاد. 

ويُحذّر هوس من أن يؤدّي استمرار ذوبان الأنهار الجليديّة، بفعل الاحتباس الحراري، إلى تداعيات واسعة النطاق. فسيتحوّل المنظر الطبيعيّ في جبال الألب بشكل كبير، وستنشأ بحيرات جديدة، وستُصبح الانهيارات الأرضيّة والفيضانات أكثر تكرارًا. وسيشتدّ شحّ المياه في الفترات الحارّة والجافّة، ويغدو أكثر وضوحًا. ويؤكّد هوس أنّ تراجع الأنهار الجليديّة في سويسرا لن ينحصر أثره داخل البلاد، بل سيمتدّ ليطال مناطق بعيدة، وصولًا إلى المحيط. 

التربة الصقيعية
يشرح عالم الجليد أندرياس لينسباور كيفية قياس طبقة التربة الصقيعية التي تغطي النهر الجليدي. Keystone / Peter Klaunzer

هل تختفي الأنهار الجليدية في سويسرا بحلول عام 2100؟ 

منذ عام 1850، انكمشت الأنهار الجليديّة في سويسرا بمقدار يعادل مساحة كانتون أوري، فيما اختفى أكثر من ألف نهر جليدي صغير بالكاملرابط خارجي. أما الحجم الإجمالي للأنهار الجليديّة المتبقيّة في البلاد، وعددها 1،340 نهرًا، فقد تقلّص بنحو 40% منذ عام 2000، بمعدل خسارة سنويّة يزيد عن متر واحد في السماكة الجليديّة. 

وعند النظر إلى ذلك النهر الجليديّ الهائل الممتدّ من ممرّ “يونغ فراو يوخ”، يصعب تصديق أنّ نهر  ألِتش  قد يختفي خلال 75 عامًا فقط. ففي “كونكورديا بلاتز” (Konkordiaplatz)، النقطة التي تلتقي فيها أربعة أنهار جليديّة لتشكّل نهر ألِتش ، يبلغ عرض الكتلة الجليديّة 1،5 كيلومتر، ويصل سمكها إلى 800 متر. 

نهر جليدي
يصل سمك نهر أليتش الجليدي إلى 800 متر وعرضه 1.5 كم. swissinfo.ch

ومع ذلك، تشير نماذج التنبؤ الجديدة، التي تأخذ في الحسبان للمرّة الأولى صيفي 2022 و2023 شديدي الحرارة، إلى أنّ حتى أكبر الأنهار الجليديّة في سويسرا وأعلاها ارتفاعًا قد تختفي بالكامل بحلول عام 2100، ما لم يُسجَّل انخفاض حادّ في انبعاثات الغازات الدفيئة. 

ويقول دانيال فارينوتي، المتخصّص في علوم الجليد في المعهد التقنيّ الفدراليّ العالي في زيورخ (ETH): “لكن إذا التزمنا بالأهداف التي حددها اتفاق باريس للمناخ، وتمكّنا من تثبيت الاحترار العالميّ بين 1،5 و2 درجة مئويّة، فقد يتمكّن أحفادنا من رؤية ربع الأنهار الجليديّة السويسريّة على الأقلّ”.  

رسم
Kai. Swissinfo

 

مياه أقل في الأنهار الأوروبية الكبرى خلال الصيف 

وتعمل الأنهار الجليديّة كمستودعات مياه طبيعيّة؛ فهي تختزن مياه الثلوج المتساقطة في الشتاء، ثم تُطلقها تدريجيًّا خلال أشهر الصيف. وتُعدّ هذه المياه موردًا بالغ الأهمية لإنتاج الطاقة، وريّ الأراضي الزراعيّة، وتأمين مياه الشرب للسكّان في سويسرا. 

ويمتد أثر الجليد الذائب في جبال الألب إلى ما هو أبعد من حدود البلاد، إذ يغذي بعضاً من أكبر الأنهار في أوروبا الغربية، مثل الراين، والدانوب، والبو. أما مياه الجليد الذائب التي تغذي نهر ألِتش، فتتجه إلى نهر الرون، الذي يخترق كانتون فاليه وجنيف وجنوب فرنسا، قبل أن يصبّ في مياه المتوسط. وتبلغ مساهمة الأنهار الجليدية في تدفق نهر الرون في جنيف ما يقارب 30%، وقد ترتفع هذه النسبة في فترات الجفافرابط خارجي

غراوبوندن
تطور نهر تسشيرفا الجليدي في غراوبوندن. swisstopo, VAW-ETH

ومنذ عام 1980 وحتى اليوم، شهدت كمية المياه المتشكِّلة من الأنهار الجليديّة الذائبة ازديادًا ملحوظًا، ما كان يُعدّ نعمة للأنهار الأوروبية الكبرى، كما يشير ماتياس هوس. لكن بلغ هذا الذوبان مستويات قصوى، إلى درجة أنّ كميّة المياه المتدفِّقة بدأت تتناقص. ويضيف: “لقد بلغنا “ذروة المياه” (اللحظة التي يصل فيها تدفق مياه الجليد الذائب إلى أقصى مستوياته) سواء بالفعل في جبال الألب، أو إنّنا على وشك بلوغها خلال سنوات قليلة.”  

”لقد عصرنا بالفعل الأنهار الجليدية مثل الليمون“.

ماتياس هوس، عالم الجليد

ويعني هذا أنّ كميّة المياه في وديان الألب وفي الأنهار الأوروبيّة الكبرى، ستبدأ بالانحسار. وقد ينعكس ذلك سلبًا على الملاحة، والزراعة، والتوازن البيئيّ، فضلًا عن موارد مياه الشرب، وإنتاج الطاقة. ففي فرنسا، تُستخدم مياه نهر الرون لتشغيل نحو عشرين محطّة كهرومائيّة، كما تُستخدم أيضًا في تبريد مفاعلات أربع محطّات نوويّة. 

وحتّى في ظلّ صيف أكثر دفئًا، وذوبان سريع للجليد، فسيتراجع تدفّق المياه الناجمة عن ذوبان الجليد مستقبلًا. ولن تكون الأنهار الجليديّة قادرة على التخفيف من آثار موجات الجفاف المتكرِّرة والممتدّة. فيقول هوس: “حتى الآن، تخفي وفرة المياه خلفها واقع النقص، بفضل التدفّق الإضافي الناجم عن الذوبان، لكن تتلاشى هذه الظاهرة تدريجيًا”. ويضيف بأسى: “لقد عصرنا الأنهار الجليديّة كما تُعصر الليمونة”. 

وقد بلغترابط خارجي “ذروة المياه” بالفعل في معظم الأحواض المائيّة التي تهيمن عليها الأنهار الجليديّة الصغيرة، كما في غرب كندا وأمريكا الجنوبيّة. أما في آسيا الوسطى وهضبة الهيمالايا، فمن المتوقع أن تبلغ هذه الذروة في منتصف هذا القرن.  

>> يُظهر الرسم البياني أدناه أن كمية المياه الناجمة عن ذوبان الأنهار الجليدية في سويسرا قد بلغت ذروتها بالفعل، بغض النظر عن مدى الاحتباس الحراري المتوقع. 

رسم
Kai. Swissinfo

مستوى سطح البحر قد يرتفع بمتر بحلول عام 2100 

ويشرح دانيال فارينوتي أنّ الذوبان العالميّ للأنهار الجليديّة الجبليّة، إلى جانب القمم الجليديّة في غرينلاند والقطب الجنوبيّ، يُعد من العوامل الأساسيّة التي تتسبّب في ارتفاع مستوى سطح البحر. فبحسب دراسةرابط خارجي نُشرت في مجلّة نيتشر(Nature)  عام 2021، تسبّب ذوبان الأنهار الجليديّة وحده في ما يصل إلى 21% من الارتفاع المسجّل في مستوى البحار بين عامي 2015 و2019. 

أما مساهمة الأنهار الجليديّة في سويسرا، وفي جبال الألب عمومًا، في هذا الارتفاع، فتبقى محدودة نسبيًا.رابط خارجي.. غير أنّ ذوبان الأنهار الجليديّة لا يقتصر على سويسرا، بل يحدث في مختلف أنحاء العالم، ما سيُطلق كميات هائلة من المياه خلال العقود المقبلة. وبحسب سيناريوهات المناخ المتوقَّعة، قد يرتفع مستوى سطح البحر بين 50 سنتيمترًا ومتر واحد بحلول عام 2100. 

السياحة في سويسرا بلا أنهار جليدية 

ولا تقتصر أهميّة الأنهار الجليديّة في جبال الألب على أنّها خزّانات مائيّة ثمينة، بل إنّها أيضًا من أبرز المعالم السياحيّة التي تستقطب الزوّار من مختلف أنحاء العالم كلّ عام. ففي عام 2024، تجاوز عدد من صعدوا إلى قمة يونغ فراو يوخ، حيث تقع أعلى محطة قطار في أوروبا، مليون زائر وزائرةرابط خارجي.  

لكن إذا ما اختفى الجليد، فستجد وجهات شهيرة مثل زيرمات، عند سفح جبل ماترهورن، أو قمّة يونغ فراو يوخ، نفسها مضطرّة إلى إعادة تقديم هويّتها السياحيّة من منظور جديد، بحسب ما تورده الأكاديميّة السويسريّة للعلوم الطبيعية في ورقة معلومات حديثةرابط خارجي

ومن جهته، يقول أندريه آشواندن، المتحدث باسم هيئة السياحة السويسريّة، في رسالة إلكترونيّة لموقع سويس إنفو (SWI swissinfo.ch)، يتابع القطاع السياحيّ تبعات تغيّر المناخ عن كثب؛ فكانت الجبال والأنهار الجليدية، ولا تزال، عناصر جذب أساسيّة في السياحة السويسريّة، لكنّه يعترف بصعوبة التنبؤ بمدى تأثير ذوبانها في عدد الزوار والزائرات في المستقبل. 

وتقول إلس فان فيلين، من شركة بريطانيّة متخصّصة في تنظيم رحلات المشي في سويسرا وأوروبا: “نعتقد أنّ سويسرا دون أنهار جليديّة، ستكون أقلّ جاذبيّة للسيّاح والسائحات من بريطانيا، مقارنة بسويسرا بجليدها”. وتُضيف أنّ ذوبان الأنهار الجليديّة لم يؤثِّر حتّى الآن على حجم الحجوزات، لكنّه أدى إلى زيادة الانهيارات الصخريّة في بعض المواقع. وتُحذّر قائلة: “في المستقبل، قد نضطرّ إلى تعديل بعض مساراتنا أو برامجنا”. 

أمّا ماتياس هوس، فيصعب عليه تخيّل سويسرا بلا أنهار جليديّة. ويقول بثقة: “أنا متأكِّد من أنّ بعضًا منها سيظل موجودًا عندما أتقاعد، لكن قد يكبر أطفالي أو أحفادي في جبال الألب دون جليد… ومن الصعب تقبّل أنّ هذه قد تكون فعلًا صورة المستقبل”… 

تحرير: غابي بولار

ترجمة: جيلان ندا

مراجعة: ريم حسونة

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية