
هولسيم السويسرية أمام تحدي الوصول الى الحياد الكربوني

في اليوم الذي عُقدت فيه جلسة لمحاكمة شركة "هولسيم" عملاق صناعة الإسمنت في تسوغ في نهايات شهر سبتمبر الماضي، للنظر في قضية مناخية، كانت هذه الأخيرة، ترّوّج في مؤتمر، عُقد على بُعد عدة كيلومترات من المحكمة، خططًا لتحقيق الحياد الكربوني. فما مدى مصداقية هذا الوعد "الأخضر"؟
يغرق ارتفاع مستوى البحار الناتج من تغير المناخ المنازل في جزيرة باري قبالة سواحل إندونيسيا. فقد رفع أربعة من سكان الجزيرة دعوى قضائية ضد شركة “هولسيم” في سويسرا، خوفًا من أن تغمر المياه وطنهم، وتسلبه منهم.
وتتسبب صناعة الأسمنت في نحو 8% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية. وشركة “هولسيم” إحدى أكبر الشركات المنتجة للكربون على مستوى العالم. وبناء على ذلك، تم رفع هذه الدعوى القضائية ضدها، بدعم من عدة منظمات غير حكومية، بهدف تحميلها المسؤولية عن هذه الانبعاثات.
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر قاسيًا بعض الشيء. لكنّ الدعوى القضائية مبنية على منطق واضح: وجوب وجود جهة تتحمّل المسؤوليّة، حتّى في أكثر الأنظمة تعقيدًا.
وإذا أقرت المحكمة تحمّل شركة هولسيم جزءًا من الأضرار اللاحقة بجزيرة باري، سيفتح ذلك الباب على مصراعيه لمقاضاة شركات أخرى. وهو ما يمنح هذه الدعوى القضائية كل هذا الاهتمام. وتعتبر الشركة السويسرية خط الدفاع الأول لكل الشركات في العالم، التي تلحق الضرر بالمناخ.
نسعى لتحقيق الحياد الكربوني
حدثت الخطوة الأولى في الدعوى القضائية في كانتون تسوغ يوم الأربعاء 3 سبتمبر الجاري، حيث يقع مقر شركة “هولسيم”، مثل العديد من الشركات العالمية الأخرى. وتسعى شركة الأسمنت العملاقة إلى دحض الدعوى من الأساس، حتى لا يكون هناك تداول حول تحمل المسؤولية عن الأضرار أمام المحكمة.
لم تصدر محكمة كانتون تسوغ قرارها في هذه الدعوى بعدُ، ومن المحتمل ألا يكون قرارها نهائيًا على أي حال. وفي الغالب سيحاول الطرفان استنفاد مراحل التقاضي كافة.

وقد يكون اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ بفرنسا، خيارًا ممكنًا أيضًا. إذ تُعد المحكمة رائدة في القضايا المتعلقة بالمناخ، لا سيما بعد قبولها في عام 2024 دعوى جمعية “مسنّات من أجل المناخ” ضد سويسرا.
وتتسم شركة هولسيم بالتحفظ في الحديث عن سير الدعوى القضائية. هل أُجريت أي محادثات تسوية خارج المحكمة مع المدّعين من سكان جزيرة باري؟ وهل ثمة احتمال لحدوث مثل هذه التسوية؟ لم تُجب الشركة عن هذه الأسئلة، مكتفيةً بالإشارة إلى بيانها الرسمي.
وجاء في البيان: “نحن الآن في انتظار قرار المحكمة، وبغض النظر عن نتيجته، تبقى هولسيم ملتزمة بتحقيق الحياد الكربوني [صفر في المئة صافي انبعاثات الكربون] بحلول عام 2050، مع وضع التنمية المستدامة في قلب استراتيجيتنا”.
مشكلة نسبة الـ 44 %
هذه الصورة التي تريد الشركة ترويجها عن نفسها. ففي مدينة فينترتور، التي لا تبعد سوى ساعة بالسيارة عن مقرّ محكمة كانتون تسوغ، يقدّم كليمنس فوجرباور، مستشار التنمية المستدامة في شركة هولسيم سويسرا، عرضا في نفس يوم الأربعاء. وذلك ضمن فعاليات منتدى الاقتصاد الأخضر السويسري (SGES)، مؤتمر تلتقي فيه الشركات، والجهات السياسية، والمنظمات غير الحكومية، لتبادل الآراء حول التنمية المستدامة والتواصل في ما بينها.

وقال فوجرباور في كلمته خلال المؤتمر: “نحن جميعًا بحاجة إلى الأسمنت. هذه المادة هي أساس رفاهيتنا، ونحن ننسى ذلك بسهولة. فهو يتميز بالصلابة ورخص السعر”. المشكلة هي اعتماده بشكل أساسي على حرق الجير، وهي عملية تنتج ثاني أكسيد الكربون، وتتطلب الكثير من الطاقة.
وذهب فوجرباور إلى أبعد من ذلك. فطرح السؤال المُلح بنفسه: كيف يمكن لشركة مثل “هولسيم” أن تصبح محايدة من حيث انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بحلول عام 2050؟ وأجاب قائلًا: “من خلال استخدام كل العناصر على امتداد مراحل عملية الإنتاج”. وأشار في هذا السياق إلى إعادة تدوير الأسمنت، واستبدال الكلنكر بمواد رابطة بديلة، بالإضافة إلى تطوير ألواح أسمنتية مزودة بشقوق كربونية مشدودة مسبقًا، يمكن تفكيكها وإعادة استخدامها مرارًا.
لكن تظهر المشكلة المستعصية في رسم بياني لهولسيم حول مسار الخفض، أي الخفض المخطط له لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون خطوة بخطوة. أما نسبة الـ 44% المتبقية، فسوف يتعين التخلص منها، وتخزينها أو استغلالها بطريقة أخرى من قبل هولسيم في عام 2050.
علاقات مثيرة للتساؤل
تحققت شركة “هولسيم” من واقعية خططها للوصول إلى الحياد الكربوني عن طريق مبادرة الأهداف العلمية (SBTi)، التي يدعمها الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) من بين جهات أخرى، وهو إحدى المنظمات غير الحكومية القليلة التي حضرت المؤتمر في مدينة فينترتور.
وقال سيباستيان أوبريست، ممثل الصندوق العالمي للطبيعة في المؤتمر: “الشركات جزء من المشكلة، ولكنها أيضًا جزء من الحل”، مؤكدًا أن تأثير الشركات الدولية هائل. وأشار إلى حاجتنا إليهم، “كحلفاء لمواجهة أزمة المناخ وخطر الانقراض”.
ومع ذلك، يقول المنتقدون.ات إنّ الصندوق العالمي للطبيعة يتجاهل تضارب المصالح، وقد يسهم في الترويج لظاهرة “الغسل الأخضر” (Greenwashing). أي محاولة توصيل انطباع مضلل، ومبالغ فيه حول مدى احترام الشركات للجانب البيئي، ما اتُهمت به أيضًا مبادرة الأهداف العلمية (SBTi). ففي عام 2024، استقال لويس أمارال، رئيس المبادرة التنفيذي، بعد خلافات داخلية بسبب قرار السماح بالتعويض عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
فهل تُعد هذه الالتزامات بتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مجرد دخانٍ، وطريقة لكسب الوقت، وتجنّب التدخل والسيطرة الحكومية؟ بعبارة أخرى: ما مدى مصداقية الوعود البيئية لشركات مثل هولسيم؟
من دفع ثمن هذه “الأحلام”؟
شارك لوكاس هيتسل، مدير الاتصالات في اتحاد صناعة الأسمنت السويسري (Cemsuisse) في المؤتمر بمدينة فينترتور. لكن لهجته كانت تختلف عن المتحدثين السابقين، فهو بدا أكثر تشككًا. وقال هيتسل: “الأحلام والأهداف جيدة، لكننا بحاجة إلى الوضوح”. وأوضح أن تكاليف عزل ثاني أكسيد الكربون تتراوح بين 200 و500 مليون فرنك سويسري لكل مصنع أسمنت، وهو مبلغ يفوق قدرة القطاع على التحمل. وأضاف أن هناك أيضًا نقصًا في قدرات النقل، متسائلًا: “ومن أين ستأتي الكهرباء؟ لن يكون لدينا طاقة كافية أبدًا لتنفيذ عملية احتجاز الكربون وتخزينه واستخدامه”.
في المقابل، تؤكد شركة “هولسيم” ما هو ممكن وما تم تحقيقه، وتطرقت إلى الانتقادات التي وجهتها لها منظمة “غرينبيس” (السلام الأخضر) السويسرية عام 2021، إذ اتهمت الشركة بالتسبب في انبعاثات سامة في أماكن متعددة حول العالم. ورد المكتب الإعلامي للشركة على استفسارنا في هذا الخصوص قائلًا: “لقد تم تحديد جميع الحالات المذكورة ومعالجتها بالكامل. وأنجزنا أكثر من 150 مشروعًا في إطار جهودنا لتحقيق خفض كامل للأثر البيئي بحلول عام 2024”. وفيما يخص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، تُشير الشركة إلى تخفيضها الانبعاثات النوعية في سويسرا بأكثر من 10% منذ عام 2021.
كما أصبحت الشركة أكثر مصداقية في الآونة الأخيرة. فقد مرت ثمانية أعوام منذ آخر غرامة فُرضت عليها بموجب قانون مكافحة الاحتكار، بسبب التلاعب بالأسعار. واختفت تقريبًا الاتهامات بتمويل الإرهاب المرتبطة بأحد مصانعها في سوريا. وكانت شركة هولسيم قد أكدت أكثر من مرة أنها لم تكن على علم بأي شيء من هذا القبيل. وقالت الشركة السويسرية إن شركة “لافارج” للأسمنت، المندمجة معها في عام 2015 واختفت حروف اسمها من اسم الشركة، كانت مسؤولة عن هذه الحوادث.
التصويت في كانتون فو
الصورة العامة أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى شركة الأسمنت العملاقة، خصوصًا في سويسرا، حيث يمكن للمواطنين.ات التأثير في مجريات الأحداث، من خلال الديمقراطية المواطنية/ الديمقراطية المباشرة. وفي سبتمبر الجاري، واجهت شركة هولسيم في كانتون فود تصويتًا على مبادرة تهدف إلى حماية جبل مورمونت، في منطقة إكليبان (Eclépens).

وتدير الشركة محجرًا في هذه المنطقة. واحتل نشطاء وناشطات مناهضون.ات للتغير المناخي الموقع، احتجاجًا على أنشطته في أكتوبر عام 2020. هنا أيضًا، تبرز الشركة السويسرية جهودها في مجال البيئة والمناخ، فضلًا عن دور المحجر الحيوي في قطاع البناء.
بالنسبة إلى شركة هولسيم، سيكون هذا التصويت أيضًا بمثابة مقياس لمكانتها العامة في سويسرا، وإذا كان الناس يثقون بوعدها “الأخضر”.
المزيد
تحرير: بالتس ريغيندينغير
ترجمة: أحمد محمّد
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.