مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بريطانيا والعراق.. انسحاب أم هروب؟

جندي بريطاني في دورية بمدينة البصرة جنوب العراق يوم 21 فبراير 2007 Keystone

لا يبدو الفارق بين الانسحاب والهروب كبيرا بالمعنى المادي الحركي، فكلاهما يعني ترك الساحة لطرف آخر، يصول ويجول فيها كما يريد.

أما بالمعنى الاصطلاحي، فالأمران مختلفان تماما.

فالانسحاب يعني استجابة لخُـطة وتقديرات مُـحكمة، وهو أمر مُـعتاد في الحروب حين تتطلب المعارك إعادة الانتشار أو الاستجابة لمتغيِّـرات جديدة على الأرض، أما الهروب، فهو عمل غير مخطط ونتيجة منطقية لفعل عفوي، يريد حِـفظ الحياة وحِـفظ ماء الوجه واعتراف بقوة المستجدات على الأرض.

فشل ونجاح

ما حدث بالنسبة للقوات البريطانية التي أعلنت خفض عددها من 7100 جندي إلى 5500 جندي في منتصف العام الجاري بجنوب العراق ومنطقة البصرة تحديدا، فيه مزيج من الانسحاب المُـخطط والهروب العفوي، وفيه أيضا اعتراف بأن المهمة التي ذهب إليها البريطانيون أنجِـزت جزئيا وفشِـلت أيضا جُـزئيا.

وعند المقاربة بين الإنجاز الجزئي والفشل الجزئي، يتّـضح أن العُـنصر الثاني هو الأوسع والأكبر.

تمثل الانجاز الأكبر فى الإطاحة بنظام صدّام، وهو ما يتغنّـى به رئيس الوزراء تونى بلير كثيرا، وفي بدء عملية سياسية شعاراتها المعلنة، إقامة وتأسيس ديمقراطية فتِـية في بلد لم يعرف هذا النوع من الحُـكم طوال تاريخه الحديث.

مسؤولية بريطانية جُـزئية وكُـلية

لكن الفشل العام في العراق، وهو ليس محسوبا على الدور البريطاني وحسب، بل يمَـس في الأساس الدور الأمريكي، فيتعلق بالنتيجة الختامية للمُـغامرة العراقية، كما هي ماثلة في التطورات اليومية، حيث تُـعثر العملية السياسية وغلبة الطائفية الدموية وسطوة الميلشيات الشيعية والجهادية العنيفة، وزيادة معدلات القتل اليومي للعراقيين من كل الطوائف وتَـحوُّل العاصمة بغداد إلى نموذج للخيبة والفشل، وتغلغل النفوذ الإيراني وتصاعد النزعات الانقسامية بين العراقيين، وتفاقم مأساة اللاجئين العراقيين في دول الجوار وزيادة معدلات الفقر والجريمة بكل أنواعها وانتشار الفساد السياسي والاجتماعي على نحو مروع، وباختصار، تفكك الدولة العراقية.

المسؤولية البريطانية قد تكون جُـزئية في هذه المحصِّـلة المُـريعة للعراق ككل، ولكنها أساسية فيما يجري في الجنوب الذي استقرت فيه هذه القوات منذ الغزو والاحتلال، وكان يشكِّـل بالنسبة لها المجال الحيوي والمسؤولية الأولى لحِـفظ الأمن وبناء المؤسسات العراقية الجديدة والسيطرة على الحدود مع إيران، وفى كل هذه المجالات، كان الفشل الذريع أو النقل الكبير هو المحصِّـلة الرئيسية.

تقديرات أمريكية رصينة

هذه ليست مجرّد استنتاجات نظرية، ولكنها حصيلة تقييمات أمريكية رصينة صادرة عن مؤسسات بحث استراتيجي كبرى. فالتقييم الذي أعدّه الباحث الشهير في شؤون الأمن انتوني كوردسمان، والصادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية بواشنطن، توصّـل إلى أن القوات البريطانية كانت قد فقدت السيطرة على منطقة البصرة وما حولها منذ منتصف 2006، والتي أصبحت خاضِـعة تماما لسيطرة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والتيار الصدري والسّـاسة المحلِـيّـين المُـرتبطين بهما، وأن كل ما فعلته القوات البريطانية أنها أسبغت الشرعية على القوات الأمنية الخاضعة لهاتين القوتين السياسيتين.

أما دراسة معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بعنوان “الهدوء الذي يسبق العاصفة.. تجربة بريطانيا في جنوب العراق”، فقد توصّـلت إلى نتيجة أن حصيلة عمل القوات البريطانية في جنوب العراق هي الفشل في إقامة حكومة محلية تمثل جميع الأطياف، ويسُـودها حُـكم القانون والعدالة، وأن المنطقة باتت مرتَـعا للفوضى وغِـياب الأمن، وتُـسيطر عليها عِـصابات خارجة عن القانون وميليشيات مسلّـحة تفرِض أيديولوجيا مُـعينة على السكان بالقوة، وأن الجماعات المحلية باتت لا تخضع لزُعمائها في بغداد، وإنما تعمل ذاتيا وتُـحقق أرباحا طائلة من تهريب النفط ومشتقّـاته، وبيع الأسلحة وتجنيد الرجال، وهم يُـسيطرون عمليا تحت سمع وبصر القوات البريطانية على الزعماء السياسيين المحليين، والذين منهم فاسدون ومُـجرمون، وجميعهم كانوا يقومون بابتزاز القوات البريطانية مُـقابل سلامتها.

تآكل تدريجي لقوات التحالف

مثل هذه المحصِّـلة الواقعية والصادرة عن مؤسسات أمريكية، تعني أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يتعرّض بالفعل لعملية تآكل في الدور وفي التماسك.

وهنا، لا يهم ما تقوله وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس حول استمرار التحالف وتماسكه، وأنه يقوم بدوره على أكمل وجه، فهذه من العبارات الدِّعائية المُـعتادة التي لا علاقة لها بالواقع، وهي تتناقض مع خُـطط الرئيس بوش المُـعلنة، والتي يعترض عليها الديمقراطيون بإرسال مزيد من القوات الأمريكية للعراق لخدمة تطبيق الخطَّـة الأمريكية الجديدة في بغداد وما حولها، وهي القائمة على افتراض ضمني بأن المؤسسات الأمنية العراقية غير قادرة بمفردها على تأمين العراق والعراقيين، وأن عدد قوات التحالف الحالي ليس كافيا وبحاجة إلى مزيد من القوات، وحين يقوم البريطانيون بسحب جزء من قواتهم، فهذا يعني أنهم بعيدون عن الخُـطط الأمريكية الجديدة.

تقديرات محلية عراقية

هنا نشير إلى أن السلطات المحلية في البصرة كانت عبّـرت عن تأييدها للخُـطوة البريطانية، لأنها تعني ببساطة مساحة أوسع لمُـمارسة النفوذ والسلطة والهيمنة، دون أدنى مضايقة أو احتمال لمواجهة، حتى ولو عابرة.

وحسب تقديرات ساسة محليِّـين تابعين للائتلاف العراقي الموحد، فإن الانسحاب البريطاني جاء بعد التيقُّـن من أن إيران لن تتغلغل في المنطقة، وهو تقدير ليس محلّ قبول من آخرين، الذين يرون العكس، وهو أن بريطانيا بإعلانها الانسحاب الجزئي، تؤكِّـد على أن قُـدراتها في لجم النفوذ الإيراني، أصبحت فاقدة الفاعلية، وأن الخوف من أي مواجهة عسكرية محتملة بشأن البرنامج النووي الإيراني ـ كما تلوح بذلك الولايات المتحدة وإسرائيل – قد يجعل من القوات البريطانية في الجنوب الهدف الأول للانتقام.

فالانسحاب إذن ليس وليد قناعة بحدوث تطوّرات إيجابية في ملف الأمن العراقي، كما أعلِـن رسميا في بريطانيا، وإنما للتحسُّـب من تطورات درامية كُـبرى قد تحدُث في المنطقة، تقودها أمريكا لحسابات خاصة بها ودون مُـراعاة أمن القوات البريطانية، التي تشكِّـل الحليف الأول لها في احتلال العراق.

حسابات داخلية بريطانية

هذه العناصر المُـختلطة ما بين محصِّـلة تجربة فِـعلية على الأرض، وما بين تحسُّـب لمغامرات أمريكية قد تدفع بريطانيا ثمنا غاليا لها دون الاقتناع بها، لا يلغي أن ثمة حسابات محلية بريطانية لعِـبت دورا مُـهمّـا وراء قرار الانسحاب الجزئي، أبرزها تصاعُـد المعارضة للحرب واعتبارها كارثة وخطأ فادحا ما كان لبريطانيا أن تتورّط فيه أصلا، وقُـرب استقالة بلير من عمله كرئيس للوزراء، وهي الاستقالة المُـعلنة قبل عام والمقرّر حدوثها في الصيف المقبل والاستعداد لانتخابات محلية وانخفاض شعبية بلير إلى أدنى مستوياتها (لا تزيد عن 26%، حسب آخر الاستطلاعات)، وهى أمور تفسِّـر رغبة بلير في إجراء تحسين نسبي لصورته الشخصية ووضع حزبه انتخابيا، عبْـر الإيحاء بأن هناك تقدُّما حقيقيا حدث في العراق، وأن الدور البريطاني هناك لم يكن سُـدى.

قناعات بلير الأصولية

هذه الاعتبارات الذاتية لبلير، يُـمكن تفهُّـمها في ضوء شخصيته وقناعاته بأن شأنه مثل شأن الرئيس بوش، يحمل على عاتقه مهمّـة لخير الإنسانية كلها، وليس فقط لبريطانيا.

وفي التقرير الحصري، الذي نشرته صحيفة نيوزويك في عددها الصادر بتاريخ 27 فبراير عن شخصية بلير، تصفه بأنه ذو ثلاثة أبعاد، فهو محام وتدخلي ولا يخفي تديّـنه، وكما يقول أحد مساعديه، إنه لا يؤمن بأن الحقيقة نسبية، بل بعقيدة الصِّـراع بين الخير والشر وبين رعاة البقر والهنود.

نحن إذن أمام شخصية لا تختلف عن هؤلاء الذين حاربهم بلير نفسه في أفغانستان والعراق، كونه محام، يعني أنه يُـجيد الدفاع عن رؤيته بمنطق شكلي متوازن، ولكن ليس بالضرورة مقنع للآخرين، وإلا كان بقي حتى نهاية ولايته في الحكم، وكونه تدخلي، فهذا يعني أنه حشري وفضولي ويريد القيام بدور، حتى ولو كان ذيليا، كما هو حال بريطانيا في عهده مع الولايات المتحدة.

أما كونه مؤمنا، يؤمن بالصِّـراع بين الخير والشر، فهذا يعني أنه نموذج فكري وسياسي آخر من بن لادن والظواهري، نموذج يؤمن بأنه مخلوق لمُـهمة ربّـانية وتاريخية، ولكنها في الحقيقة مهمّـة مأساوية، نتيجتها الوحيدة إسالة الدِّماء بلا حسيب أو رقيب.

ومن هنا يأتي الانسحاب البريطاني في محصِّـلته الكلية كهروب كبير، حتى ولو ألبس ثوب النجاح الباهت.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

لندن (رويترز) – قالت بريطانيا يوم الأربعاء 21 فبراير، إنها ستسحب نحو ربع قواتها من العراق خلال الشهور القادمة، عندما يصل آلاف الجنود الأمريكيين الإضافيين لمحاولة إعادة النظام لبغداد.

وصوّر البيت الأبيض الخطوة البريطانية على أنها علامة على حدوث تقدم في العراق، غير أن الديمقراطيين انتهزوا الفرصة للضغط على الرئيس جورج بوش لسحب القوات الأمريكية.

وقال رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الذي تراجعت شعبيته في الداخل بسبب قراره خوض الحرب في العراق، إن مستويات القوات البريطانية ستنخفض بمقدار 1600 جندي، لكن سيتم الإبقاء على جنود حتى عام 2008 لتقديم الدعم والتدريب، إذا رغب العراق.

وقال بلير أمام البرلمان “الخفض الفعلي في القوات سيكون من المستوى الحالي البالغ 7100 .. والذي كان قد خفض بالفعل مما كان عليه قبل عامين.. إلى نحو 5500”.

وسارت كل من الدنمرك وليتوانيا على نهج بريطانيا، وأعلنتا أنهما ستسحبان أغلب قواتهما من العراق بحلول أغسطس المقبل. وقامت دول كثيرة أخرى، شاركت في الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، مثل اليابان وإسبانيا بسحب قواتها، فيما أعلنت بلدان أخرى من بينها كوريا الجنوبية خططا لذلك.

وعلى النقيض من ذلك، بدأ بوش إرسال 21500 جندي إضافيين إلى العراق، حيث يصل عدد القوات الأمريكية هناك إلى نحو 141 ألفا.

وقال بلير، المقرر أن يتنحى هذا العام، إن الخطط البريطانية تظهر الظروف الأمنية شديدة التباين التي تواجهها القوات الأمريكية في بغداد، وتلك في جنوب العراق، حيث سلمت القوات البريطانية قيادة الوحدة الرئيسية بالجيش العراقي في البصرة إلى العراقيين أمس الثلاثاء.

وقال “لا يعني كل ذلك أن البصرة هي كما نرغب لها في أن تكون، لكنه يعني أن الفصل التالي في تاريخ البصرة يمكن أن يكتبه عراقيون”.

وقال انتوني كورديسمان، المحلل بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، إن انسحاب القوات البريطانية سيصُـب في مصلحة الشيعة المدعومين من إيران، وأضاف “خفض عدد القوات البريطانية سيسلط الضوء بكل بساطة ومن نواح كثيرة على الواقع السياسي بأن القوات البريطانية.. فقدت.. الجنوب قبل أكثر من عام”.

وعبر الكثيرون في البصرة، ثاني أكبر مدن العراق والمركز الرئيسي لإنتاج النفط، عن ارتياحهم إزاء الانسحاب البريطاني، غير أن البعض عبروا عن مخاوفهم من أنه سابق لأوانه.

وقال نور عبد المطلب (29 عاما)، وهو معلم “كانوا محتلين وكان ينبغي أن يغادروا منذ فترة طويلة”.

وقال جعفر سليم (38 عاما)، وهو رجل أعمال بالبصرة “اعتقد أن خروجهم سيؤدي إلى انعدام القانون بالمدينة”.

وقال ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي في مقابلة مع محطة ايه.بي.سي نيوز، إن الإعلان البريطاني عن خفض عدد القوات “تأكيد على حقيقة أن الأمور تسير على ما يرام… في أجزاء من العراق”.

وقال الديمقراطيون، الذين أقروا الأسبوع الماضي قرارا غير ملزم بالكونغرس يعارض الزيادة في عدد القوات الأمريكية، إن الخطوة البريطانية تؤكّـد على الحاجة إلى سياسة إعادة التفكير بخصوص الحرب المستمرة منذ نحو أربع سنوات، والتي قتل خلالها 3148 جنديا أمريكيا.

وقال السناتور الديمقراطي إدوارد كنيدي “كان من المفروض منذ زمن طويل أن تغيِّـر الإدارة من نهجها وتبدأ العمل الدبلوماسي الشاق مع العراق وجيرانه وتعيد نشر قواتنا”.

وقالت استراليا، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، إنه ليس لديها خطط فورية لخفض عدد قواتها البالغ 1400 جندي منتشرين داخل وحول العراق.

وقال تشيني إن واشنطن لن تؤيِّـد “سياسة تراجع”، وأضاف “نريد إكمال المهمة.. نريد إنجازها بشكل سليم ونريد العودة بشرف”.

وكان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد قال إن الحملة الأمنية التي تدعمها الولايات المتحدة في بغداد وبدأت الأسبوع الماضي حققت “نجاحا باهرا”، لكن سلسلة من تفجيرات السيارات الملغومة أسفرت عن مقتل العشرات حدّت من التفاؤل الذي ساد في وقت سابق.

وقالت الشرطة إن سيارة ملغومة انفجرت عند نقطة تفتيش تابعة للشرطة قرب سوق مزدحمة في مدينة النجف يوم الأربعاء، مما أسفر عن مقتل 11 وإصابة 35 آخرين.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 21 فبراير 2007)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية