
الأدلة الرقمية تعيد رسم مسار تحقيقات الأمم المتحدة في ميانمار

قضى نيكولاس كومجيان حياته المهنية في السعي لتحقيق العدالة في البوسنة، وسيراليون، وتيمور الشرقية، وكمبوديا. ومن مقرّ عمله في جنيف، يشرح لماذا تعتبر ميانمار حالة استثنائية.
على رأس قائمة هذه الأسباب، يأتي الكم الهائل من الأدلة الرقمية على الجرائم المرتكبة ضد الروهينغا، الأقلية المسلمة التي طالما تعرضت للاضطهاد في ميانمار، ذات الأغلبية البوذية. فقد أُجبر حوالي 720 ألف شخص على الفرار من منازلهم وقراهم منذ عام 2016، عندما شنّ النظام العسكري القائم “عمليات تطهير عرقية”، تميّزت بوحشية شديدة.
ويقول كومجيان: “يتمثّل أحد أهم هذه الاختلافات، مقارنة بالجرائم السابقة، في تأثير التكنولوجيا. فرغم فقر الروهينغا، كان أفرادها جميعًا يمتلكون هواتف محمولة. لقد جمعنا آلاف الفيديوهات، الملتقَطة بهواتفهم.ن، أثناء حرق القرى التي يقطنونها”.
تعتبر هذه الفظائع من الأمور الأساسية، المركِّزة عليها الآلية المستقلة للتحقيق في ميانمار (IIMM) برئاسة كومجيان. وقد أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هذه الآلية في عام 2018، وتهدف مهمتها إلى جمع الأدلة المتعلقة بأخطر الجرائم الدولية المرتكَبة في البلاد منذ عام 2011، والاحتفاظ بها.
تظهر لقطات الهواتف المحمولة، ومنشورات الناجين من الجرائم في ميانمار، سواء كانت من الماضي أو الحاضر، على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما يبرز إمكانيات هذا العمل، وكذلك التحديات التي يواجهها. فهناك فرصة غير مسبوقة للوصول إلى أدلة حديثة، ولكن يتعين أيضًا التعامل مع التحدي المتمثل في فرز ملايين المواد الرقمية، والتحقق من صحتها، بالإضافة إلى تخزينها، وترجمتها.
يقول كومجيان: “بفضل الكمية الكبيرة من المواد التي نجمعها، لدينا ملايين العناصر، التي يمكن أن تكون أي شيء، بدءًا من صورة وصولًا إلى تقرير يتكون من 300 صفحة. والكثير مما لدينا، مصدره وسائل التواصل الاجتماعي”.

وحدة التحقيقات مفتوحة المصدر
أصبحت وحدة التحقيقات مفتوحة المصدر المتخصصة، أمرًا لا غنى عنه، منذ عام 2020. ويتصفح المحققون والمحققات في المجال الرقمي، الإنترنت بحثًا عن مقاطع فيديو، وصور، ومنشورات، ثم يربطونها بأوقات وأماكن محددة، باستخدام أدوات نظام تحديد المواقع الجغرافية، والزمانية. كما يتتبع الفريق البيانات المنشورة على الإنترنت، الكاشفة للنوايا أو المسؤولية القيادية، ويتابع الأثر الرقمي لأولئك المثيرين لخطاب الكراهية ضد الروهينجا. إنها مهمة شاقة، تحول البكسلات المتناثرة إلى أدلة تصلح للمحاكم
و يقول: “عندما ينتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهر إعدام أسرى، وقد شاهدنا ذلك عدة مرات، يمكن للوحدة أن تفعل الكثير بذلك”، يقول. “يمكنهم العثور على المرة الأولى التي ظهر فيها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديد المصادر وإجراء الكثير من الأبحاث”.
قد يُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة مسار العدالة، وتسريعه. إذ يقول كومجيان: “مع ظهور الذكاء الاصطناعي، سنتمكن من إجراء التحقيقات نفسها، باستخدامه، على سبيل المثال: “أرني كل الأدلة التي تذكر هذا الشخص أو أسئلة أكثر تعقيدًا من ذلك.”
ومن بين أهم أنشطة فريق المصادر المفتوحة، التحقق من مقاطع الفيديو، والصور الفوتوغرافية، وتأكيد صحتها أو زيفها، إلا أن تحديات جديدة ستظهر، مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويقول: “سيزداد التمييز بين الأخبار الحقيقية والكاذبة صعوبةً”.
وفي نهاية المطاف، لا تستطيع التكنولوجيا تقديم حلول شاملة، على عكس ما حدث في البوسنة، حيث نفّذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) أوامر المحكمة، ولكن،آلية التحقيق المستقلة في ميانمار (IIMM) لا تتمكن من الدخول إلى ميانمار، كما يوضّح المحقق، ما يضطر أعضائها للعمل من خارج البلاد.
وعلى عكس النزاعات، ذات الطرفين الواضحين، تشمل حرب ميانمار جهات فاعلة متعددة: الجيش، والميليشيات، وجماعات المعارضة المسلحة، وجميعها، متهمة بارتكاب فظائع، ولكلٍّ منها أدلّتها الخاصة..

الجرائم المرتكبة خلال الاحتجاز: الطريق إلى الإدانة
مع كثرة الفظائع التي يتعين التحقيق فيها، يتعين على الآلية الموازنة بين الأولويات المتضاربة. ويوضح كومجيان أن الجرائم المتعلقة بالاحتجاز، أصبحت محور اهتمامها، لأنها غالبًا ما تتضمن أوضح الأدلة. وينعكس هذا التركيز أيضًا، في أحدث تقرير سنوي للآلية.
يقول: “عادةً ما تكون لدى الناس معرفة باسم الشخص الذي عذبهم، أو يمكنهم التعرف على هويته. بالإضافة إلى ذلك، قد يكونون قد شهدوا تعذيب شخص آخر في سجنهم. وغالبًا ما يعرف كل من السجناء والسجينات قائد السجن، أو المحققين، أو تتوفر لدينا سجلات أخرى توضح من كان يدير السجن.”
وتتحدث الشهادات، عن الصدمات الكهربائية، والضرب، والخنق، والحروق، والاغتصاب الجماعي، وخاصة في مواقع الاحتجاز غير الرسمية، المحمية من الخضوع للتحقيقات الخارجية.
يشير كومجيان إلى أن هذه المواقع تشهد في الغالب أشد الانتهاكات، إذ يتعرض النساء لضغوط من المحققين والمحققات للحصول على اعترافات غير صحيحة، ويواجهن تهديدًا دائمًا بالعنف الجنسي إذا لم يمتثلن.
ويقول: “يوجد تهديد ضمني بالتعرّض للاعتداء الجنسي، ما لم يتعاونّ”.
يعتبر العنف الجنسي جزءًا أساسيًا من عمليات جيش ميانمار. فكان هذا العنف، في ما يعرف بحملات التطهير العرقي ضد الروهينغا بين عامي 2016 و2017، متكررًا ومنظمًا. ويقول كومجيان عن مستوى العنف الجنسي في تلك الفترة: “قد يكون أسوأ ما شاهدته في جميع هذه الصراعات”.
وأكد المحققون والمحققات ما تضمّنته شهادات الناجين، من كل الفئات العمرية والنوع، من خلال التواصل مع قطاع الرعاية الصحية، معالج الإصابات التناسلية، والحمل الناتج عن الاغتصاب، بالإضافة إلى طلبات الإجهاض.

لا يزال توثيق مثل هذه الجرائم عن بُعد، محفوفًا بالمخاطر. إذ تجري العديد من المقابلات عن بُعد، حرصًا على السلامة، وغالبًا بمساعدة منظمات المجتمع المدني المحلية، ممهِّدة الطريق للتواصل مع الراغبين.ات في تقديم شهادة في الغرض.
تحيل الآلية الناجين والناجيات إلى الدعم النفسي، كلما أمكن ذلك. لكن يشير كومجيان إلى نفاد منحة حماية الشهود والشاهدات، والدعم النفسي والاجتماعي، بما في ذلك تحويل مكانهم.هنّ، في حالات نادرة. يقول: “لا نملك أي أموال لذلك حاليًا”.
ربط الفظائع بكبار القادة في البلاد
يتعين على المدعين العامين والمدعيات العامات إثبات وقوع الفظائع، بالإضافة إلى تحديد المسؤولية على أعلى المستويات. ويعتبر هذا الأمر من أصعب التحديات في إثبات المسؤولية الجنائية.
يشرح كومجيان قائلًا: “الأمر الصعب هو لماذا يتحمل هذا المسؤول الرفيع مسؤولية جريمة في قرية، ربما لم يزرها قط، وضد امرأة وعائلتها، لم يلتقِ بهم قط، وقد ارتكبها مجرم لم يتحدث إليه قط. يتعلق الأمر بجمع الأدلة المظهرة لمعرفة المسؤول الأعلى، ونمط السلوك الذي سمح به،[و]مختلف الأوامر التي أصدرها”.
لقد أثبتت المحاكم السابقة إمكانية تحقيق ذلك. فقد أُدين تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا من عام 1997 إلى عام 2003، بتهمة مساعدة المتمردين والمتمردات في حملة الفظائع التي شنتها ليبيريا. وحوكم قادة الخمير الحمر في كمبوديا، على جرائم قتل لم ينفذوها مباشرةً، بل أمروا وأمرن بها، أو مكّنوا ومكنّ من تنفيذها.

وقد ساهمت أدلة الآلية بالفعل، في طلب المحكمة الجنائية الدولية، إصدار مذكرة توقيف بحق القائد العام مين أونغ هلاينغ، حاكم ميانمار منذ عام 2021. ويواجه هذا الأخير، إلى جانب 24 مشتبهًا آخر، استدعاءات توقيف من المحكمة الجنائية الفيدرالية في الأرجنتين.
لكن يحتاج تحقيق العدالة إلى وقت. ففي محكمة الخمير الحمر في كمبوديا، صدرت أحكام الإدانة بعد مرور أربعة عقود على حدوث الجرائم. ويقول كومجيان: “لا نرغب في الانتظار لمدة 40 عامًا، لكن من الصعب جدًا التنبؤ بزمن تحقق العدالة ومكانه”.
في هذه الأثناء، يزداد حجم الأرشيف ليحتوي على إفادات 600 شاهد وشاهدة، بالإضافة إلى ملايين الوثائق، والصور، ومقاطع الفيديو، وصور الأقمار الصناعية. ومع ذلك، يهدد نقص التمويل الوحدات المتخصصة في قضايا العنف الجنسي، وجرائم الأطفال، والاستخبارات مفتوحة المصدر.
يؤكد كومجيان عدم اقتصار جهوده على المحاكمات القادمة، بل تشمل أيضًا المحاكمات الجارية، ويضيف قائلًا: “نمارس الضغط على هؤلاء الجناة والجانيات، وكذلك الجناة والجانيات المحتملين.ات، لمواجهة العدالة في يوم من الأيام”.
يتضمّن التعذيب والعنف الجنسي في مراكز الاحتجاز، أدلة على استخدام الضرب، والصعق الكهربائي، والخنق، والاغتصاب الجماعي، وحرق الأعضاء التناسلية، خصوصًا في المراكز غير الرسمية. كما تم التعرف على القادة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
تشمل عمليات القتل خارج نطاق القضاء، القائمة بها قوات الأمن في ميانمار، وذلك بالتعاون مع الميليشيات التابعة لها، بالإضافة إلى الجماعات المسلحة المعارضة، إذ تستهدف هذه العمليات المقاتلين الأسرى والمقاتلات الأسيرات، وكذلك المشتبه فيهم وفيهنّ من المخبرين والمخبرات.
تستهدف الضربات الجوية المدنيين والمدنيات، بما في ذلك المدارس، والأسواق، والمستشفيات، والمساجد، حتى خلال عمليات الإنقاذ بعد الزلزال في مارس 2025، ما يعد انتهاكًا صريحًا لقوانين الحرب.
تشير التحقيقات الجديدة إلى الفظائع المرتكبة في ولاية راخين، حيث تتواصل الاشتباكات بين الجيش في ميانمار وجيش أراكان. كما يتم العمل على توثيق الجرائم الواقعة ضد الروهينغا، في الفترة ما بين 2016 و2017.
تقديم الأدلة، في سياق التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بالإضافة إلى الأرجنتين، والجهات المختصة في المملكة المتحدة، والمشاركة في إصدار أوامر الاعتقال الدولية، والإجراءات القانونية الأخرى.
المزيد
تحرير: فيرجيني مانجان
ترجمة: مصطفى قنفودي
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.