The Swiss voice in the world since 1935

منذ عودة ترامب…  القطاع الإنساني يواجه أزمة وجودية

مساعدات إنسانية
رجل يحمل كيس قمح وزعته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في إثيوبيا. وبلغت ميزانية الوكالة، 40 مليار دولار في عام 2023، ولديها برامج نشطة، في أكثر من 100 دولة. 2021 The Associated Press. All Rights Reserved

ترافقت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بتخفيضات هائلة في المساعدات الإنسانية. وفي الوقت الذي أصبحت فيه التأثيرات على الأرض محسوسة بالفعل، تواجه الفرق العاملة في المجال الإنساني، اضطرابات كبيرة في بيئات أعمالها.

استغل دونالد ترامب عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير الماضي، لشن هجوم غير مسبوق على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). ووصف الرئيس الجمهوري الكوادر المسؤولة فيها، بأنها “مجنونة، ويسارية، ومتطرفة” واتهمها “بالاحتيال الكبير”، دون أن يقدم أي أدلة على ذلك.

وبناءً على طلبه، جرى تعليق معظم برامج الوكالة، التي تقدّم مساعدات إنمائيّة، وإنسانيّة أميركيّة في مختلف أنحاء العالم، في انتظار عمليّة إعادة التقييم. وأعلنرابط خارجي ماركو روبيو، وزير الخارجيّة، في 10 مارس، إلغاء 83% من برامج الوكالة.

هذه المقالة هي الأولى، في سلسلة من ثلاثة أجزاء، حول مستقبل المساعدات الإنسانية، في ظل تخلي الولايات المتحدة، والجهات المانحة الغربية الرئيسية، عن هذا القطاع. ويتناول الجزء الثاني، فرص واحتمالات رؤية البلدان الناشئة، أو حتى الجهات الفاعلة من القطاع الخاص، تملأ فجوة التمويل. ويتناول الجزء الأخير، تاريخ المساعدات الأمريكية، وكيف عزَّزت البلاد، هيمنتها على هذا القطاع.

وقد بلغت ميزانيّة الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة نحو 40 مليار دولار في عام 2023، ونفّذت برامج في أكثر من 100 دولة، مما يجعلها مسؤولة عن أكثر من نصف إجماليّ الإنفاق الأميركيّ على المساعدات، بما في ذلك العسكرية منها، الذي يقدّر بنحو 70 مليار دولار سنويًّا.

ومن بين المبادرات التي جرى وقفها، توزيع الأغذية على السكان المتضررين من الجفاف والصراع في إثيوبيا، وبرامج صحة الأم والطفل في هايتي.

تظاهرات ضد تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية
حشود في واشنطن تتظاهر ضد تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وكان لهذا الخبر، وقع الصدمة في أوساط القطاع الإنساني، الذي يعتمد على التمويل الأمريكي بنسبة 40% 2025 The Associated Press. All Rights Reserved

البرامج المُلغاة

أحدث تفكيك الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة صدمة قويّة في أوساط القطاع الإنسانيّ، الذي يعتمد على التمويل الأميركيّ لتغطية نحو 40% من موارده. ورغم صعوبة تقدير الحجم الكامل للتخفيضات التي طُبّقت، أو التي يُحتمل تنفيذها لاحقًا، فقد أصبحت آثارها محسوسة بالفعل.

وتتلقى العديد من وكالات الأمم المتحدة تمويلًا كبيرًا من الولايات المتحدة، إمّا من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو مباشرة من وزارة الخارجية. ويشمل ذلك، من بين هيئات أخرى، برنامج الأغذية العالمي (PAM)، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (HCR)، وبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز (ONUSIDA)، ومنظمة الصحة العالمية (OMS)، التي قررت إدارة ترامب، الانسحاب منها.

محتويات خارجية

وبسبب خفض تمويل الوكالة، أفادت الأمم المتّحدة أنّ شريحة من السكّان في أفغانستان، تتجاوز 9 ملايين شخص، مهدّدة بفقدان خدمات الصحّة والحماية، كما أنّ توزيع المساعدات النقديّة على مليون شخص في أوكرانيا، الذي بدأ العام الماضي، مهدّد بالتعليق، إضافة إلى احتمال توقف تمويل برامج دعم لاجئي.ات الحرب في السودان.

وتعتمد العديد من المنظّمات غير الحكوميّة، خارج الأمم المتّحدة، أيضًا على المساهمات الأمريكيّة. وقد أعربت هي أيضًا، عن استيائها من إغلاق العديد من المشاريع، إذ قرّرت إدارة ترامب إلغاء آلاف العقود مع المنظّمات غير الحكوميّة، في جميع أنحاء العالم.

+ لمعرفة المزيد عن تأثير التخفيضات الأمريكية، وخاصة على البرامج الخاصة بالنساء وفيروس نقص المناعة البشرية، استمع.ي إلى الحلقة الأخيرة من البودكاست “داخل جنيف” Inside Geneva.   (باللغة الانجليزية)

وقالت إيلين مورو، رئيسة قسم السياسات والمناصرة، في المجلس الدولي للوكالات التطوعية (ICVA)، وهي شبكة منظمات غير حكومية مقرها جنيف: ” يتعيّن على المنظمات غير الحكومية الآن، اتخاذ قرارات صعبة بشأن المشاريع التي يتعين الاحتفاظ بها، وتلك التي يجب إلغاؤها، أو نقلها إلى جهات فاعلة أخرى. ونحن نتحدث عن قرارات صعبة حقًا، وليس عن قرارات تُتخذ في زمن وفرة. وحتى قبل هذه التخفيضات، كان النظام يعاني من ضغوط شديدة، وسط عجز عن تلبية احتياجات ملايين الأشخاص”.

وفي السودان، البلد الذي يعاني من إحدى أسوأ الأزمات في العالم، سيُحرم أكثر من نصف مليون شخص من الوصول المنتظم إلى الغذاء. وفي اليمن، لن يتمكن نحو 220 ألف نازح ونازحة، من الحصول على الرعاية الصحية.

المساعدات الإنسانية
حتى المنظمات التي لا تتلقى تمويلًا أمريكيا تخشى اختفاء شركائها الممولين من الولايات المتحدة. وتعتمد المنظمات غير الحكومية المحلية، في الميدان، على وجود وكالات الأمم المتحدة، للحصول على الدعم اللوجستي

“صاعقة مدوية”

تقول فيرونيك دو جوفروا، مديرة مجموعة (URD)، المؤسّسة البحثيّة المتخصّصة: “إنها كارثة حقيقيّة حلّت بقطاع المساعدات الإنسانيّة. فالجهات الفاعلة في مجال التضامن الدوليّ تواجه أزمة تمويل خانقة”.

ومع أنّ التخفيضات الأميركيّة، في حجمها وسرعتها، أربكت الجهات الفاعلة في هذا المجال، إلَّا أنَّ ما يُنذر بأزمة وجوديّة حقيقيّة، هو تزامنها مع تقليص المساهمات الماليّة من قبل دول مانحة رئيسيّة، اعتادت دعم هذا القطاع.

فقد أعلنت المملكة المتّحدة، في نهاية شهر فبراير، عن خفض إنفاقها على المساعدات، ​​من 0،5% من الدخل القوميّ الإجماليّ إلى 0،3%. وأعلنت الحكومة الألمانيّة الجديدة، في شهر مارس، أثناء المفاوضات الائتلافيّة بين الأحزاب، عزمها التخلّي عن هدفها المتمثّل في 0،7% من الناتج المحلّي الإجماليّ. وأعلنت دول أخرى، بما فيها بلجيكا، وفرنسا، والسويد، وسويسرا، عن تخفيضات في ميداني التعاون الدوليّ، والمساعدات الإنسانيّة.

محتويات خارجية

ويحذّر العديد من الخبراء والخبيرات، من أنّ هذه التخفيضات قد تُفضي، في نهاية المطاف، إلى انهيار بلدان مستقرّة حاليًّا، مما يُنذر بتفاقم الاحتياجات الإنسانيّة. وتُعدّ القارّة الأفريقيّة من أكثر المناطق عرضة لهذا الخطر؛ إذ تعتمد نصف دول القارة على المساعدات الخارجيّة، لتغطية أكثر من 30% من إنفاقها الصحيّ.

قطاع مضطرب

وعدا العواقب المباشرة، فقد أصبح قطاع بأكمله الآن ينقلب رأسًا على عقب. وتتسبّب تخفيضات إدارة ترامب في مشكلة، حتىّ بالنسبة إلى المنظّمات غير الحكوميّة التي لا تعتمد على الدعم الماليّ الأميركيّ. وهذا هو حال منظّمة أطباء بلا حدود، التي يأتي 97% من ميزانيّتها العالميّة، من التبرّعات الخاصّة.

ويوضح طارق باش بواب، رئيس قسم المناصرة في منظّمة أطبّاء بلا حدود في جنيف السويسريّة، قائلا: “لا تعمل منظّمة أطباء بلا حدود في فراغ، بل ضمن نظام يتعرّض حاليًّا لضغوط. ونحن نعتمد في أنشطتنا على وجود شركاء على الأرض، تتعرّض مواردهم للتهديد”.

وعلى سبيل المثال، تتلقى منظمة أطباء بلا حدود، جرعات من اللقاحات، من وزارات الصحة المحلية. وتستخدم المنظمة أيضًا خدمة الطائرات المستأجرة التابعة للأمم المتحدة، لنقل موظفيها وموظفاتها، جوًا إلى المناطق النائية، أو التي يعتبر الطريق إليها غير آمن. وتعتمد المنظمة غير الحكومية، في مخيمات اللاجئين واللاجئات، حيث تقدم الرعاية الصحية، على وجود أطراف إنسانية أخرى، لتوزيع المياه، والغذاء، والمأوى.

ويقول طارق باش بواب، بأسف: “إذا اختفت هذه الخدمات بسبب نقص التمويل، فسنضطرّ إلى تولّي مسؤوليّتها بأنفسنا، بتكلفة إضافيّة كبيرة، أو سنضطرّ إلى التخلّي عن بعض المشاريع”.

توم فليتشر
دعا توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، القطاع الإنساني إلى “إعادة التركيز”. وتلك عبارة عن رسالة مثيرة للانقسام Keystone / Salvatore Di Nolfi

تحديد الأولويات، ممارسة محفوفة بالمخاطر

اقترحرابط خارجي توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، “إعادة ضبط المساعدات”، قائلًا إن القطاع “يواجه أزمة غير مسبوقة في التمويل والمعنويات، والشرعية”. وتكمن رسالته إلى بقيّة القطاع في قوله: “إنّنا بحاجة إلى إعادة التركيز،” لأنّه “لا يمكننا الاستمرار في القيام بكل شيء. […] ومع انخفاض الموارد بشكل كبير، يجب أن تكون أولويّتنا القصوى إنقاذ الأرواح.”

وتلقى هذه الرسالة، التي تدعو إلى “إعطاء الأولويّة” للفئات الأكثر ضعفًا، صدًى لدى بعض الكوادر العاملة في الميدان الإنسانيّ، التي تؤمن بضرورة إعادة التركيز على المساعدات الطارئة، مثل توفير المياه، والغذاء، والأدوية، والمأوى، بدلًا من تقديم خدمات أطول أمدًا، مثل التعليم، أو تعزيز إيجاد فرص عمل.

محتويات خارجية

وكانت الاحتياجات الإنسانيّة العالميّة قد شهدت، على مدى العشرين عامًا الماضية، تزايدًا هائلًا. ففي عام 2005، قُدّرت تكلفتها بنحو 5 مليارات دولار، بينما يُتوقّع أن تتجاوز 47 مليارًا في عام 2025. وتأتي هذه الزيادة لمواكبة عجز تمويليّ متصاعد؛ إذ لم تحصل وكالات الأمم المتّحدة العام الماضي، سوى على 43% من إجماليّ التمويل المطلوب، البالغ 50 مليار دولار.

ويُعزى هذا التزايد في الاحتياجات الإنسانيّة إلى عوامل عدّة أبرزها؛ تزايد الصراعات غير المحسومة، وتأثيرات تغيّر المناخ المتفاقمة. ويرى بعض الخبراء والخبيرات أنّ العديد من الدول اختارت، على المدى الطويل، تحميل العاملين والعاملات في المجال الإنسانيّ عبء الاستجابة الموسّعة، بدلًا من معالجة أسباب تلك الأزمات.

محتويات خارجية

ولهذا السبب، أثارت رسالة توم فليتشر انقسامًا في الآراء. ويعلّق تمّام العودات، الرئيس التنفيذيّ لمؤسسة “ذا نيو هيومانيتاريان” الإعلامية المتخصّصة ومقرها جنيف، قائلًا: “تكمن المشكلة في هذا الخطاب في أنّك، إذا تمكّنت من خفض مواردك بنسبة 40%، فإنك تغذّي الرواية القائلة بأنّ النظام غير فعّال، ويعمل بشكل غير جيّد”.

ويرى فليتشر أنّ  الحديث عن الكفاءة، والأولويّات، بدلًا من التطرّق إلى “فشل نظام التضامن الدوليّ”، يمنح الحكومات، التي تقلّص مساهماتها، ذريعة للتهرّب من مسؤوليّة اتّخاذ القرار بشأن من سيواصل الحصول على المساعدات الحيويّة، ومن سيُحرم منها. و يعتبر أنّ هذا الخيار يتجاوز حدود المسؤوليّة الأخلاقيّة الملقاة على عاتق المنظّمات الإنسانيّة.

تغييرات دائمة

منذ سنوات، والقطاع الإنساني يسعى إلى إجراء إصلاحات، خاصة في ما يتصل بتخصيص المزيد من التمويل للمنظمات غير الحكومية المحلية، بدلًا من الوكالات الكبرى، التي غالبًا ما تكون بعيدة عن واقع الميدان.

كما وضعت الأطراف الفاعلة في القطاع هدفًا، يتمثل في تنويع مصادر التمويل، وتعزيز الاستثمار في الإجراءات الاستباقية، والوقائية. لكن الرأي السائد بين معظم الخبراء والخبيرات، هو أن وتيرة التقدم لا تزال غير كافية.

وتقول فيرونيك دو جوفروا: “نطالب منذ سنوات، بتغييرات منهجية معينة، لكنها لم يُكتب لها النجاح، بسبب الجمود المفرط، وتشكل أوقات الأزمات، فرصة للتفكير، في إجراء تحولات أكثر أهمية”.

ولكنّ مستقبل هذا القطاع ليس مضمونًا على الإطلاق، بحسب ما أفاد به عدد من العاملين والعاملات في مجال الإغاثة، ممن تحدّثنا إليهم. ويتفق هؤلاء على أنّ “هدمَ منزل أسهلُ من إعادة بنائه” محذّرين من أنّ كثيرين قد يغادرون هذا المجال، وأنّ المنظّمات غير الحكوميّة ستختفي، وأنّ الرأي العام سوف يعتاد على هذا الواقع الجديد.

ويعمل دونالد ترامب على تسريع التآكل التدريجي في دعم الغرب للمساعدات الإنسانية، الذي بدأ قبل ولايته الثانية. وتتعدّد الأسباب وراء هذا التآكل؛ من الحرب في أوكرانيا، إلى تدابير التقشف التي أعقبت الجائحة، وصولًا إلى شعور عام بالإرهاق في صفوف الأطراف المانحة، في مواجهة أزمات لا تنفك تتفاقم.

تحرير: فيرجيني مانجين

ترجمة: مصطفى قنفودي

مراجعة: ريم حسونة

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية