مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“دولة مشتركة ثنائية القومية – أسمّيها ‘جمهورية حيفا’”

دورية لجنود إسرائيليين في الضفة الغربية
جنود إسرائيليون يتخذون مواقعهم خلال اشتباكات دارت يوم 21 مايو 2021 مع متظاهرين فلسطينيين في وسط مدينة الخليل بالضفة الغربية. بعد أحد عشر يومًا من القتال، دخل وقف لإطلاق النار حيز التنفيذ بين إسرائيل والمسلحين الفلسطينيين في قطاع غزة بناء على مبادرة مصرية. Keystone / Abed Al Hashlamoun

بعد وَقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، يُطرح السؤال نفسه مرّة أخرى: كيف يَتَعين حَلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ أستاذ الفلسفة الاسرائيلي عُمري بوم يرى أن حلّ الدولتين قد مات، وهو يُقَدِّم بديلاً لا يثير الاهتمام فَحَسب، ولكنه جذري أيضاً.

يَصف عُمري بوم نفسه بالوطني الإسرائيلي، لكنه مُقتَنِعٌ أيضاً بأن الحركة الصهيونية تجد نفسها اليوم في مأزق مُميت وأنها بحاجة إلى إعادة توجيه. وفي كتابه الأخير الذي يحمل عنوان “إسرائيل – دولة فاضلة” (باللغة الألمانية Israel – eine Utopieرابط خارجي ) أو مستقبل لإسرائيل” (باللغة الانجليزية)، والذي نُشِر في العام الماضي، قَدَّم بوم وجهة نظره حول الديمقراطية الإسرائيلية وحَلاً مُحتَملاً للصراع في الشرق الأوسط. وقد أكَّدَت أحداث الأسابيع القليلة الماضية مَخاوِفه – وجعلت مُناشدته لسياسة إسرائيلية جديدة تبدو أكثر إلحاحاً اليوم.

السيد عُمري بوم، بعد وقف إطلاق النار [بين إسرائيل والفلسطينيين]، أكَّد الرئيس الأمريكي بايدن والاتحاد الأوروبي مُجدّدَاً أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى حَلّ واحد لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ألا وهو حلّ الدولتين. لكنك تقول أن هذا الحلّ قد مات منذ فترة طويلة.

عُمري بوم: لو أردنا ان نأخذ بيان بايدن هذا على مَحمَل الجد حقاً، فإنه كارثي. إن حلّ الدولتين اليوم ما هو إلا كذبة يتم نَسجَها إلى ما لا نهاية. أنا مُقتَنِع بأن جميع الجهات الفاعلة أصبحت تُدرك الآن أن الأمر يتعلق بـِكِذبة يجري الاحتفاظ بها فقط من مُنطلق المصلحة الذاتية، لكنها لا تُقَدَّم أي حلٍّ قابل للتطبيق للتغلب على الصراع يُمكن أن يكون مقبولاً لدى كل من الفلسطينيين وإسرائيل.

لماذا لم يعُد حَلّ الدولتين قابلاً للتطبيق برأيك؟

عُمري بوم: لأسباب مختلفة. كقاعدة عامة، يتم إبراز العدد الكبير من المستوطنين اليهود في الضفة الغربية ووضعه في الواجهة. هذا سبب مُهم بالطبع، لكنه ليس السبب الأهم. ففي أغلب الأحيان، يتم التغاضي عن العقبة الرئيسية أمام حَلّ الدولتين، ألا وهي عدد الفلسطينيين الكبير جداً، والذين يشكلون اليوم أغلبية السكان في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ​​والأردن. وفي الواقع فإن حوالي 53-54% من السكان هم فلسطينيون.

إن أكثر خطط التقسيم سخاءً لحل الدولتين، وفقاً لاتفاقية أوسلورابط خارجي مثلاً، لا تقدم لهم سوى حوالي 22% فقط من الأرض. هناك أيضاً حقيقة أن الفلسطينيين – ووفقاً لِحَلّ الدولتين – لن يُمنحوا دولة مستقلة ذات سيادة، ولكن حُكما ذاتياً. من الواضح أن هذه ليست تسوية عادلة. بالإضافة إلى ذلك، هناك بالطبع الظرف الخطير المُتمثل بالاستعمار الإسرائيلي.

استعمار؟

عُمري بوم: عندما أتحدث عن الاستعمار، فأنا لا أفعل ذلك بغية رَبط انتقاد إسرائيل بنظرية ما بعد الاستعمار، التي أنتقدها بشدة من بعض النواحي. لكن إسرائيل، ولأكثر من نصف قرن، تحتل جزءاً من فلسطين لم تضمه إلى أراضيها، لكنها رغم ذلك تواصل تعزيز الاستيطان اليهودي. هذا شكل من أشكال الاستعمار.

وهكذا فإن المستوطنات الآخذة في التوسّع اليوم تجعل حل الدولتين مستحيلاً برأيك؟

عُمري بوم: مع احتساب عدد السكان الفلسطينيين، أصبح عدد المستوطنين أيضاً أكبر مما يَجب. نحن نتحدث عن  حوالي 700,000 مستوطن يهودي في الضفة الغربية. ورغم أن بعض المستوطنات تقع في عُمق الأراضي المُحتلة، لكن لَن يتم التخلّي عنها أبداً. هذا يجعل تقسيم الأرض بشكل عادل ومعقول مُستحيلاً.

أليس الأهم هو العثور على حلّ وسَط يعمل بطريقة أو بأخرى – حتى لو لم يكن عادلاً؟

عُمري بوم: هذا صحيح. الحلول الوسط تستند على التنازلات، وهي لا تكون جَذابة في الغالب، ويمكن أيضاً أن تكون غير عادلة بهذا المعنى. في رأيي، هناك معيار بسيط للتوصل إلى حلٍ وسط جيد: إذا لم يحقق العدالة، فيجب أن يجلب السلام. إن مَنح 22% من الأراضي لـ 50% من السكان لن يَجلب السلام، والفلسطينيون لن يقبلوا بمثل هذه التسوية. هذا ليس لأنهم مُعادون للسامية أو يريدون تدمير إسرائيل، ولكن لأنها لا تُقدِّم لهم سوى القليل. بالتالي، فإن الإصرار الأبدي على حَلّ الدولتين لم يَعُد منطقياً. إن جو بايدن وأنغيلا ميركل يعرفان ذلك أيضاً. الجميع يعلم.

ولكن ألا يُمكن القول إن إسرائيل قامت بإخلاء المستوطنات الإسرائيلية من قطاع غزة في عام 2006، وينبغي لها أيضا بالتالي – إذا توفرت الشروط المناسبة – أن تكون قادرة على إخلاء الضفة الغربية أيضاً؟

عُمري بوم: ان قطّاع غزة يُثبت عَكس ذلك. لقد كانت عملية الإجلاء حينها تجربة مَريرة للمُجتمع الإسرائيلي، وذَهَبَت إلى حدود ما كان مُمكناً سياسياً فقط، ولم يكن سوى 8,400 مستوطن يعيشون في غزة. الوضع في الضفة الغربية – التي تُعتبر أكثر أهمية من غزة من الناحية الرّمزية – مُختلف . وفي حالة الإجلاء، سَيَتَعيّن إجبار مئات الآلاف من المستوطنين على التخلي عن منازلهم. هذا أمرٌ مُستحيل ولن يحدث أبداً.

لكنك تقول في كتابكأيضاً إن حلّ الدولتين كان سيكون حلاً حقيقياً خلال فترة زمنية مُعيَّنة. في أعوام التسعينات، عندما روَّج رئيس الوزراء رابين والصهيونية الليبرالية لهذا الحَلّ، حَدَث ذلك بِنِية صادقة. كانوا يريدون السلام على هذا الأساس. وكان ذلك سيكون ممكناً.

عُمري بوم: إن تقييم الدور الفعلي لِحلّ الدولتين في التسعينيات أمرٌ صعب. اليوم لم يعُد لَدَي رأي نهائي حول هذا الموضوع. لقد كُنتُ مؤيداً مُتَحَمِّساً لهذه الفكرة في التسعينيات. لكنني، وعند النَظِر إلى الوراء، يجب أن أعترف بِمَعقولية بعض أصوات اليسار الإسرائيلي المُتَطَرف. إنهم يقولون إن حَلّ الدولتين لمْ يِكُنْ سوى مُناورة زائِفة من قِبَل الحكومة الإسرائيلية منذ البداية وما كان له أن يرى النور أبداً. أما حُجَّتهم الرئيسية في ذلك، فهي أن بِناء المستوطنات كان مستمرّاً على قدم وساق حتى عندما كان رابين يتفاوض على حلّ الدولتين. هذا تَناقض لا يَسهل تفسيره. لكن هناك أسباب تدفعنا للاعتقاد برغبة رابين الفِعلية في حل الدولتين ايضاً.

ماهي هذه الأسباب؟

عُمري بوم: لقد شَرَعَ رابين في إحداث تغيير جوهري في السياسة الإسرائيلية. يجب ألا ننسى أن ذلك كان يعني سماح إسرائيل بعودة ياسر عرفات إلى فلسطين. كان التفاوض مع عرفات والسماح له بالعودة من المَنفى بادِرات مُهِمّة جداً في ذلك الوقت. من الناحية التاريخية، أعتقد أن السؤال حول مدى رغبة رابين الحقيقية بِحَلّ الدولتين، وما إذا كان تنفيذه ممكناً حقاً يظل مفتوحاً. مع ذلك، فإن إرادة رابين السياسية الحقيقية للتغيير أمر لا يرقى إليه الشك. ويجب أن لا ننسى أيضاً أن رابين قد أُغتيل بسبب ذلك. هذه ليست مُصادفة كما لم تكن خطأ ارتكبه المتطرفون القوميون دون سبب. كان رابين يدعو إلى تغيير جذري في المسار. وعندما تبدأ ثورة كهذه، فإن أحداً لا يعرف كيف ستنتهي. أعتقد أن رابين نفسه كان يجهل ذلك. وبهذا المعنى، كان حَلّ الدولتين في ذلك الوقت مشروعاً سياسياً حقيقياً.

لكنه لم يعُد كذلك اليوم برأيك؟

عُمري بوم: لم يَعُد هذا الحلّ سوى حديث لا مَعنى له منذ فترة طويلة. من الأنسب للجميع التمسّك به بشكل مبدئي، لأنه سوف يُجنِّبهم مواجهة الأسئلة الصعبة. هذا ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك على الاتحاد الأوروبي وألمانيا، وبالطبع على إسرائيل بشكل خاص. وحتى لو كانت الاشتباكات العَنيفة التي تَندَلع بشكل دوري مُضرّة لإسرائيل، إلّا أنَّ الوضع الراهن بشكل عام مُريح للغاية بالنسبة لها. فالبلد يَزدَهر، والتهديدات تبدو قابلة للإدارة – في الوقت الحاضر على الأقل. ولا يُعتَبَر الوضع الراهن كارثيا إلّا بالنسبة للفلسطينيين فقط.

تقول في الوقت الحاضر؟

عُمري بوم: لقد أظهرت الأسابيع الماضية مَرّة أخرى وبوضوح شديد أننا لا نستطيع أن نكتفي بالترويج لِحَلّ الدولتين إلى الأبد دون التفكير في حلول أخرى حتى. إن حَلَّ الدولتين لن يَحدُث. وما لم يتغيّر شيء، فإن الوَضع الحالي سوف يَنفَجر. الشعب الفلسطيني موجود – حتى لو واصلنا قمعه. كما يوجد هناك شعور وطني مُشترك بين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل، وهذا سوف يزداد أهمية.

لماذا؟

عُمري بوم: لقد اعتدنا على الاعتقاد بأن الفلسطينيين سَيَقبلون ما نُقَدِّمه لهم؛ بما في ذلك تقسيمهم إلى عَرب إسرائيليين، أي فلسطينين يعيشون داخل حدود عام 1948، وفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن، وكما أظهَرَت الأسابيع القليلة الماضية، فإن رَفض هذا الإنفصال ينمو بشكل مُتزايد. لذلك، وهذا لا يخص إسرائيل فقط ولكن الفلسطينيين أيضاً، لمْ يَعُد حَلّ الدولتين مَنظوراً سياسياً وواقعياً. إن استمرار هذا الفَصْل، يزيد مخاطر اندلاع حرب أهلية عِرقية بَشعة جداً في الأراضي المُحتلة وفي إسرائيل.

لكن ألا تكمُنُ المشكلة الرئيسية في الظروف المعيشية الصعبة وافتقار المرأة الفلسطينية الكبير للحقوق في الأراضي المحتلة؟

عُمري بوم: نعم ولا. هناك اليوم جدلٌ حاد حول ما إذا كان من المشروع تسمية النظام القانوني في الأراضي المُحتلة فصلاً عنصرياً، أو ما إذا كان ذلك غير مقبول ومعادٍ للسامية. إن شكلاً من أشكال الفَصل العُنصُري يسود الأراضي المُحتلة بلا شك، لأن الاحتلال الإسرائيلي يَفرض نُظُماً قانونية مُختلفة على المستوطنين والفلسطينيين. بإمكان المرء إجراء مناقشات حول مقبولية المصطلح، لكنها مناقشات أكاديمية في النهاية لأنها تنطوي على افتراضات لا يُمكن الدفاع عنها.

أي افتراضات؟

عُمري بوم: بأن الوضع – بِغَضّ النظر عن التَسمية التي نستخدمها لِوَصفه – لن يَتَغير. بَيد أن الحالة الراهنة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. فالفلسطينيين سوف يقاومون، كما فعلوا مرة أخرى مؤخراً. وبدورها، ستواصل إسرائيل الرَد بقوة في المستقبل أيضاً. وفي وضع تهيمن فيه أقلية يهودية على أغلبية عربية، سوف تزداد حِدّة العُنف ضراوة.

هذا يقودنا إلى السؤال الحاسم: ماذا سيكون البديل؟

عُمري بوم: الحل برأيي هو إقامة دولة فدرالية ثُنائية القومية تشمل الأراضي المُحتلة وداخل إسرائيل، يعيش فيها اليهود والعرب معاً ويتمتعون بحقوق متساوية.

لكن كيف من المُفترض أن يعمل ذلك؟

عُمري بوم: الفكرة الأساسية هي قيام كل من المناطق الإسرائيلية داخل الدولة – وهنا أفترض المناطق الواقعة داخل حدود عام 1948 – والأراضي الفلسطينية – داخل حدود 1967رابط خارجي – بإدارة نفسها وتَمَتُّعها بدرجة عالية من الحكم الذاتي. لكنها تكون مرتبطة بدستور مُشترك في دولة مشتركة.

ما الذي يمكن أن يتضمنه مثل هذا الدستور؟

عُمري بوم: سوف يَنص على مجموعة من المبادئ الأساسية، من ضمنها حُرّية التنقل بين المناطق، وحَظْر التمييز ضد الجماعات العِرقية الأخرى، والحَق في ممارسة الأنشطة الاقتصادية على كامل التراب الوطني. وسوف يِسمح ذلك للمستوطنين بالبقاء في منازلهم وحَلّ مشكلة عدم إمكانية إجلائهم، كما أن من شأنه تسهيل مسألة حق الفلسطينيين في العودة، حيث يُمكنهم العودة إلى الأماكن التي هُجِّروا منها في حرب 1948. وأنا أسمي مثل هذه الدولة ثنائية القومية القائمة على هذه الأسس “جمهورية حيفا”.

ألا تتعارض هذه الرؤية مع المُثُل العليا السابقة للصهيونية، التي تلتزم بمفهوم الدولة اليهودية؟

عُمري بوم: هذا بالضبط ليس هو الحال. إن هَدَف الدولة ثنائية القومية لا يَخرُج عن تقاليد الصهيونية على الإطلاق. هناك العديد من الدُعاة في تاريخ الصهيونية الذين استهدفوا إنشاء الدولة ثنائية القومية. كان هناك دائماً مفهومان: الدولة الثنائية القومية وحَلّ الدولتين. لو أننا استثنينا اليمين القومي في الوقت الراهن، سوف نرى أن النقاش لم يَنقَسم إلى قسمين إلّا في الآونة الأخيرة فقط: مُعسكر الصهاينة الليبراليين الذين يُريدون حَلّ الدولتين من جهة، ودُعاة حَلّ الدولة الواحدة الذين يُتَّهمون بِمُعاداة السامية من جهة أخرى.

هل يمكنك إعطاء أمثلة تاريخية لحل الدولة الواحدة؟

عمري بوم: لنبدأ بأصول الصهيونية. إن تيودور هرتزلرابط خارجي (مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة) نفسه لم يَكنْ من المُدافعين عن الدولة ثنائية القومية بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنه افترض أن إسرائيل سوف تبقى تحت حُكم الإمبراطورية العثمانية. لذا، فإنه لمْ يَرَ أن الدولة اليهودية التي سيتم إنشاؤها ستكون دولة قومية ذات سيادة، ولكن سلطة محلية مُستقِلّة تتمتع بالحكم الذاتي تحت السيادة العثمانية. بالنسبة لهرتزل، لم تكن السيادة اليهودية – المصطلح الذي يكاد يُعَرِّف الصهيونية اليوم – هو ما يَهُم.

كذلك فَكَّرَ عددٌ آخر من الصهاينة المُهمّين – مثل فلاديمير جابوتنسكي، وآحاد هعام، وحتى بن غوريون – في النماذج ثنائية القومية. وقد صاغ بن غوريون في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي دساتير ثنائية القومية خَصَّصَت لكل من الفلسطينيين واليهود كانتوناتهم الخاصة. وفي رأيي فإن المسألة تتعلق بإحياء هذا التقليد.

ماذا يعني ذلك؟

عُمري بوم: يجب أن تتماشى سياستنا مع المثل الأعلى الصهيوني لتقرير المصير اليهودي، وليس السيادة اليهودية.

تناقش في كتابك أيضاً ما يُعرف بخطة بيغين..

عُمري بوم: في عام 1977، تَعَرَّض رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن – الذي كان أول رئيس وزراء يميني في إسرائيل ورافضاً تماماً للتسويات الإقليمية – لِضغوط من قبل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر والرئيس المصري أنور السادات لتقديم عَرض للفلسطينيين. وحيث كان بيغن يَرفض قيام دولة فلسطينية رفضاً قاطعاً، قام باقتراح “خطة الحكم الذاتي”. صَحيح أنَّ الخطة لم تنص على قيام دولة فلسطينية، لكنها كانت تتيح حقَّ تقرير المصير الوطني للفلسطينيين، والأهم من ذلك أنَّ جميع الفلسطينيين كان من المُفتَرَض مَنحهم الفرصة ليصبحوا مواطنين إسرائيليين – وهو اقتراح كان سيكون من المُحَرَّمات المُطلقة اليوم، حتى بالنسبة للجناح اليساري للصهيونية الليبرالية، لأنه يتناقض مع الفكرة المركزية للسيادة اليهودية. مع ذلك، وافق الكنيست على هذه الخطة في عام 1977 بأغلبية واضحة. وهذا هو النهَج الذي يمكننا إحياؤه.

هل تريد العودة إلى بيغن؟

عُمري بوم: لسْتُ مَعنياً إطلاقاً باضفاء الطابع الرومانسي على خطة بيغن، رَغم أنه نوع من الحنين الموجود اليوم أيضاً. لكن خطته تمثل نَهجاً مُثيراً للاهتمام في الوقت الذي فشل فيه حَلّ الدولتين للصهيونية الليبرالية تماماً. مع ذلك، فإنني مُقتنع اليوم بضرورة الاضافة على خطة بيغن: لقد أراد أن يجعل الفلسطينيين مواطنين في دولة يهودية. وسيكون من الصحيح جعلهم مواطنين في دولة ثنائية القومية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو مدى واقعية نَهجك. أنت تقول بأن من الوَهم الاعتقاد بأن إسرائيل ستقبل يوماً بإخلاء مستوطناتها في الضفة الغربية، أو تكون قادرة على ذلك. لكن إذا لم يكُن ذلك مُمكناً، فما مَدى واقعية مُطالبة اليهود والعرب بالتعايش في دولة ثنائية القومية، دون جدران أو فَصل مكاني؟

عُمري بوم: سوف يمثل هذا تحدياً كبيراً. أود أن أجيب على مستويين، الأول فلسفي. أنا من أتباع مدرسة كانط، الذي يَفتَرض بأن كل ما يَجب أن يكون يُمكن أن يكون أيضاً. “يجب” تعني “يُمكن”. لذا، وفي وضع صَعبٍ للغاية مثل الصراع الفلسطيني اليهودي، لا يوجد هناك سوى حَلٍ واحدٍ فقط: علينا أن نفكر فيما يَجِب أن يكون. دَعنا نُلقي نظرة على الخيارات الأخرى المُتاحة. الأول هو حَلّ الدولتين، وهذا مات وبإمكاننا استبعاده، والثاني هو الاحتفاظ بالوضع الراهن على المدى الطويل. إن هذا لن يحدث أيضاً، لأن الوضع الحالي سيؤدي إلى تصاعد أعمال العُنف أكثر من أي وقت مضى. كذلك فإن الاستسلام، أو غضّ النظر، أو دَفن الرؤوس في الرمال لنْ يساعد أيضاً.

ما الذي بقي إذن؟

عُمري بوم: هناك خيار طَرد الفلسطينيين. علينا أن نضع في أذهاننا أن هذا الحل مَطروح من جديد في خطاب إسرائيل السياسي اليوم – ليس من قبل اليمين المتَطَرِّف فقط. وبعد كل شيء، لا يُمكن لأي شخص مُلتزم بحقوق الإنسان والمبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي إلا أن ينخرط في الخيار الأخير. هذا هو الحل الثنائي القومي. يمكننا الاستسلام – أو يمكننا أن نضع ثقتنا في التزام جذري.

كيف يمكن تجسيد هذا الحَلّ الثنائي القومية؟

عُمري بوم: المستوى الثاني من أجابتي هو الثقة والأشكال المُثبتة للتعايش بين اليهود والعرب، وهذه موجودة بالفعل في أماكن مُعينة في إسرائيل. لذا أُطلق على برنامجي اسم “جمهورية حيفا”. من المؤكد أن حيفا ليست مدينة فاضلة مثالية، لكنها مكان في إسرائيل يتعايش فيه العَرب واليهود بنجاح كبير. وإذا لَزِم الأمر، فإن بإمكان المجموعتين العرقيتين أن تتفاهما مع بعضها البعض. ولو أن القوى العظمى تَبَنَّت قضية الترويج لهذا النموذج، فقد يصبح بديلاً حقيقياً.

مع ذلك، لا بُدَّ من العمل الكثير بغية تحقيق هذا البديل.

عُمري بوم: لا جدال في ذلك. علينا أن لا نَخدع أنفسنا؛ فهذا [الحل] بعيدُ المنال. مع ذلك، لو أنك ذَهَبتَ إلى الأحياء الشمالية من حيفا، سيكون بإمكانك أن ترى كيف يعيش الناس معاً هناك – على الرغم من كل ما حَدَث خلال الأسابيع القليلة الماضية. هناك ثقة، وسياسة محلية مُشتركة وحياة ثقافية مُشتركة.

هل يُمكن أن تكون حيفا نموذجاً لكل إسرائيل؟

عُمري بوم: لو أن اليسار الإسرائيلي تَوَقَّفَ عن الحديث عن نموذج الدولتين، أو التزَمَ الصَمْت بشأنه، لأن أحداً في إسرائيل لم يَعُد راغباً في التحدث عنه، ولا حتى أولئك الذين يتظاهرون بأنهم لا زالوا يؤمنون به؛ ولو انضَم اليسار الإسرائيلي اليهودي إلى الأحزاب العربية في إسرائيل؛ ولو أنهم حصلوا على دَعم من الديمقراطيين في الولايات المتحدة ومن منظمات الضغط التابعة لليهود الأمريكيين الليبراليين مثل ‘جي ستريت’ (J-Street)؛ ولو قامت ألمانيا والدول الأوروبية بِدَعم هذه السياسة – لو تَمّ الإيفاء بكل هذه الشروط، لن يكون لدينا بالتأكيد انتقال سريع لـ”جمهورية حيفا”، لكن قد يكون لدينا بديل موثوق به. أنا أعلم أنني أطرح العديد من الشروط، لكن تيودور هرتزل وقف ذات مرّة على شرفة فندق Les Trois Rois (الملوك الثلاثة) في بازل (شمال سويسرا) وقال: “إذا كنتم تتحلون بالإرادة، فإنها لَنْ تكون قصة خيالية”.

لكن معارك الشوارع بين عرب إسرائيل واليهود في الأسابيع الأخيرة ألقت بظلالها على مثل هذه الآمال..

عُمري بوم: هذا صحيح من ناحية، وهو يظهر مدى تفجُّر الوضع. لكن توجد هناك ردود أفعال مُشجعة أيضاً. فقد نَظَّم العرب واليهود يوم 22 مايو تظاهرة حاشدة في تل أبيب للمُطالبة بسياسة مُشتركة. لم يسبق وأن حدث ذلك بهذا الشكل، لكن الجانبين أدركا عدم وجود حلِّ – ما لم يمضيا قُدُماً مَعاً. يمكن اعتبار الاشتباكات العنيفة التي شهدتها الأسابيع الأخيرة دليلاً على استحالة التعاون بين اليهود والعرب، أو النظر إليها كتأكيد على عَدَم وجود بديل للعمل معاً. كما ظهرت هناك تطورات سياسية أخرى جديدة تماماً.

ماهي؟

عُمري بوم: للمرة الأولى على الإطلاق، انضَمَّ العرب الإسرائيليون إلى إضراب أعلنه الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة احتجاجاً على قَصف غزة. هذا تطور مُهم: فهو يَدُل على التضامن بين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المُحتلة. كما أظهَرَ حزب ميرتس اليساري، الذي أميل إلى انتقاده في العادة، شجاعة كبيرة في دَعم الإضراب رسمياً. إن دَعمَ حزب يساري صهيوني لإضراب شامل للفلسطينيين هو أمرٌ جديد تماماً.

لكن القوى التي تَستمر في تدمير الثقة وجَعْل التعاون مُستحيلاً على نحو مُتزايد تزداد قوة أيضاً. والرواية الشائعة حول فَشَل عملية السلام تقول أن جُزءاً على الأقل من اليمين الإسرائيلي لم يكن يريدها – وأن حماس لم تكن تريدها على الإطلاق.ومع استمرار دوامة العنف، ازداد المُتشددون في كلا المعسكرين قوة كما زادوا من قوة بعضهم البعض. إن حماس لم تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2006 فحسب، ولكنها أصبحت أيضاً تهديداً متزايد القوة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. هل يُفترض أن يكون هناك منظور للتعاون في مثل هذه الظروف؟

عُمري بوم: نعم ولا. بطبيعة الحال، لا يُمكن بناء الثقة مع منظمة مثل حماس – حتى لو أمكن القول إن حماس كانت مُضطرة للتغيير. إنها منظمة إرهابية، لكنها أصبحت الآن سلطة حكومية ايضاً. لقد أدى ذلك إلى مَزيد من العقلانية في بعض المسائل، وإلى استعداد أكبر لتقديم تنازلات، لأن عليها الآن حماية مصالح أخرى، وعَدَم تعريض مصادرها المالية للخطر، وما إلى ذلك.

إذن، هل يمكن لحماس حتى أن تتغير وتصبح شريكاً برأيك؟

عُمري بوم: كلا، هذا لا طائل منه. صحيح أن هناك أصواتاً من اليسار الإسرائيلي تدعو إلى إجراء مفاوضات مع حماس، لأنها اليوم المنظمة الفلسطينية الوحيدة التي تَحظى بِدَعم واسع النطاق. لكن هذا خطأ في اعتقادي لأن حماس لازالت منظمة إرهابية لا يمكن التوصل إلى حل سلمي معها. لكن علينا أن نتذكر أيضاً أن مُعارضي أوسلو الإسرائيليين هم الذين رَوَّجوا لحماس بقصد جعل عملية السلام مستحيلة وتقسيم الفلسطينيين. ففي نهاية الأمر، كان وجود حماس دائماً الحجّة الرئيسية ضد أي شكل من أشكال التَسوية مع الفلسطينيين.

هل يتعيّن على السياسة الإسرائيلية إذن أن تستهدف تهميش حماس باستمرار؟

عُمري بوم: عليها أن تجعل حماس غير جديرة بالثقة كَمُمَثِّلة للشعب الفلسطيني. بَيد أنها لن تحقق ذلك من خلال قَصف غزة. فعلى العكس من ذلك، أثبَتَ الصراع المُسلح مؤخراً بشكل قاطع أن حماس الآن هي القوة الوحيدة التي تُدافع عن المَسجد الأقصى في نظر الشعب الفلسطيني. إن هذه هزيمة كبيرة لنتنياهو – ورُبما لا تكون كذلك. ربما كان هذا ما أراده، لكي يثبت مرة أخرى أن الفلسطينيين ليسوا شركاء في السلام.

هل يَتَعَيَّن على السياسة الإسرائيلية أن تجد مُحاورين فلسطينيين جُدُدا؟

عُمري بوم: هذا هو بيت القصيد. إذا قيل إنه ينبغي أن يكون لدينا شركاء في غزة والضفة الغربية – مما يوجب التفاوض مع حماس أو السلطة الفلسطينية، فأنت تبقى بمنطق الدولتين. لكن، وكما يتضح بشكل متزايد، فإن الفلسطينيين شعب واحد. وبالتالي، يمكن لنواب عرب في الكنيست – ومن بينهم سياسيون كبار لهم وزنهم – أن يلعبوا دوَر مُمَثلي الفلسطينيين أيضاً. يمكن أن يُنظَر إلى هؤلاء أيضاً بوصفهم قادة فلسطينيين. لو كان بالإمكان التوصل إلى تحالف معهم، فسوف يُغيّر ذلك السياسة الإسرائيلية. وحيث تسيطر إسرائيل بِحُكم الواقع على الأرض بأكملها على أي حال، يمكن أن تتمخض عن ذلك نتائج بعيدة المدى في الأراضي المُحتلة أيضاً. أنا لا أقول إن العملية ستكون سهلة، بالتأكيد لا، ولكننا يجب أن نبدأ من هنا: من وحدة الشعب الفلسطيني ومن الفلسطينيين الإسرائيليين الذين يمثلون هذا الشعب.

لكن السياسة الإسرائيلية الرسمية لا تتحرك في هذا الاتجاه، وتستمر في مصادرة أملاك عدد كبير من الفلسطينيين. لقد سبق وأن قلت إنك تخشى من أن يؤدي ذلك إلى حدوث نكبة ثانية وتشريد ثانٍ لعدد كبير من الشعب الفلسطيني. هل تعتقد أن هذا خطر حقيقي؟

عُمري بوم :هناك العديد من الأصوات في أوساط الحكومة الاسرائيلية التي تدعو إلى تهجير الفلسطينيين علانية كحلٍ نهائي للقضية الفلسطينية. هذا ليس الموقف الرسمي للحكومة بالطبع، لكن الحديث جارٍ عن هذا الموضوع. ما هو أسوأ من ذلك، هو أن وزير الخارجية والدفاع السابق المعارض أفيغدور ليبرمان، الذي يُعتَبَر الآن البديل الوسطي الأكثر منطقية لنتنياهو والأمل الكبير للوسط المعتدل، يَدعَم سياسة تهجير عرب إسرائيل. ورغم أنه لا يتحدث عن ذلك كثيراً حالياً لرغبته في الحصول على أصوات الوسط، لكن لا يمكننا تجاهل حقيقة مناقشة هذا الخيار اليوم في قلب السياسة الإسرائيلية. وهذا أمر منطقي أيضاً، فكما هو الوَضع اليوم، تبدو هذه استراتيجية معقولة. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يمنع هذه النتيجة هو “جمهورية حيفا”.

كما تقول، يجب أن يتمتع كل من الفلسطينيين واليهود (والنساء اليهوديات؟) بأكبر قدر ممكن من تقرير المصير في”جمهورية حيفا”، لكنالجمهوريتين المُتَمَتِّعَتَين بالحُكم الذاتي يجب أن تتحدا في دولة مشتركة. هذا سيتطلب أيضاً سياسة أمنية مشتركة وجيشاً مُشتركاً. كيف من المفترض أن يعمل ذلك ؟

عُمري بوم: سوف تكون هناك حاجة إلى جيش مُشتَرَك في الواقع. لكن هذه المسألة لَنْ تكون أكثر المجالات إشكالية حتى. الجيوش عبارة عن هياكل هَرَمية، ويَجب إطاعة الأوامر فيها من الناحية النظرية على الأقل. لقد كان التعاون بين إسرائيل والسلطة الوطنية في القضايا الأمنية وثيقاً نسبياً منذ سنوات. كما تَمّ تسيير دوريات حدودية مُشتركة من قِبَل جنود إسرائيليين وضباط شرطة فلسطينيين تحت إشراف هيئات مُختلطة. هذه أشياء يُمكن تنظيمها. المسائل الأكثر إثارة للجَدَل سوف تبرز عند صياغة ديمقراطية ثنائية القومية.

ما هي هذه المسائل؟

عُمري بوم: الإسرائيليون أغنياء بينما الفلسطينيون فقراء. كيف يُمكن مَنع اليهود من شراء الأراضي الفلسطينية بكل بساطة؟ في المقابل، يُشكِّل الفلسطينيون الأغلبية من حيث العدد. وبالتالي، فإن المخاوف اليهودية من أن الأغلبية قد تفوقهم وتُفقِدهم حقهم في تقرير المصير له ما يبرره. بالتالي، سيكون من المُهم وضع دستور قادرٍ على تَحييد مثل هذه المخاطر. ويُمكن على سبيل المثال أيضاً إنشاء هيئة انتخابيةرابط خارجي (أو مُجمَّع أنتخابي) من شأنها ضمان عدم إمكانية تقويض تقرير المصير اليهودي على الرغم من وضع اليهود كأقلّية. – رغم أن هيئة كهذه لا تحظى بهيبة كبيرة في الوقت الحالي بسبب التطورات الديمقراطية الأخيرة في الولايات المتحدة.

هل لديك نموذج ملموس لمثل هذا الدستور؟

عُمري بوم: كلا. إن اقتراحاتي غير دقيقة بعض الشيء. قيل لي إنها غير ناضجة – وهذا صحيح في الواقع. مع ذلك، فإن الهدف منها هو خَلق رؤية جديدة للصهيونية. يتعلق الأمر بإظهار الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه الجهود وكيف ينبغي أن تتطور، وليس بمفهومٍ جاهز الاستخدام. يجب ألا ننسى كيف انطلقت عملية أوسلو.

وكيف كان ذلك؟

عُمري بوم: في البداية لَمْ يكن هناك سوى عددٌ قليل من المُثقفين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين اختلقوا مشروعاً اعتُبِر غير واقعي على الإطلاق حينذاك. وفي الفيلم الوثائقي “يوميات أوسلورابط خارجي“، وَصف مسؤولٌ كبيرٌ في وزارة الخارجية الإسرائيلية الانطباع الذي تكوّن لديه عندما عُرِضَت عليه خطة الدولتين لأول مرة. وحسب كلماته، كان هؤلاء مُجَرَّد عدد قليل من المثقفين الذين كانوا يرددون أغنية Imagine (تخيّل) لـلمغني الراحل جون لينون، ويوزعون مفاهيم نصف مَخبوزة. مع ذلك، فَتَحَت هذه المفاهيم نِصف المخبوزة فصَلاً جديداً في سياسة الشرق الأوسط.

لكن كانت هناك أيضاً أسباب جيوستراتيجية جذريةفي ذلك الوقت، مثل نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج الأولى. كان الوقت مناسباً لذلك.

عُمري بوم: هذا صحيح. لكننا نجد أنفسنا الآن في مرحلة ثورة من جديد. أنظر إلى صفحات الرأي في صحيفة الــ “نيويورك تايمز” مثلاً، خاصة ما نُشِر هناك في الأسابيع الثلاثة الماضية، منذ بداية النزاع المسلح الأخير. اليهود الليبراليون الأمريكيون باتوا يُدركون أن حل الدولتين قد مات. لنأخذ أيضاً المقال الجديد لـ بيتر بينارترابط خارجي، أحد المُثقَفين المؤثرين في نيويورك، الذي كان أهَمَّ مؤيّد أمريكي لِحَلّ الدولتين على مدى السنوات العشر الماضية. إنه يدافع الآن بوضوح عن حَلّ الدولة الواحدة. هناك تغيير هائل في النقاش الدائر في المؤسسة الصهيونية الأمريكية الليبرالية. وعاجلاً أم آجلاً، سيكون لهذا تأثير على وضع الحزب الديمقراطي وعلى إدارة بايدن أيضاً. لقد أصبحت الدلائل الأولى على إعادة توجيه الدبلوماسية الأمريكية ملموسة بالفعل.

هل يمكنك توضيح ذلك؟

عُمري بوم: في يوم 25 مايو، عَقَدَ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مؤتمراً صحفياًرابط خارجي في القدس مع بنيامين نتنياهو. إن مَنْ يَستَمع بِعناية، سوف يلاحظ على الفور أن لهجة جديدة تسود في الخطاب الأمريكي. لقد تحدث بلينكن بقوة، وبطريقة غير مَعهودة عن المساواة بين اليهود والفلسطينيين، وعن حقيقة أن لِكِلا الشعبين نَفس الحقوق ونَفس الاحتياجات الأمنية. كما أن بلينكن لَم يُشِر إلى حَل الدولتينّ على الإطلاق.

عندما ننظر إلى الدبلوماسية الدولية المحيطة بإسرائيل، نَجِد شيئاً آخر مُلفتاً للنظر للغاية، ألا وهو تَلَقي الحكومة الإسرائيلية للكثير من الدَعم من الشعبويين اليَمينيين في عدة دول. كان هذا واضحاً في عهد ترامب، كما نلاحظه بالنسبة لفيكتور أوربان (المجر) أو ماتيو سالفيني (إيطاليا). وفي سويسرا، يأتي الدَعم الأقوى وغير المشروط لحكومة نتنياهو من حزب الشعب الشعب السويسري (يمين محافظ).

عُمري بوم: كان هذا النمط واضحاً بشكل خاص في حالة ترامب. ان نتانياهو لا يتواطأ مع الأحزاب اليمينية الشعبوية فحسب، ولكن مع الأطراف الدولية المُعادية للسامية أيضاً. لا أعرف ما إذا كان ترامب نفسه مُعادياً للسامية، ولكن لا شك في أنه يتواصل مع جمهور مُعادٍ للسامية، ويُضفي الشرعية على مُعاداة السامية. أوربان هو الآخر مُعادٍ شديد للسامية وصديق حميم لإسرائيل. إذا استمرت هذه السياسة على هذا النحو، فإنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن يُصبح حزب البديل من أجل الديمقراطية الألماني [وهو حزب سياسي يميني متطرف] أحد أفضل أصدقاء إسرائيل ويتم استقباله في نصب ياد فاشيم التذكاري [في مدينة القدس].

ما هو سبب هذا التحالف الغريب؟

عُمري بوم: تدافع الحكومة الإسرائيلية اليوم عن القومية العرقية (أو الإثنية). أمّا في أوروبا، فقد َنزَعَتْ الفاشية الشرَعية عن القومية العِرقية لأسباب وجيهة للغاية. لكن، وفي نفس الوقت، لا يزال هناك إجماع على أن كَون المرء مُعادياً للصهيونية يعني أنه عنصري ومُعادٍ للسامية. هذا يُوَلِّد تناقضات أيديولوجية مُنافية للعقل، ترى أن الصهيونية طالما تقوم على أسس القومية العرقية، وأن المناهضين للصهاينة فقط هم الذين يَحرمون اليهود من الحق في أن يكونوا قوميين عرقيين، فلا يستطيع سوى القوميين العرقيين فقط اتخاذ موقف ثابت تجاه إسرائيل. وهؤلاء يُصبحون أفضل أصدقائها في الواقع. من ناحية أخرى، تَتَعَرَّض الأحزاب الأوروبية الليبرالية، التي لا تتفق مع سياسة إسرائيل، للإشتباه المَستمر بِكَونها مُعادية للسامية. وبالتالي، أصبح التعاون مع إسرائيل السبيل الأمثل لإضفاء الشرعية على القومية العِرقية في أوروبا أيضاً، وهو يَحمي في نفس الوقت الأحزاب اليمينية الشعبوية المُعادية للسامية جزئياً من الاتهامات بمُعاداة السامية.

وهذا يتجلى أيضاً في التسييس المتزايد للذاكرة؟

عُمري بوم: إنه يظهر عندما يقوم كل هؤلاء القوميين الأوروبيين بالحَج إلى نصب ياد فاشيم التذكاري لضحايا المحرقة، حيث يتم استقبالهم كضيوف على دولة إسرائيل. اليوم تتم تعبئة الذاكرة لإضفاء الشرعية على القومية العِرقية. هذا يبدو سخيفاً وصادماً. إن إحياء ذكرى الهولوكوست (المحرقة) أهم بكثير بالنسبة لنا من الوقوف موقف المتفرجين بينما يتبناها الشعبويون والعنصريون دون أي تَدَخُل. لكن هذا التطور حاسم، حيث يتحدث الشعبويون اليمينيون الأوروبيون والأمريكيون واليمين الإسرائيلي نفس اللغة، ويتبادلون نفس الرأي.

كيف يجب على القوى الموالية للصهيونية لكن الليبرالية في أوروبا والولايات المتحدة أن تتموضع الآن؟

عُمري بوم: لقد اخطأت هذا الأحزاب لفترة طويلة في اعتقادي. كانت تتجنب، ولأسباب مُشَرِّفة، انتقاد إسرائيل لِرغبتها في أن تكون دولة يهودية – وبالتالي ديمقراطية عرقية وطنية. لقد كيَّفوا أنفسَهم مع وَضعٍ مُتناقض، حيث دافعوا عن المبادئ الليبرالية من ناحية، ومنحوا إسرائيل مَكانة استثنائية من ناحية أخرى. لقد انهار هذا التناقض الآن بالتأكيد، ولم يَعُد تبريره  مُمكناً. وبرأيي، فإن الخطاب الليبرالي سوف يتغيّر الآن بسبب ذلك.

إلى أي مدى؟

عُمري بوم: عليه أن يدافع عن شَكلٍ آخر من أشكال الصهيونية. على سبيل المثال، لا أعتقد أن الديمقراطيين الأمريكيين سيستمرون في دَعم إسرائيل دون تَحَفُّظ في المُستقبل. سيُطالبون الصهيونية باحترام المبادئ الليبرالية، وربما تكون هذه فرصة لإسرائيل.

فيلسوف وأستاذ جامعي ألماني – إسرائيلي، ولد بمدينة حيفا في عام 1979، ونشأ في قريةٍ بمنطقة الجليل. هو حفيد لِناجين من المحرقة، وأدى خدمته العسكرية مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شاباك).

درس الفلسفة في تل أبيب وحصل على الدكتوراه في جامعة ييل الأمريكية عن أطروحتة عن الفيلسوفين كانط وسبينوزا. يعمل اليوم كأستاذ للفلسفة في المعهد الجديد للبحوث الاجتماعية في نيويورك.

في كتابه الصادر في شهر يونيو 2020 بالألمانية تحت عنوان “إسرائيل – دولة فاضلة” (باللغة الألمانية Israel – eine Utopie ) أو “مُستقبل لإسرائيل” باللغة الإنجليزية يطرح فكرة “جمهورية حيفا” المَبنية على المبادئ الفدرالية والمُستندة إلى اقتراح طرحه مناحيم بيغِن في عام 1977.

* نُشر هذا المقال لأوّل مرة في مجلة “ريبوبليك”رابط خارجي السويسرية الناطقة بالألمانية يوم 29 مايو 2021

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية