الإعلام الدولي بين تقشّف الديمقراطيات واستثمار أنظمة الاستبداد

مع تزايد عدد الدول الغربيّة التي تسحب التمويل عن إعلامها العمومي الدولي، تعمل الأنظمة الاستبداديّة على تعزيز ترسانتها الإعلاميّة الموجّهة إلى الخارج. وبحسب بعض الخبراء والخبيرات بامكان هذه الخدمات الإعلاميّة الاستمرار في لعب دور هامّ في الحرب الإعلاميّة الدائرة رحالها حاليا.
واجه “صوت أمريكا في العالم” منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شبح الإغلاق، قبل ظهور بوادر لاستئناف خدماته قريبا. فقبل بضعة أشهر، قرّر الرئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب، إنهاء تمويل الوكالة الأمريكية للإعلام الدوليرابط خارجي التي تضمّ صوت أمريكا، وإذاعة أوروبا الحرّة، وإذاعة آسيا الحرّة.

المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية
ويخوض الفريق القائم على خدمة “صوت أمريكا” معركة قانونيّة لمنع تفكيكها، لكن إذا فشلت هذه المعركة، فسيُحرم ملايين من المشاهدين.ات، والمستمعين.ات، ومستعملي الإنترنت ومستعملاتها، من مصدر إعلاميّ موثوق في البلدان التي يكون فيها الوصول إلى الأخبار محدودًا.
وعن هذا القرار، يقول تريستان ماتيلارت، أستاذ الاتصال الدوليّ في جامعة باريس بانتيون-أساس، إنّه “خطأ فادح، من وجهة النظر الجيوسياسيّة، لأنّ الولايات المتّحدة بذلك تُحرم نفسها من أداة مهمّة من أدوات التأثير، التي يمكن توظيفها في الدفاع عن حريّة التعبير”. ويشير الباحث إلى أنّ وسائل الإعلام هذه، تلعب دورًا أساسيًّا في البلدان التي تسيطر فيها الأنظمة الاستبداديّة على مصادر المعلومات.
تراجع الاستثمارات في الدول الغربية
ولا تتعرّض الخدمات الإخباريّة الدوليّة للضغط في الولايات المتّحدة فقط، بل أيضًا في بقيّة الدول الغربيّة. ويقول كولين بورليزا، مدير معهد الإعلام والصحافة في جامعة ديلا سفيتزيرا الإيطاليّة: “قررت العديد من الأنظمة الديمقراطيّة الليبراليّة، في السنوات الأخيرة، إعادة النظر في تمويل وسائل إعلامها العموميّة أو خفض تمويلها، ما سيّما تلك الموجهّة إلى الخارج”.
فمثلًا، تعرّضت الخدمة الدوليّة لهيئة الإذاعة البريطانيّة، “بي بي سي” في المملكة المتّحدة، للعديد من التخفيضات على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت عن إلغاء 130 وظيفةرابط خارجي، في إطار خطّة لخفض التكاليف تهدف إلى تقليص ميزانيّتها بنحو 6 ملايين جنيه إسترلينيّ (6،5 مليون فرنك سويسريّ). ويعلّق كولين بورليزا على ذلك قائلًا: “تتعرّض خدمة بي بي سي وورلد لضغوطات ماليّة هائلة، رغم دورها التاريخيّ، كحجر زاوية للقوّة الناعمة البريطانيّة”.

وفي فرنسا، شهدت الموارد المخصّصة للبثّ الإذاعيّ والتلفزيونيّ الخارجيّ، في السنوات الأخيرة، انخفاضًا فاق عدة ملايين من اليورورابط خارجي. وإلى جانب فرنسا، يذكر كولين بورليزا أنّ الإعلام العموميّ الدوليّ “واجه إجراءات تقشّفيّة في كلّ من فنلندا، وهولندا، وبلجيكا، وسلوفينيا”.
وليست سويسرا بمعزل عن هذا الاتجاه؛ إذ تدرس الحكومة حاليا خطّة لخفض التكاليف، وتبحث في إلغاء مساهمتها البالغة 19 مليون فرنكرابط خارجي في عروض هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية (SSR)، الموجّهة إلى الخارج. ويشمل ذلك موقع سويس إنفو (SWI (swissinfo.ch، وموقع tvsvizzera.it الناطق باللغة الإيطاليّة، وكذلك التعاون مع القناتين التلفزيونيّتين الدوليّتين، “تي في 5 موند” (TV5MONDE) و”3 سات”(3sat).
وتُعتبر دويتشه فيله (DW) حالة خاصّة في العالم الغربيّ. فقد رصدت الحكومة الألمانيّة رابط خارجي15 مليون فرنك إضافيةرابط خارجي لخدمة البثّ الدوليّ في ميزانيّتها لعام 2025. ويوضّح كولين بورليزا أنّ “هذا استثناء وليس قاعدة، لأنّ الضغوط السياسيّة، في أماكن أخرى من العالم، تتزايد”.
الدول الاستبدادية تعزّز قنواتها
وفي المقابل، تسير البلدان الاستبداديّة في الاتّجاه المعاكس. ويوضّح تريستان ماتيلارت أنّه “منذ أوائل الألفيّة الثانية، تعمل كلٌّ من روسيا، والصين، ومعهما إيران، على تعزيز أجهزة البث السمعيّ البصريّ لديها، لا سيَّما في أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة”.
ويستشهد على وجه الخصوص بإنشاء قنوات دعائيّة روسيّة، مثل “روسيا اليوم” و”سبوتنيك”، وتأسيس الصين لقنوات تلفزيونيّة دوليّة، بفضل استثمارات بعدّة مليارات من الفرنكات. ويقول: “هناك تناقض صارخ بين المفاوضات الماليّة الصعبة، التي تواجهها وسائل الإعلام الدوليّة العموميّة في الولايات المتّحدة، وأوروبّا الغربيّة، والتمويل الضخم الذي تتلقّاه وسائل الإعلام الدوليّة الحكوميّة الروسيّة والصينيّة”.
وعن التوسّع في الانتشار الإعلاميّ الدوليّ لروسيا والصين، يؤكد كولن بورليزا أنّ هذا “أدّى إلى أشكال من الهيمنة الإعلاميّة؛ إذ لا تعمل وسائل الإعلام العموميّة الدوليّة بشكل مستقّل، بل تسيطر عليها مصالح حكوميّة”.
تراجع في الأهداف
ويرى تريستان ماتيلارت أنّ الصرامة الماليّة هي أكثر ما يُثقل كاهل الإعلام العموميّ الدوليّ في الدول الغربيّة، منذ عدّة عقود. ويستشهد بما حدث في الولايات المتّحدة الأمريكيّة؛ فقد اضطرّت إذاعة صوت أمريكا، وإذاعة أوروبا الحرّة، إلى تخفيض تكاليفهما منذ نهاية الحرب الباردة. ويستطرد الخبير في الاتّصالات الدوليّة قائلًا: “نجد في المقابل، أنّ صدمة هجمات 11 سبتمبر2001 سمحت بتمويل وسائل إعلام جديدة، موجّهة إلى العالم العربي”.
وإلى جانب القضايا الماليّة، باتت الفائدة المرجوة من هذه المنصّات موضع تشكيك أيضًا. ويقول أندريو روبوثام، الباحث والمحاضر في أكاديميّة الصحافة والإعلام في نوشاتيل، “كانت الحكومات، طوال القرن العشرين، تعتبرها أداة مهمّة من أدوات القوّة الناعمة، لا سيَّما إبّان الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة”.

وكانت معظم الخدمات الإعلاميّة الدوليّة قد انطلقت في ثلاثينات القرن العشرين، كمحطّات إذاعيّة تبثّ على الموجات القصيرة (والتسمية مضللة)، التي كانت تعدّ التكنولوجيا الوحيدة التي تسمح بإيصال البث إلى أقصى أطراف العالم، آنذاك.
فعلى سبيل المثال، أُنشئت الخدمة السويسريّة للموجات القصيرة (التي أصبحت في ما بعد إذاعة سويسرا العالميّة، ثم سويس إنفو) في عام 1938. وكان الدافع إلى إنشائها، الردّ على دعاية ألمانيا النازيّة وإيطاليا الفاشيّة، كما تشرح ذلك المؤرخة رافاييل روبن كوتاز في كتابها “صوت سويسرا في الخارج”.
ولأنّ سويسرا لم تكن طرفا في النزاع، فقد حظيت التقارير والأخبار التي تبثّها خدمة الموجات القصيرة، بمتابعة واسعة. ويقول كولين بورليزا: “نالت الخدمة سمعة دوليّة حسنة لتقاريرها المحايدة، وأصبحت “صوتًا حرًّا” نادرًا في أوروبا، التي كانت تهيمن عليها الأنظمة الاستبداديّة”.
الحكومات تراهن على قنوات أخرى
ويرى أندريو روبوثام أن العصر الذهبيّ لهذه الخدمات الإعلاميّة الدوليّة قد انتهى. ويعتبر أنّ الحكومات تفضّل اليوم قنوات أخرى، لإسماع صوتها في الخارج. ويقول: “باتت الدول تميل إلى استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ والاتصالات المؤسّسيّة. وبالتالي، فهي تستطيع الاستغناء عن الكوادر الصحفيّة، التي تكلّف كثيرًا ولا تمتنع عن ممارسة النقد”.
وإذا أخذنا سويسرا كمثال، نجد أن الكنفدرالية تراهن على “الحضور السويسري”رابط خارجي (Presence Suisse) للترويج لصورتها في الخارج. ويعلّق أندريو روبوثام على ذلك قائلًا: “من وجهة نظر الحكومة، يتميّز هذا النوع من الاتصال بكونه مصمّمًا على المقاس”.
ويشير إلى أنّ الظرف حاليا لم يعد مواتيا لهذه المنصّات الإعلاميّة، ويضيف: “من ناحية، يتعرّض تمويل الخدمة العموميّة بشكل عام للهجوم من جميع الجهات. ومن ناحية أخرى، هناك جوٌّ من عدم الثقة تجاه وسائل الإعلام التقليديّة، وتجاه الصحفيين والصحفيات”.
ولا يُخفي الباحث من جامعة نوشاتيل قلقه بشأن مستقبل وسائل الإعلام العموميّة الدوليّة في الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة. ويضيف: “من الصعب أساسًا، الحفاظ على تمويل وسائل إعلام الخدمة العموميّة، فلا أرى كيف ستستمرّ الخدمات الموجّهة إلى الجمهور الأجنبيّ بشكلها الحالي، رغم نوعيّتها الممتازة”. ومع ذلك، يرى أنديرو روبوثام بصيصًا من الأمل فيقول: “لعلَّ ما يحدث في الولايات المتّحدة سيدفع إلى الاستفاقة، وإدراك أهميّة الخدمة العموميّة والخدمات الدوليّة”.
ويبدو تريستان ماتيلارت أكثر تفاؤلًا؛ إذ يرى أنّ “وسائل الإعلام هذه قد أثبتت فائدتها في فترات الاحتقان الشديد، لضمان التعدّديّة الإعلاميّة في بعض السياقات الاستبداديّة”. ويرى أنّها قد تؤدي أيضا دورًا مهمًا في حرب المعلومات التي تخوضها الدول الديمقراطيّة ضدّ الأنظمة الاستبداديّة. ويؤكّد أنّه “طالما أنّ هناك أنظمة استبداديّة، فستظلّ رسالتها قائمة”.
>> اقرأ.ي مقالنا حول تاريخ الخدمة السويسرية للبث على الموجات القصيرة:

المزيد
الموجات القصيرة.. وسيلة إعلامية في خدمة السياسة السويسرية
تحرير: بولين توروبان
ترجمة: موسى آشرشور
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.